تسجيل دخول.. بدون خروج

تسجيل دخول..  بدون خروج

العدد 588 صدر بتاريخ 1ديسمبر2018

إن كان تعريف العدمية في أبسط صورها هي رفض جميع المبادئ الدينية والأخلاقية، والاعتقاد بأن الحياة لا معنى لها، وخلو الحياة من مضمون أو معنى حقيقي يسعى الإنسان له، بالتالي تصبح مفردات الحياة الرئيسية كالزمن الذي يحي فيه، أو الطعام، وما إلي ذلك؛ محض لحظات بلا معنى لا تنبش في ذات الإنسان وتدفعه للبحث عن الحياة. من مفهوم العدمية يطرح السؤال نفسه؛ فماذا نحن فاعلون بأنفسنا داخل عوالما الافتراضية؟ كيف نحيا في الزمن داخله؟ كيف سحرنا لكي نعيش داخل عوالم التواصل الاجتماعي باستمرار بشكل آلى، وكيف تتكون مبادئنا إذا بواسطته؟. ذلك ما حاول العرض المسرحي “تسجيل دخول” نقله سواء من الحالة العامة في الوقت الراهن، أو على مستوى تفكيك اللحظة مسرحياً،على خشبة مسرح مركز الهناجر للفنون . العرض من بطولة أحمد السلكاوي، شادي الدالي، منة حمدي، ميشيل ميلاد، محمد الشافعي، هبة الكومي، أوسكار نجدي.أزياء مروة عودة، من فكرة وإخراج هاني عفيفي.  
يتم تسجيل دخول المتفرج في العرض على فضاء منغلق، غرفة تشبه العديد من غرف المتفرجين؛ تحتوى على فراش، ومرآة، موديل لجسد مثالي يعلق عليه ملابس باهظة الثمن، وثلاجة وأريكة وقاعدة ((تواليت)). وداخل هذا الفضاء يحاول صناع العرض نقل لحظات حياتنا المشتتة داخل صفحات الفيسبوك التى تستهلك الكثير من الوقت بلاجدوي. من خلال عدة أنماط شخصية شديدة الواقعية- أغلب الممثلين يجسدون شخصيات بأسمائهم الحقيقية- ممزوجة بنبرة ساخرة في الأداء التمثيلي، وهي محاولة لتوضيح مدى عبثية اللحظة الحالية، وعبثية ما نقوم به في مواقع التواصل الاجتماعي التى طبعت على باق تفاصيل الحياة الصغيرة. حيث تبدأ الأحداث ونحن بصدد انتظار عامل توصيل الطلبات إلى المنزل الذي يحمل أسم المطعم “بكره احلي من انهاردة بكرة يومنا الجديد” وينتهي العرض ولم يصل العامل رغم مروره بكل العقبات وتجاوزها. واستنادا على رمزية أسم المطعم التى تعبر عن الحلم أو الأمل في ما هو قادم، خاصة ارتباط هذا العامل بمروره أثناء رحلة توصيل طلب الطعام إلى أغلب مناطق التي قامت على أرضها ثورة يناير، وفي النهاية لم يصل. تعد هذه البنية الدرامية شديدة القرب من نص صامويل بيكيت “في انتظار جودو”. وعلى اعتبار أن العبثية كتيار فلسفي وليدة العدمية، وأن العالم لا معنى له ولا مضمون، ومصيره العدم من جديد، فكل محاولات الإنسان لإدراك أي معنى، وكل صراعاته، وكل مجهوداته تنتج عبثية لا جدوى منها..مجرد محاولات غير منطقية، أو فوضى لا تحقق شيئا. ومن هنا يتضافر مفهوم العدمية والعبثية في حياة الإنسان المعاصر كما حاول طرحها العرض.  
 وداخل هذا العالم العدمي، الرافض لتقبل الآخر، ويتناقض في تحديد هويته الفكرية من الأساس، يصبح الساحر/ صانع اللعبة الذي يجوز أن يكون رمز لشخصية مارك صاحب موقع فيسبوك؛ المتحكم في كيفية تشكيل الزمن لهؤلاء الأفراد ودفعهم إلى أى ما كان من الاتجاهات الفكرية، دون مقاومة منهم، ومن ثم يصبح الخروج من عالم الساحر أمر في غاية الصعوبة يتبعها العديد من الأسئلة الذي يلقيها الساحر الذي يقدم دوره أحمد السلكاوي على المتفرج الراغب في الخروج؛ وهي ذاتها الأسئلة التى يسألها مارك في محاولة اغلاق الحساب بالفعل. يفشل الشخص في الخروج من عالم الفيسبوك بالإكراه.
 يغلب على الصورة  المسرحية الألوان المميزة لصفحات الفيسبوك، خصوصا اللون الأزرق الذي يرتديه كل الشخصيات، مع مزيد من القطع البلاستيكية في ملابسهم، وألوان بعض قطع الديكور، وعرض مادة فيلمية توجد بالفعل في هواتفنا بشكل يومي مثل فيديوهات الدحيح وغيره من مشاهير اليوتيوب والفيسبوك. وفي حين يهمل عنصر الزمن ونحن داخل عوالمنا الأفتراضية، صدرت الساعة التى تتوسط عمق المسرح؛ رؤية المتفرج، ولكن سرعة مرور الزمن أضاف المزيد من لا جدوي الحركة المستمرة. ينتقل هذا الإيقاع الزمني على الزمن الفعلى للعرض حيث نمر بمشاهد مسرحية مثلما نتلقاها في الفيسبوك عند scroll down ولحظات الإغراق في حياة الآخرين والمقارنات المستمرة التى تدفع إلى مسح السمات الفردية لكل منا وتزيد من شعورنا بالوحدة في آن واحد، وتكوين جماعات؛ كلاً يحمل أفكار تكاد تكون مجردة أو غير قابلة للتحقق ولكن ملقاة في الفراغ وبالتالي الأفكار لم تفلت من لعبة التسليع والرأسمالية هي الأخرى، وضح ذلك في مشهد انتحار الشاب، وتجاوز ذلك الحدث بانتشار المزيد والمزيد من الورش التعليمية لأشياء بدائية أو مزيفة في بعض الأحيان. وبجانب الصورة المسرحية اعتمد العرض على نفس أسلوب الحوار داخل فيسبوك من حيث الجمل الحوارية المقتطفة من سياقها اللغوي وبالتالي لا يصل المعنى من خلال اللغة بشكل متسلسل، وأحيانا كثيرة تصبح الجمل قصيرة. وأيضا على مستوى الأداء وعدم المباشرة عند إلقاء الجمل بين الممثلين.
 العالم الافتراضي يدعي الصداقة والتواصل الاجتماعي مع الآخرين، وبدخولك إلى هذا العالم يجعلك منفردا وتتورط في العديد من المشاركات وجدل حول أشياء غير حقيقية. جاء الأداء التمثيلي موضحا ذلك الحد الفاصل بين الدخول والخروج من الشخصية، وارسال اشارات للتنبه بأنها شخصيات غير مكتملة الأبعاد مثل أى عمل فني أخر، بل هي شخصيات من العالم الافتراضي، وتحمل حساسية تكوينها المجتزئ.    
(مين فيكم جعان) تلك كانت أولي كلمات الساحر/ صانع اللعبة في “تسجيل دخول”، نهاية بالتلاعب بالغرائز وإعادة تشكيلها من جديد، كأن تكون أحداث الحياة اليومية في حاجة ملحة للاحتفاظ. لذا وجود الثلاجة على خشبة المسرح الذي يعكس من خلالها المادة الفيلمية؛ دلالة على تجميد اللحظات وإعادة استعاملها أو استرجاعها مثل الاحتفاظ بالطعام في الثلاجة، وترابط لحظة تسجيل الفيديو، بالجلوس على مقعد ((التواليت))، كأن من خلال فعل التسجيل يمارس الإنسان ضرورة بيولوجية للراحة وتفريغ ما بداخله.     
رغم عدم انحياز العرض لأي من الأفكار المتعددة التى يطرحها كونها موضوعات متداوية بالفعل في الواقع، إلا أنه غالي في طرح علاقة الرجل بالمرأة، أصبح مشهد دفاع المرأة عن حقوقها وتعبيرها عن وضعها، علقت قضية المرأة في برواز صاخب وزاعق أهدر أهمية المناقشة فيه مثل باقي الموضوعات التى مرت من قبل داخل العرض. لذا ظهرت قضية المرأة مقتربة من ذات مجروحة تسعى للانتقام من الموروث وبالتالي تمارس نفس الاضطهاد والعنصرية على الرجل في مشهد أخر كوميدي.


سمر هادي