عبد الحسين عبد الرضا .. البرج الرابع (2)

عبد الحسين عبد الرضا .. البرج الرابع    (2)

العدد 616 صدر بتاريخ 17يونيو2019

نحو تكويت المسرح
الموقف الكوميدي الذي تحدثنا عنه في المقالة السابقة، والمتعلق بدور عبد الحسين عبد الرضا في مسرحية (صقر قريش)، سواء كان مقصودا - لأن عبد الحسين في أحد البرامج التلفزيوني، قال: «إن هذا الموقف كان أحد مقالب نجم عبد الكريم» - أو حدث صدفة، كان الشرارة الأولى لبداية ظهور عبد الحسين عبد الرضا في ثوب الفنان المسرحي الكوميدي، وهو الأمر الذي رحب به أغلب أعضاء الفرقة، ورغبوا في التمثيل باللهجة العامية؛ وهو أمر لا يستطيعون مناقشته مع زكي طليمات؛ لذلك أبلغوا حمد الرجيب برغبتهم هذه من أجل نقلها إلى طليمات. وبالفعل طلب الرجيب من طليمات تجربتهم في مسرحية عامية، فاختار لهم طليمات مسرحية «عمارة المعلم كندوز» لتوفيق الحكيم، وهي بالعامية المصرية. وحضر الرجيب إحدى البروفات؛ وضحك كثيرا عندما سمع عبد الحسين وعبد الرحمن الضويحي، وهما يتحدثان باللهجة المصرية بصورة مضحكة، فاقتنع بأن العامية المصرية غير مناسبة لهما، ومن الأفضل أن يمثلوا باللهجة الكويتية. وهذا الأمر تقبله طليمات من الرجيب، ووعده بالسعي في تنفيذه.. هكذا أخبرنا عبد الحسين عبد الرضا في أحد لقاءاته التلفزيونية.
والجدير بالذكر إن مسرحية (عمارة المعلم كندوز) – لتوفيق الحكيم – تم عرضها لأول مرة يوم 19/ 6/ 1962 في الاحتفال بالعيد الوطني على مسرح سينما الأندلس. ونشرت جريدة «صوت الخليج» خبرا، يؤكد ما ذكره عبد الحسين عبد الرضا – سابقا - قائلة: «مسرحية المعلم كندوز التي قدمها المسرح العربي كانت مسرحية (مرقعة)؛ ذلك أن بطل الرواية ومن كان معه استعملوا كل اللهجات العربية في الحوار».
بعد هذا العرض المسرحي العامي في لهجته، بدأ زكي طليمات في تنفيذ خطته في تكويت المسرح، بأن أعلن عن قائمة أسماء مرشحة لاحتراف التمثيل، وقام بنقل أصحابها - من أعضاء فرقة المسرح العربي - من وظائفهم في وزاراتهم المختلفة إلى وظائف مماثلة في دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل – التي تتبعها فرقة المسرح العربي – وبذلك تم نقل عبد الحسين عبد الرضا من وظيفته في وزارة الأنباء والإرشاد إلى دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل.
بعد النقل والاحتراف، قدمت الفرقة ابتداء من يوم الثلاثاء الموافق 19/ 2/ 1963، ثلاث مسرحيات في ليلة واحدة، هي: (المنقذة) لمحمود تيمور، و(فاتها القطار) لتوفيق الحكيم، و(استأرثوني وأنا حي) لسعد الفرج. وقام بإخراج المسرحيات الثلاث زكي طليمات – ولم يقم بالاشتراك في التمثيل – ووزّع أدوار المسرحيات الثلاث على أعضاء الفرقة؛ بحيث يقوم كل عضو بتمثيل شخصية أو شخصيتين في مسرحية أو مسرحيتين – كما هي عادة زكي طليمات - وكان نصيب عبد الحسين القيام بدور الشخصية التاريخية (برسباي) في مسرحية المنقذة، وشخصية (الأب) في مسرحية استأرثوني وأنا حي.
بدأ عبد الحسين عبد الرضا يشعر بملكاته الكوميدية التمثيلية في مسرحية (المنقذة)؛ لأنها تدور في جو تاريخي يُعالج نفسيا معنى الحديث النبوي الشريف: «اتق شر من أحسنت إليه»، حيث عالج المؤلف - محمود تيمور - هذه الحالة النفسية مسرحيا، وبصورة كوميدية من خلال الإطار التاريخي في عصر المماليك في مصر، من خلال الصراع على السلطة بين المملوك برسباي وداود بك. هذا الشعور بملكة الكوميديا، تأكد لدى عبد الحسين – في اليوم نفسه – عندما مثّل مسرحيته الثانية «استأرثوني وأنا حي»، التي قال عنها زكي طليمات في برنامجها المطبوع: «كم بها من التفاتات طريفة، تبرز وسط إطار من الفكاهة!!........ إلى غير ذلك من الخواطر التي تمر بخاطرك وأنت تشاهد هذه المسرحية والابتسامة لا تفارق شفتيك، والأمل يداعبك في أن يكون قريبا اليوم الذي تشق فيه المسرحية الكويتية طريقها لتصبح مرآة صادقة للمجتمع الكويتي في مشكلاته وفي نماذجه البشرية، وفيما يحلم به لمستقبل زاهر».
هذا الكلام يؤكد بأن زكي طليمات اقتنع بأن الكويت: كما تحتاج إلى مسرحيات جادة ناطقة بالفصحى، فهي تحتاج أيضا إلى كوميديا بلهجة محلية! وكما تحتاج الكويت إلى مسرحيات تاريخية بها قادة وأمجاد عروبية، فهي تحتاج كذلك إلى مسرحيات اجتماعية بها نماذج بشرية كويتية!! وهذا الاقتناع كتبه زكي طليمات بصورة رسمية في وثيقة؛ عبارة عن مذكرة رفعها طليمات إلى وكيل الوزارة، بها اقتراحات تستهدف تنمية النشاط المسرحي، وفيها يقول عن فرقة المسرح العربي:
«أرى ألا يقتصر ما تقدمه الفرقة على المسرحيات التاريخية المكتوبة باللسان الفصيح، بل تقدم أيضا المسرحيات التي تعالج شؤون الحاضر في قيمه الإنسانية العامة، وفي مشكلات المجتمع العربي - والكويت من المجتمع العربي - على أن تكون مكتوبة باللهجة الكويتية.. وأن يراعى في اختيارها الخفة في المعالجة والمنهج، والنزعة إلى الفكاهة من غير افتعال، ومن غير أن تسف إلى تملق الجانب الهابط في الجمهور. ومن المعلوم أن القيمة الأساسية للمسرحية ليست في أسلوبها البياني، وإنما في صحة معالجتها وخضوعها لشروط الفن الرفيع..... وبهذا تحقق فرقة (المسرح العربي) هدفين في وقت واحد وهما: إعلاء البيان الفصيح مع إحياء صفحات من مفاخر التاريخ العربي، ثم رعاية الحاضر في قيمه ومشكلاته.. فلا يكون هناك تعالٍ ولا إسفاف».
هذا المُقترح - الذي كتبه زكي طليمات - آمن به عبد الحسين عبد الرضا، واتخذه منهجا في طريقه الفني؛ بحيث التزم – قدر المُستطاع - بالموضوعات الكوميدية، التي تعالج المشكلات الاجتماعية المحلية، وفي ذلك يقول عبد الحسين عبد الرضا في مجلة عالم الفن عام 1984: «تتلمذت على يد أستاذي الكبير زكي طليمات.. فتعلمت منه فن الإلقاء والوقفة المسرحية والتضارب في الكلام.. فالفضل كله يرجع للأستاذ زكي طليمات».
أول تطبيق عملي - لالتزام عبد الحسين بمبدأه الفني الجديد – كان عدم اشتراكه في تمثيل المسرحية التاريخية – فصيحة اللغة – «مضحك الخليفة أبو دلامة»!! وسواء عدم اشتراكه؛ كان بسبب ظروف خارجة عن إرادته، أو بإرادته الحرة؛ فإن التاريخ يقول إنه لم يشترك في تمثيلها، بعد مُقترح طليمات بتكويت المسرح!! وهذا الالتزام من قبل عبد الحسين، طبقه بصورة تقريبية - بالنسبة للمسرحيات التاريخية – عندما جسد شخصية ابن جبير – بوصفها شخصية هامشية ذات دور صغير - في المسرحية التاريخية «أنا.. ابن جلا»، التي دارت أحداثها حول شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي المعروف بابن جلا، والذي لعب دورا كبيرا في التاريخ العربي؛ بوصفه مؤسس أركان حكم الأمويين في الحجاز والعراق، والذي جعل جيوش المسلمين تصل إلى الصين.
كل ما سبق، كان تمهيدا طبيعيا لظهور أول بطولة مسرحية للفنان عبد الحسين عبد الرضا؛ بوصفه ممثلا مسرحيا كوميديا؛ وذلك في شخصية صالح في مسرحية «آدم وحواء»، التي اقتبسها فتوح نشاطي، وأخرجها زكي طليمات، وعُرضت لأول مرة – مع مسرحية (الكنز) - يوم 4/ 4/ 1964 على مسرح كيفان، وقام بتمثيلها: عبد الرحمن الضويحي، أسمهان توفيق، جوهر سالم، سهاد صبري، يوسف الخطيب، عيسى فهد الغانم، كاظم حمد علي، على ناصر البريكي.
هذه المسرحية، كانت البداية العملية لفكرة تكويت المسرح، كما أرادها زكي طليمات؛ حيث إنها أول مسرحية كوميدية – ذات موضوع اجتماعي - يقوم بإخراجها زكي طليمات لفرقة المسرح العربي! وكانت الانطلاقة الأولى لظهور عبد الحسين عبد الرضا؛ بوصفه ممثلا مسرحيا كوميديا، استطاع أن يستغل فرصته أفضل استغلال؛ كما أخبرنا بذلك الناقد محمد الإمام – في جريدة أخبار الكويت عام 1964 - قائلا:
«مع اعترافي بالمجهود الذي قام به عبد الرحمن الضويحي في دور راسخ، إلا أني إحقاقا للحق أقول إن عبد الحسين عبد الرضا ابتلع المواقف ابتلاعا، ولم يدخل في ثوبه إلا في اللحظات التي وقفها أمام سهاد صبري. لقد شاهدنا عبد الرحمن الضويحي في أدوار تفوّق فيها على نفسه كدوره في مسرحية مضحك الملك؛ ولكن دور عبد الحسين عبد الرضا في آدم وحواء، كان بالنسبة له ولمواهبه كممثل فرصة ذهبية استطاع الفنان الماكر أن يستغلها أوسع استغلال. لم يكن صراعا بين الضويحي وعبد الرضا بالمعنى المفهوم؛ لأن الضويحي التزم الأسلوب العادي للشخصية المرنة، بينما شاء حظ عبد الحسين أن يقوم بدور كراكتر فأجاد حقا في المستوى العام. وفي اعتقادي أنه ألهم المخرج إلى حقيقته الفنية بحيث يستطيع في المسرحيات القادمة أن يعهد إليه بهذا اللون الذي أجاد فيه».
وصالح – الذي قام بدوره عبد الحسين عبد الرضا في مسرحية آدم وحواء – هو شقيق زوجة تهمل زوجها، وواجباتها الزوجية، وتجعل الزوج يقع في غرام مربية ابنه! تلك المربية اللعوب، التي توقع كل الرجال في حبائلها. فبعد أن أوقعت الزوج، أوقعت ابن الجيران أيضا. حتى المارة في الطريق لم يسلموا من براثنها! فيتطوع صالح – الرجل الملتزم دينيا، ذو اللحية الكثة – بأن يخلص صهره من هذه الفتاة؛ وعندما يحاول ذلك يفشل؛ لأن المربية استخدمت سلاح أنوثتها، وانتصرت عليه؛ لدرجة أنه طلب الزواج منها، فتوافق شريطة أن يحلق لحيته!! فيوافق صالح على ذلك، وتقوم هي بنفسها بحلق لحيته... إلخ المواقف الكوميدية، وما نتج عنها من سوء فهم!!
أول بعثة استكشافية
وفقا لخطة تكويت المسرح، أراد زكي طليمات – بدعم كبير من حمد الرجيب وكيل الوزارة – أن يصبح المسرح الكويتي، كويتيا في القائمين عليه، وفي العاملين فيه؛ وذلك بإيفاد بعض المتفوقين من المسرحيين الكويتيين إلى المؤسسات الفنية بالقاهرة لمدة شهرين في بعثة تعليمية استكشافية. وقد تم إيفاد البعثة بالفعل في منتصف يوليو، وظلت حتى منتصف سبتمبر  1964، وتكونت من: عبد الحسين عبد الرضا، خالد النفيسي، عبد الرحمن الضويحي، عبد الله خريبط، جعفر المؤمن، حسين الصالح، صقر الرشود، سالم الفقعان، مريم الصالح، مريم الغضبان.
والجدير بالذكر إن زكي طليمات – المشرف على البعثة – حدد لكل فرد مهمته التعليمية والفنية، فكان البرنامج التعليمي لعبد الحسين عبد الرضا، متمثلا في: الالتحاق بالمسرح القومي، وبعض فرق التلفزيون لحضور التدريبات ومدارسة الشروح والنظريات. كذلك مشاهدة وسماع الشروح والنظريات للحفلات التمثيلية التي تقدمها فرق المؤسسة العامة لفنون المسرح والموسيقى وكذلك فرق التلفزيون. هذا بالإضافة إلى تتبع الدراسة الصيفية، التي ستعقد في معهد الفنون المسرحية.
وقد نقل لنا محمد سعد ناقد مجلة (الإذاعة والتلفزيون) المصرية عام 1964، جزءا من حواره مع عبد الحسين عبد الرضا – الذي ذكر اسمه خطا (عبده الحسيني) - قائلا على لسانه: «لفت نظر الفنان عبده الحسيني.. البساطة القوية التي يؤدي بها الفنان المصري دوره واندماجه في هذا الدور.. وبوصفه القائم على فرقة المسرح العربي التي أسسها زكي طليمات، يرجو أن يسمح المسئولون باشتراك الفرق الكويتية مع الفرق القاهرية في بعض الأدوار الفنية؛ توثيقا للصلات والروابط الفنية بين البلدين الشقيقين».
إشهار الفرقة أهلية
نجح زكي طليمات في وضع بذور تكويت المسرح، ولم يبق إلا الحصاد؛ الذي تم يوم 21/ 6/ 1964، عندما رفع عبد الحسين عبد الرضا – مع الأعضاء المؤسسين لفرقة المسرح العربي؛ بوصفها فرقة أهلية - خطابا إلى وكيل وزارة الداخلية، قالوا فيه: «.. نتشرف بأن نتقدم نحن الموقعين أدناه المؤسسين لفرقة المسرح العربي بطلب التصريح لنا بإعلان إشهار فرقة المسرح العربي، كفرقة أهلية. ونأمل من العلي القدير أن يحقق خطانا بما فيه رفع شأن الفن المسرحي».
وبالفعل أصبحت فرقة المسرح العربي فرقة أهلية؛ منذ صدور قرار إشهارها، والذي ينص على: «تشهر وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل قيام فرقة المسرح العربي بمدينة الكويت المسجل تحت رقم 30 أندية وجمعيات نفع عام بتاريخ 15/ 7/ 1964 لمدة غير محدودة لتحقيق الأغراض الآتية: تقديم مسرحيات جيدة تقديما يراعى في إخراجها وفي أدائها التمسك بالقيم الفنية التي تعمل على تصحيح مفاهيم المسرح وإحياء تقاليد سليمة له. وتشجيع المسرحيات التي تنبع من البيئة الكويتية وتعالج مشكلاتها وتعمل على توجيه الرأي العام التوجيه المرغوب فيه. وتقديم مسرحيات باللسان العربي تتناول صفحات من التاريخ العربي - كما تعالج بعضها الآخر القيم الإنسانية والأوضاع الاجتماعية التي تكاد تكون واحدة في جوهرها وذلك في جميع الأقطار العربية. وإقامة محاضرات وندوات في فنون المسرح وآدابه وإصدار نشرات فنية. وقد قام بتأسيس هذا المسرح السادة: سعد مبارك الفرج، خالد النفيسي، عبد الحسين عبد الرضا، غانم صالح الغانم، حسين الصالح، عبد الرحمن الضويحي، عبد الوهاب سلطان، عدنان حسين، حسن يعقوب العلي، جعفر مراد المؤمن. ويتكون مجلس الإدارة من سبعة أعضاء وتبدأ السنة المالية للفرقة من أول يوليو وتنتهي في آخر يونيو من كل عام وتجتمع الجمعية العامة العادية مرتين في السنة. وبهذا الإشهار اكتسب المسرح الشخصية الاعتبارية من تاريخه».
وتشكلت في الفرقة لجنة للتوجيه والتنسيق، كان من نتيجة دراساتها أن يتوجه المسرح إلى العناية بالنص المحلي واللهجة المحلية، أي تكويت المسرح كما أراده زكي طليمات؛ مما فتح باب النجومية على مصراعيه للفنان عبد الحسين عبد الرضا؛ بوصفه كاتبا وممثلا مسرحيا كوميديا في مسرحيته الشهيرة «اغنم زمانك»، التي تُعد أول مسرحية يكتبها عبد الحسين عبد الرضا.

 


سيد علي إسماعيل