العدد 856 صدر بتاريخ 22يناير2024
في مقالها «النظر بدون قلم في اليد» اقترحت الدراماتورج البلجيكية ماريان فان كيركهوفن أنه لا توجد قوانين ثابتة للسلوك أو المهام التي يمكن تحديدها بالكامل بالنسبة للدراماتوج (المعد الدرامي). فكل عرض مسرحي يشكل منهجه في العمل. ولكنها تستمر قائلة: هناك شيء بديهي واحد هو أن الدراماتورج يتعامل مع تحويل المشاعر إلى معرفة والعكس صحيح. وبالمثل شعرت الدراماتورج هايدي جيلبرن التي عملت مع فرقة ويليام فورسيث أنها ساعدت في نقل الأفكار، وحاولت أن تخلق أرضية مع مصمم الرقصات.. حيث يمكن أن تتفاعل الهواجس. وفي هذا النداء من أجل إعادة التقييم النقدي للدراماتورجيا، يتحدث بيتر هاي عن الدراماتورجيا باعتبارها عملية لإضفاء المعنى على كل من العرض المسرحي والجمهور. إذ تُرى الدراماتورجيا باعتبارها منطقة الغروب بين الفن والعلم، ولكنها لا تزال مرتبطة أساسا بالوظيفة الإدراكية للمخ والفهم والفطرة السليمة.
· النظرية مقابل التطبيق:
على الرغم من أن وظيفة الدراماتورج هي سد الفجوة بين النظرية والتطبيق، إلا أن البنية المزدوجة تظل هي أساس هذا النموذج المزدوج. إذ تتجاور كلاً من النظرية والتطبيق، ولا ينبغي الخلط بينهما، ينبغي أن يظلا منفصلين بوضوح. ولكن لماذا الاستمرار في الفصل بين النظرية والتطبيق في السياق الدراماتورجي عندما تشهد العروض الحديثة على حقيقة أن الدراماتورج ليس دخيلا نظريا بالضرورة؟ فربما يمكن أن نعتبره عضوا في الأسرة الفنية أيضا. فمثلا في عرض “غرفة إيزابيلا” لفرقة نيدزكومباني يشارك الدراماتورج إيليك يانسين على خشبة المسرح مثل المؤدين الآخرين. ومثل كثير من المؤدين، ظلت على خشبة المسرح أثناء الأداء الذي لا يكاد يوجد فيه دخول أو خروج. وتجلس هناك خلف الكمبيوتر تقدم العناوين الفرعية للحدث، وأحيانا تلتقط كمانها لمصاحبة غناء المؤدين وتستدعيه. وقد وصف يان لويرز مجموعته بأنهم رواد الترفيه، وهذا يعني جميع أعضاء الفرقة، بما في ذلك الدراماتورج. ولهذا السبب يمكن مقارنة فرقة نيدكومباني بمصنع أندي وارل، نوع من الأسرة الواحدة، حيث تكون عملية الإبداع الفني جماعية فضلا عن أنها فردية. “فأعضاء الفرقة لا يتواجدون حولي، بل أنا من يتواجد حولهم” هكذا يستشهد لويرز بعبارة وارل بوضوح.
وفي عرض “على الطاولة Auf den Tisch” دعت ميج ستيوارت الجمهور والمؤدين للجلوس حول طاولة ضخمة، و:انه مؤتمرز . والطاولة هي منصة التمثيل والارتجال للممثلين والراقصين والموسيقيين، في شكل يربط الفعل برد الفعل. إذ لا يوجد أي تشابه مع ترتيبات المسرح الكلاسيكي. ولا يلزم المؤدون والراقصون أنفسهم بمناطق الأداء. ويجلسون على مقاعدهم حول الطاولة في ترقب للأداء الذي ينتظرهم. ومن بينهم مريم ايمشوت، دراماتورج الفرقة. وتؤدي بطريقتها من خلال الارتجال وبالتالي تتحرك فيما وراء ما يسمي “الممارسة في مقابل النظرية”. ولا تسميها نشرة العرض “شخصية الدراماتورج”. إذ تُسمى مؤديا بجوار بوريس شارماتس، وايفاسدروبر، وايميل فارتن، وفيرا مانتيرو، ومارتن ناشبار، ايرينا أومارزدوتر، وكريزا بركنسون، وهان رو، وهومان شاريفي، وبو فيجيت، وميج ستيوارت.
علاوة على ذلك، لماذا لا ينتمي الممثلون والراقصون والمؤدون إلى السياق الدراماتورجي؟. يطلق جان لويرز اسم المختبر المفتوح على “مختبر نيدلاب” معلنا عن غرفة الأعمال الذهنية الخاصة وبه وبفرقته. وهذا يوحي بأن العملية الإبداعية المعينة، التي يمكن تعريفها بأنها عدد محدد من الأفراد يتجمعون حول المواد التي يقدمها ايان لويرز، تستتبع مسئولية فكرية مشتركة. ويتم وضع مجموعة متنوعة من المعرفة على المحك في العملية الإبداعية. فتقسيم العمل يتغير باستمرار لأن العلاقة بين المجموعة والفرد – كما هو الحال في مصنع وارول – في حركة مستمرة.
ويان لويرز ليس الوحيد الذي يعمل بهذه الطريقة. فان يان يوريس لامار مخرج المسرح الألماني في مسرح ماتشوبي ديسكورديا، يسمي ممثليه “علماء” في نوع معين من بناء الورش الفنية. ويرى أن الدراماتورجيا كسياق مسرحي، وليس شكلا، وبالتالي يسميها “الاستمرارية”، الحوار المستمر بين الفنانين. ويقول الدراماتورج هيلدجارد فويست إن المسئولية الفكرية للعمل مشتركة مع المجموعة. ولم يتخصص لموقفي ووظيفتي كدراماتورج .
أشارت مريم امشوت في ملاحظاتها إلى أنه على مدار التاريخ «انفصلت الدراماتورجيا عن جسم الفنان وتحولت إلى عين خارجية . وفي عرض “على الطاولة” أزيلت الحدود الإبداعية بين ما هو خارج الأداء وما هو داخله. ويشارك حوار المؤدين حول العملية الإبداعية في الحوار مع الجمهور. ويتفاعل الجمهور مع المؤدين ويشاركون في الأداء. وبالإجابة على الأسئلة أو البقاء صامتين، يشاركون في السياق الدراماتورجي، ويصبح ذلك علنيا. ولدينا سياق دراماتورجي لا يمكن تحديه بشكل حصري في شخصية الدراماتورج. وتسمي مريم ايمشوت ذلك «الدراماتورجيا في لحظة الأداء، إذ لا يوجد وقت للخروج أو الإزالة أو طلب نصيحة أو الحصول على رأي آخر. فالعين الخارجية – المنسوبة بشكل تقليدي لنموذج الدراماتورج – تفرع الأشكال وتغيرها بين المؤدين، ومصممي الرقصات، والدراماتورج والجمهور. ونتيجة لذلك تتم تعمية وظيفتهم. ولاسيما أن الشيء المثير هو ما يسمي “الانعكاسات المتعدية transgressive reversals”: اللحظة التي نترك فيها مهارة معينة أو مجال اختصاص لكي نلتقي في منتصف الطريق بين المجالات المختلفة. ولقد استمتعت بمحاكاة مارتن نيشبار لرقص لوي فوللر في عرض “على الطاولة “ لميج ستيوارت، والذي قدم فيه خطواته بهوامش نظرية. وفي هذا اللقاء العجيب، وهذه الانعكاسات المتعدية تشير إلى وضع الدراماتورج المعاصر. وفي الثمانينيات من القرن العشرين كانت هناك تعمية لفروع العلم، وفي القرن الحادي والعشرين هناك تعمية للوظائف.
· النظرة والجسم
يؤكد التعارض بين الممارسين والمنظرين التمييز الفلسفي بين الجسم والعقل، وبين الفعل والفكر، وبين الرأس – بحاستها المميزة، وهي العين - وشدة الحواس الأخرى. صحيح أن وظيفة الدراماتورج قد تغيرت – نظرا لأن مكانة النص المكتوب مسبقا باعتباره المصدر الأساسي للمسرح قد أفسحت الطريق للارتجال ووسائل التشكيل المسرحي الأخرى والإبداع. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن المكانة المميزة للعين – الشريكة في جريمة التفكير الإدراكي – قد انتهت. فقد صاغ نوت أوف أرنتسن عبارة «الدراماتورجيا البصرية للإشارة إلى الوظيفة المتغيرة في شكل الدراماتورج، باعتباره التعدد الثري للطرق البصرية في التعامل مع النص الذي تطور. ولا تزال هذه الدراماتورجيا البصرية نموذجية. فدلالة شكل الدراماتورج باعتباره عينا خارجية واضحة جدا في هذا الصدد، وأود أن أجادل لتجاوز هذا النموذج الديكارتي، الذي يفصل العقل عن الجسم ويساوي العقلي بالبصري.
ودعوني أوضح هذا بمثال. في عرض «ماريا دوبوريس» (بلجيكا 2003)، وهو أوبرا سينمائية ومسرحية معجزات معاصرة، يسمي واين تروب ممثليه “الشعراء الراقصين». وهم لا يرقصون على إيقاع الموسيقى، ولكن لديهم طريقة خاصة جدا في التمثيل والحركة، ولاسيما الحركة الأسلوبية، وأحيانا بالحركة البطيئة. وبتحريض من الموسيقى وموسيقية الكلمات، ومن خلال شدة أصواتهم، تنفصل الحركات في الواقع عن مخطط الحس الحركي للفعل ذي المغزى. ولم يعد الممثلون يفهمون لكي يتحركوا ويمثلوا بشكل صحيح، تجاه هدف معين، ونتيجة أو غاية سردية. والممثل كشاعر راقص لم يعد يستوعب (المعارضين) أو يسمع (الحوارات) أو يشعر كوظيفة للمرور الخطي للشخصية التي يشخصها. فالممثلون في الواقع يظلمون الجوهر التقليدي للحركة الجسدية، أي الفعل ذا المغزى. فالحركة البطيئة والايماءات الرمزية في عرض “ماريا دولوريس” تعطل المبدأ الأرسطي الطبيعي والمحاكاتي. ويدفع المشاهدين إلى الابتعاد عن التخصيص المفاهيمي للحركة والأفعال. والمطلوب نوع جديد من الرؤية، نوع قادر على التعامل مع مناطق عدم التمييز بين المؤثر والاستجابة، وبين الفعل ورد الفعل. إذ يتم تحدي جسم المشاهد وعقله. إذ لا بد أن يتعامل مع ما يسميه دولوز “الشعور المفكك الغريب بالاستمرارية والزمن” الذي يأتي من حركات الممثلين.
مع الأخذ في الاعتبار الجاذبية المتغيرة للمشاهد في هذا العرض، فإن عين الدراماتورج الخارجية يجب أن تفسح الطريق للعقل المتجسد، حيث أن الجسم والعقل مرتبطان. ويجب أن تمتد نظرة الدراماتورج الخارجية، في هذه الحالة، إلى الجسم الخارجي، وإلى محاولة جسدية لقدرة المتفرج الجسدية أن تقرأ وتفهم الكثافة الجمالية. وفي كل حالة يجب أن نكون منفتحين على إجراءات جديدة تحرر العاطفة من الشعور الشخصي، والإدراك من التصور المشترك، والتفكير من الفطرة.
وفي ورشة دراماتورجيا الجسم Dramaturgies of the body” في مؤتمر الدراماتورجيا الأوروبية في القرن الحادي والعشرين، قالت الدراماتورج كريستين فينتس، إنه في محاولة وضع المشاعر في المعرفة، وفي محاولة التواصل مع الراقصين ومصممي الرقص، وفي محاولة التدخل في نص الحركة لمصمم الرقصات فشلت الكلمات. فالكلمات كانت غير ملائمة. واضطرت أن تتكلم بطرق مجازية بالألوان وبنية المناظر الطبيعية. وقالت دراماتورج الرقص كارمن مينرت، التي تعمل مع فرقة كونستانسا ماكراز، إنها تتحاور مع مستوى الطاقة. وربما هذه طريقة لأن يصبح ذلك خارج الجسم، الذي يعترف بأنك كدراماتورج، لا تملك اللغة؛ التي لا يمكنك أن تفهمها وتستوعبها تماما. لماذا التمسك بمكانة الدراماتورج باعتباره الخبير، وباعتباره وعاء المعرفة؟ وأنا كدراماتورج، أجرؤ أن أتلعثم وأتأتئ، وأخلق لغة شاعرية بالتأتأة. وفي سياق بعد درامي، هذا النوع من الفشل يمكن أن يكون مثمرا.
· دراماتورجيا سياسية جديدة
في مقالها “الدراماتورجيا القلقة” كتبت مريم فان ايمشوط أن المسئولية الفكرية المشتركة – مثل السياق الدراماتورجي والشكل الارتجالي في عرض “فناني جبال الألب»، وهو حدث أداء بدأه بوريس شارماتز – يخلق مساحة خاصة للتنفس، وأرضية مشتركة أكثر استرخاء ومشاركة إذ يمكن للفنانين تناول الطعام. والدراماتورج هيلدجارد دو فويست بالمثل أقرت بأنها في هذه المسئولية الفكرية المشتركة لم تكن تجسد شيئا مفقودا. «إن الأمر يبدو وكأنني لست ضرورية، في الواقع، لدي نوع من الحرية وأرضية أقف عليها» . تذكرني هذه الكلمات بما طالبت به ماريان فون كيركهوفن في كلمتها الرئيسية في مؤتمر الدراماتورجيا الأوروبية الدراماتورج المعاصر وهو الوقت والراحة للعمل كترياق لطيف ضد المواعيد النهائية المدمرة ومتطلبات السرعة والقدرة على المواءمة والرؤى قصيرة المدى التي تطارد المسرح في زمن الليبرالية الجديدة.
فهل هذه الحاجة للوقت والراحة تعني أن السياقات الدراماتورجية المعاصرة تتميز بنوع من موقف “ما يأتي بسهولة يضيع بسهولة”، لا مبالاة معينة أو العمل بدون ارتباط؟ وعلى العكس من ذلك، لاحظت ماريان فان كيركهوفن أن الدراماتورجيا الصغرى micro dramaturgy في التدريبات يجب أن تتواصل مع الدراماتورجيا الاجتماعي الكبرى marco dramaturgy. لأن المسرح يوجد في المدينة والمدينة توجد في العالم، والجدران من جلدنا. فلا يمكننا الهروب مما يخترق المسام. وكما يقول ارفنج جوفمان “العالم ليس كله خشبة مسرح، ولكن الطرق الحاسمة التي لا تجعله كذلك ليس من السهل تحديدها. ولكن كيف نتناول هذه الدراماتورجيا السياسية المعاصرة، وهل يمكن للدراماتورجيا المعاصرة أن تكون سياسية، مع الأخذ في الاعتبار كتابات رانسييه؟
يبحث جاك رانسييه السياسة من منظور توزيع المنطقي. فالسياسة تدور حول ما يُرى وما يمكن أن يقال عنها، وتدور حول من لدية القدرة على الرؤية والموهبة لكي يتكلم، وحول خصائص الأماكن واحتمالات الزمن. والممارسات الفنية سياسية بمعنى أنها تستتبع إعادة صياغة معينة لتوزيع المنطقي. إنها طرق الفعل التي تتداخل في التوزيع العام لطرق الفعل علاوة على تدخلها في العلاقات، إنها تحافظ على أنماط الوجود وأشكال الرؤية لعدم تحديد الهويات، وتفويض موقعي المكان والزمان.
فالدراماتورجيا المجسدة سياسية، نظرا لأنها تتحرك بعيدا عن الوسائل الدراماتورجية ذات الأساس الادراكي . فالدراماتورجيا السياسية لا تبدأ على مستوى الرسالة . انها تدهور مفاهيمي ناتج عن المواجهة مع المساحة الجسدية الجديدة . فالدراماتورجيا السياسية لا تسعى الى اخبارنا كيف ينبغي أن نفكر أو نشعر، بل تخبرنا ما يجب أن يكون عليه عقلنا حتى نتمكن من التفكير أو الشعور بطرق أخرى جديدة .
ان دراما الفشل سياسية، لأنها تنتقل من الأرض الصلبة الى حافة تفكيرنا. ففي عرض «الأوبرا المتلعثمة” لقد تم تفكيك التحدث على طريقة لاكوينتين باعتباره السمة الخيالية للسلطة العليا. فالشخصية الرئيسية “إيزيس” تتلعثم طوال الأوبرا. وفي الليلة السابقة على زواجها تكتشف شجرة تخرج من فمها. هذا المسرح الموسيقي لبيتر بويسر وموزيك لود هو عبارة عن ملاحظة تراجيكوميك للطريقة التي تتعامل بها عائلتها وخطيبها مع هذا الموقف. إن عرض “الأوبرا المتلعثمة” يعلق من لديه القدرة رؤية وموهبة الكلام في المجتمع. أنه يتعامل مع تاريخ البلاغة ونموذج الخطيب البارع ونماذجه السياسية التناقضية.
إذن، يجب أن تحقق الدراماتورجيا السياسية المستوى الذي يجعل العمل يؤكد تعدديته، عندما يجعل الرؤية أو اللغة تتعثران، وكأنها لسان غريب، ولكن دون أن تفقد ذاتها في عدم فهم منفصل. وفي المسرح المعاصر، أصبحت وظيفة الدراماتورج غائمة. وأصبح الدراماتورج مؤديا أو مشاركا في الترفيه، فقد أصبح الدراماتورج عالما مشاركا في غرفة العمل أو المعمل المفتوح؛ ويجب على المتفرجين أن يفكروا بشكل إبداعي. وبالتالي يشاركون في السياق الدراماتورجي المقدم علنا. والدراماتورجيا تتحرك فيما يسمى “الانعكاسات المتعدية” من الأرض الصلبة والفكر الإدراكي إلى دراماتورجيا الجسم التي هي دراماتورجيا سياسية، بمعنى أن الناس الذين يشاركون في السياق الدراماتورجي للأداء يشاركون في مسئولية إعادة صياغة توزيع المنطقي. فتجاوز النموذج الديكارتي يعني التحرك من الأرض الصلبة إلى التعثر والتلعثم على حافة فكرنا، يكشف طرقا جديدة غير متوقعة للفكر والشعور.
....................................................................................
· نشرت هذه المقالة في مجلة performance research 1431, pp. 121-125 ضمن مطبوعات تايلور وفرانسيس.
· كريستيل سالبيرت تعمل أستاذا لفنون الأداء ودراسات فن الوسائط في جامعة جنت في بلجيكا.