العدد 608 صدر بتاريخ 22أبريل2019
العرض المسرحي “في الانتظار” الذي قدمه مسرح الطليعة مؤخرا من تأليف سعيد حجاج وإخراج حمادة شوشة، لم ينجح في خلق حالة من القبول أو المواءمة بيني وبينه، بل حتى لم يخلق حالة جدلية تتمثل في محاولة النقاش لما هو مطروح، وربما لم يقتصر الأمر علي أنا فقط، فالمقاعد شبه الخالية تؤكد على أن هذا الأمر امتد لكثيرين. صحيح أنه لا توجد دعاية كافية لعروض مسرح الدولة، ولكن هذا العرض وأمثاله من عروض القاعات في مصر لا يمكن أن تكون الدعاية وقصورها سببا في خلو المقاعد، فلو قسم كل مشارك في العرض معارفه من الفنانين _ لا الجمهور العادي _ على يومين، لكانت القاعات امتلأت.
وهنا لا أخفي أنني أشير لشيء قد يكون خطيرا؛ ألا وهو عدم قناعة البعض بما يقدمونه ويندرج الأمر تحت بند (أكل العيش) لذا فالحماسة والحديث ومحاولة الترويج لما يقدمونه هو أمر غاب بالفعل.
نعود للحديث عن العرض ومحاولة تفسير لماذا كانت هناك تلك الحالة الشديدة من البرودة التي امتدت بين مقاعد المتفرجين والعرض، على الرغم من أن هناك ممثلين نشهد لهم بالجودة سابقا، وأيضا حاولوا تجاوز الأمر بمحاولة خلق نوع من الحميمية والاتصال بينهم والجمهور.
فهل تعود هذه الحالة إلى أن المؤلف ومعه المخرج سابقا قد افترضا أن المشاهدين على دراية بنص (في انتظار جودو)؟
وهل هذه الافتراضية غير المبررة ولا المقبولة تتسق مع تغيير اسم النص الأصلي لسعيد من (إثنان آخران في انتظار جودو) للعنوان الحالي؟
أيضا هل محاولة الخروج في نهاية العرض للحالة الصوفية التي تعتمد على الإحلال والتوحد، لها ما يبررها مع الفرضية السابقة؟
لكي تعرف ما أتحدث عنه فسأخبرك بأن نص العرض يتحدث عن اثنين ينتظران جودو أيضا؛ ثم يدخل عليهما والد يسحب ابنه المقيد بحبل خوفا عليه من أي شيء، ويتضح أنه أيضا ينتظر، مع بعض المحاولات لمنح الأمر بعدا ليس أكبر، ولكن أكثر تفسيرا ربما، وتمثل في تغيير شخصية واحد من الاثنين والآخر لم يلحظ ذلك، بل تعامل معه على أنه هو من كان سابقا. مع بعض الموجودين من الموسيقيين والمؤدين للغناء، ولكنهما لا يقومان بدور الكورس الدرامي، بل هو أقرب لعملية التشخيص. فأوقات كثيرة تشعر أنك أمام تمثيل للحدث لا الحدث ذاته. وإذا كان هذا يتعارض كلية مع ما أراده صاحب هوجو الأصلي، فمن الممكن أن يكون مقبولا من حجاج وشوشة بشرط اعتماده منهجا، ولا يصبح مجرد إداة لتوسيع كمية المشاركين، ففي أوقات أكثر تشعر أن المخرج يريدك أن تكون أمام الحدث؛ بصرف النظر عن المقابلة الثقافية والاجتماعية بين الشخصيتين، وتباين التناقض بينهما ماديا واجتماعيا.
وفي النهاية يدخل الابن وفي هذه المرة هو من يمسك الحبل بيده، ونتفهم أن الوالد هو الذي قيد بالحبل، ولكنه لم يدخل للمشهد، ثم الخلاصة أو النشيد المسرحي على لسان الابن، بأنه لن ينتظر وسيذهب للعمل والاجتهاد. ونحن لسنا في حاجة لانتظار جودو، فهو موجود بداخلنا!
وإذا كان جودو عند بيكيت وعند شوشة وحجاج هو المعبر عن المحرك الأول أو الذات العليا، فكيف قبل المعادل المرئي الذي صممه محمود فؤاد صدقي؟ خصوصا أن شوشة ذهب في النهاية للتفسير الصوفي بأنه موجود داخل كل واحد فينا؟
والمعادل المرئي يصور ما أشبه بخيال المآتة المكون من هيكل عظمي يرتدي بعض الثياب في المستوى الأعلى فوق الرؤوس وفوق الشجرة الشهيرة التي ابتدعها بيكيت واستعملها صدقي؛ أي أنه ببساطة إحالة لجودو كما يراه بيكيت، وكما يراه شوشة لاعتماده هذا الأمر! ونحن هنا نؤكد على حرية الفنان في أن يرى ما يراه، ولكن التفسير متعارض دائما مع الخطبة النهائية.
ثم حتى تصوير الخطبة النهائية متعارضة تصويرا، فإذا كان الوالد قد دخل من قبل وهو ممسك بالحبل الطويل المقيد به الابن، ودائما يصيح به ويأمر وينهى، إلا أنه مع هذه التصرفات غير المقبولة كان يلمح للخوف على الابن، ولكن عندما تحرر الابن أوصل إلينا المخرج بأن الوالد مقيد لأن الابن هو من يمسك بالحبل الآن، ثم أنه لم يأتِ بالوالد للمشهد، أي عملية الخوف على مصير الوالد غير موجودة هنا. ولا يقولن أحد بأننا لسنا أمام والد وابنه، بل هو صراع بين الماضي والحاضر، فعملية التقديم نسفت هذا التوجه أساسا، وإذا تغاضينا حتى عن عملية التقييم، فكيف يقبل من تيقن بأن جودة بداخله أن يقوم بتقييد الوالد؛ حتى لو كان رمزا فهمه يستوجب مطالعة بيكيت، ألم يكن من الأجدى أن يدخل متحررا فقط وأن يكون الماضي/ الوالد مقيدا بذاته فقط أو أي شيء آخر أو حتى لا يكون له وجود في هذه النهاية المستقبلية الفجة؟
هل الخطأ في أن حجاج لم يصر على اسم نصه الأصلي، لأنه لو أصر لربما كانت المواقف ستتغير من حيث التلقي والمعالجة الإخراجية ومن ثم التشكيلية، فوجود الاسم الأصلي سيدفع بمن قرأ بيكت للمشاهدة وبذا قد تتحقق فرضيته الأولى. ثانيا هذه الفرضية مع الحفاظ على الاسم كانت ستدفع بالمخرج لعدم التدخل في النص ومحاولة بعض المناطق التي تدغدغ لا وعي الجمهور العادي، أو ترك الأمر للممثلين للخروج بالمحاورة أو إلقاء بعض الأقوال المضحكة أو على أضعف الإيمان كان سيطلب من المؤلف وهو صديق للمخرج أن يقوم هو بالكتابة وإضفاء بعض التعييرات لتتناسب مع الآن وهنا، على الأقل لم نكن سنلحظ هذا التباين في ما يقوله الممثلون سواء على مستوى الجد أو الهزل، وساعتها مع وجود الاسم ومع دراسة مهندس الديكور لم يكن سيأتي أبدا بهذا التصوير لجودة ولربما كان اكتفى بالشجرة فقط مع بعض التعديلات عليها، وترك تفسير جودو للناس يصورونه كما يريدون لا حجرا عليهم متعارضا مع وجهة نظر العرض ذاته، لربما كان ساعتها اهتم بمقاعد المتفرجين التي صدرت هما كبيرا له أثره العام في التلقي، فهو صنع كمية كبيرة من (البفات) المستخدمة بشيوع في العروض المسرحية التي عبارة عن متوازي مستطيلات فقط، ولم يراعِ الارتفاع ولا مساحة القاعدة المعدة للجلوس، وبناء عليه كان الجلوس عملية متعبة رغم الوسادة الموضوعة. فهل جرب أي واحد منهم الجلوس عليه لأكثر من ربع ساعة؟ لا أعتقد.
أو ربما هو شيء مقصود أن يصدر القائمون على العمل بالتعاون مع صانع المقاعد حالة للجمهور مفادها: نحن في الانتظار.. فلماذا تنتظر والجو غير مريح.. هيا انصرف فهناك عرض آخر في القاعة المجاورة.. ربما كان هذا صحيحا.. ولو كان فاعتذر لهم فهم فعلا قد نجحوا.