عرض التونسية مريم بوسالمي يخترق الجسد في تجليات مسرح ما بعد الحداثة

عرض التونسية مريم بوسالمي  يخترق الجسد في تجليات مسرح ما بعد الحداثة

العدد 794 صدر بتاريخ 14نوفمبر2022

شهد المسرح الوطني محمد الخامس يوم الجمعة 28 أكتوبر 2022 مسرحية “العيش في الكلمات” (Habiter les mots) للمخرجة التونسية مريم بوسالمي، وذلك خلال فعاليات المهرجان الدولي الأول للنساء المخرجات المنظم بالعاصمة المغربية من طرف فرقة أكواريوم وجهات داعمة أخرى .
وكما معلوم فالكاتبة والمخرجة والممثلة التونسية مريم بوسالمي لها أعمال مسرحية معروفة أهمها زهايمر الذي تمردت فيه عن الرقابة بتونس وحمل بتلميحات سياسة ولم تلغي أي جزء منه.عرفت إذن كمناضلة تحتج ضد الظلم وإدانة الخوف من الأنوثة الحكيمة. هي محامية ومسرحية تشق طريقها بثبات في المشهد المسرحي بمدرستها الجديدة في العروض المسرحية.
الجسد بين العرض وتيمة المهرجان:
العرض المسرحي للفنانة التونسية يبدأ بعرض لوحة عالمية لامرأة تستعرض بطريقة ما جسدها في هدوء. الجسد البطل الذي يطغى على العرض وعلى المهرجان.هو مسرح فيزياء الجسد، والذي قدّمت فيه نظريات كثيرة للمسرح تظهر أن العرض المسرحي يمكن له أن يقوم من دون استخدام ديكور أو ملابس أو إضاءة أو موسيقى، وأيضا من دون نص مكتوب مسبقا، إلّا أنه لا يمكن أن يستغني عن العنصر الأهم في العملية المسرحية برمتها ألا وهو الممثل.وما ذهب إليه جروتوفسكي يشكّل المفهوم الأساسي للمسرح الفقير، وهو مفهوم غير مكتمل، من ناحية الواقعية والجمالية، فالعناصر الفنية التي يتشكّل منها العرض المسرحي عند مريم، لا عنصر التمثيل وحده، هي عناصر بنيوية لا يستغني عنها أي عرض مسرحي مهما كانت عبقرية الممثل، وتنتظم هذه العناصر البصرية والسمعية المنتمية إلى فنون مختلفة، شرط أن تكون منصهرة بعضها ببعض، في نسيج فني متكامل هو العرض المسرحي:»العيش في الكلمات».
إن مسرح فيزياء الجسد هو تيمة لنتيجة جهود مسرحيين  أسهموا في خلق بيئة جديدة في التعامل مع جسد الممثل،وجهودهم المندمجة مع جهود فناني الرقص الحديث ورقص ما بعد الحداثة. دون أن نغفل واحدا من أهم المنظرين لتوظيف الجسد في المسرح والمشتغلين عليه وهو المخرج والممثل الفرنسي «جاك لوكوك»، في كتابه “شعرية الجسد”، الذي يلخص فيه طريقته وتعاليمه التدريسية، ويعرض  تجربته المسرحية، والمناهج التي استخدمها في التمثيل الدرامي الصامت،والقناع المحايد ودوره في العديد من الأشكال الدرامية الكبيرة (الميلودراما، الكوميديا دي لارتي، المأساة، وفن التهريج)،والقدرات الخاصة للجسد الإنساني، والكوريغرافيا، وتقنيات الارتجال واللعب وبناء الحكاية. وتعترف مريم بتأثرها بالحكاء جهاد درويش الذي ينهي كل حكيه بشعر.وقد ينكمش فيها الحوار إلى أقصى درجة لتحلّ محله مشاهد بصرية شديدة الإبهار متصدّر فيها الأداء الجسدي والكوريغرافي للممثلة(رقصة الجدة)، والتي مزجت فيها بين الحركات التجريدية ذات المنحى الرمزي، والحركات اليومية المستمدة من الواقع أو التراث الشعبي، وإلى حد ما الرقص المغاربي للجدات، وتبعث تكويناتها فيضا من التساؤلات حول الحس الفني الثري، والإدراك العميق لمفهوم المسرح، كفكر وفن ومتعة. ولقد حقّقت  من خلال هذه التجارب حضورا إبداعيا متفردا في المسرح العربي،  ك“غبار دوغمائي”، إن صح التعبير، يزيد من تشويش رؤية المتزمتين، المناهضين للتجارب الجديدة في المسرح.
هناك من يصفها بأنها “عودة إلى النص الشعري والحكاية”، حيث الشعر والسرد يحتل مساحة أكبر بهذا العرض، بدون تراجع عن “مسرح الجسد” و”مسرح الصورة” بمشروعها الفني. كمبدعة مخلصة لمشروعها الذي يرتقي بذائقة المتلقي عبر تجارب منتجة للمعرفة والجمال والتأمل، بدون مجاراة رغبات عشاق “المسرح المُتداوَل”، الذي يهيمن على المسرح العربي، وله مخرجات عربيات.
إن الجسد يواجه أسلوب الأداء بين التلقائية والتحكم الكامل،بمعنى ما بين الجسد الطبيعي،الحي،وبين الجسد «الكراكيزي»، والمتحكم فيه من طرف الممثلة والمخرجة. إن التعبير الجسدي في المسرح باعتبار الجسد دعامة للخلق يتموقع في جهة أخرى وهي النص خلال التخييل المعروض. الجسد عند مريم هو الموضوع للمعنى النفسي المعاصر والأخلاقي،المختفي أمام الحقيقة الدرامية لتحقيق وساطة هامة لها دور فعال في الفرجة المسرحية.وتعتبر الإشارات التي يقدمها الجسد عبارة عن صور تقديمية للكلمة في توازي بين الجسد والكلمة خلال العرض. الكلمة التي تحضن الشعر(شعر لهايلد دومين المزدادة بمدينة كولونيا الألمانية (Hilde Domin) لتحكي لنا قصصا أخرى عن أمهات وآباء وأصدقاء ماتوا في سن مبكرة تاركين أطفالهم بعد صراعهم مع الورم القاتل غالبا. إعجاب كامل بشعر هذه الشاعرة  والذي طغى على أغلب فصول العرض.
مسرح رقمي بطعم الشعر والكلمة:
شكلت تقنيات وأجهزة رقمية خصصتها الفنانة التونسية  بالعرض المسرحي جهازا بعرض الشاشة التي اكتسبت حضورا طاغيا لتلمس ما هو جمالي أو إبداعي باعتبارها تقنية تؤدي دورا مكملا في العرض المسرحي،لإخراج مساحة واسعة لتعدد فرضياته وخياراته من خلال تحديد البيئة الدرامية للأحداث. ساعدت هذه التقنيات على ايجاد صيغ ووسائل لها دور هام في تثبيت دعائم المخرجة الممثلة الفنانة التونسية الفلسفية في عرضها. واستثمرت مجالات حياتية وأدبية كالقصيدة الرقمية من خلال ترجمة الشعر من الألمانية إلى الفرنسية عبر تقنية الشاشة. وخلال ترجمة للغة الألمانية الموظفة عندها،وهو استثمار تسعى منه تثوير الفعل الدرامي بشكله السينوغرافي دون تكثيف باذخ ينشط البصريات على حساب الرؤى الإخراجية والبنى الدرامية في العرض وخطاب الجمالي والفكري. إن المتلقي عليه أن يطالع عبر الشاشة/الملجأ كل ما تلقيه من شعر بلغة غريبة لا يعرفها.
هي تقنيات رقمية(حاسوب،صور رقمية،أفلام،ترجمة مكتوبة بالشاشة)كلغة أكثر تعبيرا واستعمالا في أجهزة الوسائط المتعددة.وهي تقنيات وأدوات ونظم مختلفة وظفتها الممثلة المخرجة لمعالجة المضمون والمحتوى والذي تريد توصيله من خلال عملية الاتصال الجماهيري الجمعي.
 لعل القصيدة الرقمية -بشكل ما- حضرت وبمعرفة واعية منحته العلاقة بين اللغة بالكلمة الشعرية والتقنيات الرقمية(صور،أفلام)والتي تبدو ظاهر الأمر تناقضية، وخلفت علاقة متجاوزة مع الحاسوب ورسائله المتعددة. وهي وسيلة ساعدت المتلقي لدخول عالم الفنانة التونسية ومقاربة مقاصدها إلى ما ينتج في العديد من التصورات والتأويلات التي تقربها من قصدية المرسل الكاتب وتكشف له تجارب جديدة  تفرض وجودها في فضاء ثقافي مشحون  بالتنوع.إن مفهوم القصيدة لم يعد عبارة عن تلك الحروف والكلمات بل هي مجمعات من العلامات السمعية والبصرية من خلال الشاشة لفهم القصيدة.
آليات رقمية ساهمت في تقديم الحلول غير التقليدية وفق أساليب جديدة جعلتها أداة مرنة بيد الفنانة الممثلة/المخرجة،التي لا تحتاج إلى تقنيات مسرحية أدائية عالية بل إلى مهارات فنية في كيفية استخدام تلك التقنيات بشكل ذكي وفني.
الإضاءة كعنصر تشكيل الفراغ المسرحي كان لها دورا نوعيا طبقا لدراما العرض وطبيعته  وطبيعة تشكيل الفراغ المقام داخله بتصميم المناظر  الرقمية والدراما والموسيقى.
المحاكاة التفاعلية:
 بمحاكاة عادية تلعب فيها الممثلة دورا كبيرا في حيث قدرتها على تشغيلها وتجربتها والتفاعل والتعايش الكامل معها. حيث تظهر البطلة في الفيديو تجر عربة،لنعرف أنها هي بطلة العرض واقعا.واقع افتراضي وواقع شعري وواقع حياتي(استغراق،وغمر).
أهم الركائز الأساسية في تشكيل العروض الرقمية وسائل الواقع الافتراضي (شاشة،فيديو،صور رقمية،ألوان،أبيض وأسود..) ساهمت في تشكيل بنية أداة الممثلة عن طريق انعكاسها ورسم هندسة فضاء العرض المسرحي،ليكون أداء تشخيصيا بحضور فاعل وبصورة حية مع الفعل الحركي المنضبط بأزمنة وأمكنة الصورة البصرية المنصهرة مع أداء مريم المنغمس. هي وسيلة اختراق الجسد باستعمال الواقع الافتراضي وضوئها والمحتوى الرقمي المعروض محاكاة افتراضية لسطح الجسم. كما لو أنها أعادت تكوين أنماط جديدة للجسم بتقنية ثلاثية الأبعاد، ولتعلن عن التفاصيل الدقيقة للجسد الانساني وكشف أسراره الداخلية والخارجية كجسد حي نابض داخل منظومة افتراضية تعلن الواقع الجسدي المخفي للإنسان وخصوصا للأنثى.
نحن هنا أمام مسرح ما بعد الحداثة بكل تجلياته. والسمة الأساسية الأولى التي تميز مسرح ما بعد الحداثة،أو مسرح ما بعد الدراما،هي التباعد بين الجانب الأدبي المتعلق بالنص،والجانب الأدائي» في مسرح ما بعد الحداثة»،فقد النص أوليته وأولويته وأصبح عنصرا من عناصر العرض،أهميته لا تزيد عن أهمية العناصر الأخرى. وفي بعض الأحيان يعتبر النص»أداة»مثله مثل أداوت العرض. وعلى سبيل المثال يمكن عرض أجواء من النص على شاشات، كأنه صورة،أو يمكن للممثلين إلقاء الحوار معا في آن واحد. فيصبح الحوار،اي النص،مجرد خلفية صوتية للمسرحية.»(من كتاب الاختباء في النور، ص:32) لوائل فاروق ،منشورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الدورة 29.
تشتت وتشظي على مستوى السرد وعلى مستوى»العلامات واللغات»، فالجملة قد تغير حياة كاملة. القصة/الحكاية هنا سلسلة «مشاهد - شظايا» وكولاج شعري وشاعري يخفف من حدة تفكك السرد.
ف»أحيانا تتطابق الشخصية مع حضور الممثل الحقيقي على المسرح. فالممثل لا يجسد شخصية ما،وإنما يجسد نفسه،والسياق هو الذي يوحي إلى المشاهد بأن أمامه شخصية مسرحية. وفي هذه الحال،يكون الممثل الباب الذي يتسرب منه الواقع إلى العرض المسرحي ليخترقه،مما يؤدي إلى ذلك الخلط بين الواقع والخيال. والإحساس بأن حضور الشخصية يأتي من حضور الممثل/المؤدي» (من كتاب الإختباء في النور، ص:37) لوائل فاروق،منشورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الدورة 29.
بالعرض مثلت سينوغرافيا لغات جديدة تتجاور مع اللغات الأخرى. والصور والفيديوهات التي تعرض على الشاشة لها دور فهي تكتب،وتمسرح الفضاء المسرحي وتتحول إلى نص له مما يفكك الفضاء التقليدي. تتربع لغة الشعر مع لغة الترجمة ولغة الشاشة(صور،فيديو..)بلغة الواقع ولغة الممثلة لتحقيق «متلازمة التصفيق المعجي». عبر فصول مسرحية تعرض عناوينها بالشاشة(ثق في التاريخ،محادثة بدون نهاية...)
وبلغة الصور الثابتة(صور وفيديو) لعرض نظام بصري مشهدي ومعقد يتشابك فيه الواقع مع الخيال. للوصول لابداع يمزج بين كل اللغات الشعرية والمسرحية الجديدة تجاوز الشعر والشاشة رفقة جسد الممثلة. فالكلمات ليست كالكلمات تصرح مريم وبتكرار متعمد.
وفرت  مريم نسيجا لفظيا متعدد الأصوات: سرد، شعر، بوح..وبجماليات الصوت إلقاء وصوت رقن لآلة كتابة عتيقة وصوت ريح تتعمده فنفس عنق عصفور مثل الريح في الأغصان،مادامت الكلمة مثل الريح،وريحها مقدس تدخل وتخرج..
لتفكيك الشخصية تجريديا وإيقاعيا يتحول النص المسرحي في عالم مريم أكثر مرونة: عبارة عن نسيج صوتي يخلق: فضاء صوتيا. هي مهارات جديدة يجب أن يكتسبها الممثل لإنتاج المعنى عند دخول التكنولوجيا في العرض المسرحي من خلال التقاطعات والتوازي والتداخل والتزامن والتماكن والتناقض...
المتلقي خلال ساعتين من العرض يتواجه مع الشاشة: التي لها معنى منتج على الخشبة وفضائها الذي سيولد تراكبا إدراكيا لديه ويتبعه تراكبا إدراكيا لدى الممثلة نتيجة تجاوز الصورة السينمائية والكلمة وتموضعها مع مكونات الصورة العامة للفضاء المسرحي البسيط والشبه فارغ.
كان أداء الممثلة مريم أبو سالمي أداء يمكن تسميته ب» ما بعد إنساني» والذي يكون فيه الجسد هجينا ماديا وافتراضيا في نفس الآن. يتطور لتحسين قدرات الإنسان بالتكنولوجيا التي هي امتدادا للبشر الذي يتفاعل مع التلفون الذكي في كل حياته.
عزز العرض حضور الإنسان الاعتيادي وتقنياته بإعادة صياغة جماليات بسيطة وحياتية من خلال تحقيق شكل اقتراضي يتحقق في الصورة الواقعية ومحققا شعار الفعاليات بالمهرجان بكل أبعاده التقنية الهادفة إلى تحقيق نضالات تنتصر للمرأة.
العيش في الكلمات عرض يهدف كما يقول صناعه: «إلى أن يكون عملية تعلم من خلال الاستيعاب. يربط العرض بين المهنيين المسرحيين والهواة في ورش عمل من أجل تمكين المرأة. لذا فكرنا في كل تلك الجدران التي تقف بيننا في كل مرة نجتمع فيها حول قراءة وإعادة قراءة قصيدة كتبها هيلدي دومين، لتلك الاستراحة التي نقدمها لأنفسنا في خضم زوبعة الحياة النشيطة مثل “دقيقة للترقب” حسب صيغة بريخت. هذا “الترقب” باعتباره فترة زمنية استثنائية لالتقاط أنفاسنا. بهذا المعنى،فإن القراءة ليست سوى ذريعة. والأهم من ذلك هو  القصص الحقيقية التي ترتبط بإشراك الشعر. هذا هو المعنى السحري للفن: العطاء والاستسلام، التقاسم والترحيب. هي في النهاية ديناميكية تشجيع روح التضامن.»


عزيز ريان