هذيان.. تعبيرية بلا ضفاف

هذيان..  تعبيرية بلا ضفاف

العدد 552 صدر بتاريخ 26مارس2018

من بنية تعبيرية انطلقت الرؤية الكلية لمسرحية “هذيان” لفرقة جمعية كلباء للفنون الشعبية والمسرح، من خلال نص العرض الذي اعتمد في الأساس على إعداد مجموعة من نصوص الكاتب العراقي قاسم مطرود، والذي قام به المخرج عارف سلطان، وتظهر تلك التعبيرية في مجموعة من الملامح أهمها الشخصية المحورية “الزوجة” التي يعطي كابوس ذكرياتها منطق تتابع الأحداث الذي نستطيع أن نقول عنه منطق الحلم، فالزوجة تستدعي ذكرى الأخوين، الحبيب/ الزوج الأول المقتول على يد أخيه، والذي اضطرت للزواج منه فيما بعد لتلبية رغباته في تناص واضح مع جريمة البشرية الأولى، لتعيش الزوجة طوال العرض في مجموعة من العذابات لمحاولة كلتا الشخصيتين السيطرة عليها، واللذان يعكسان في ذات الوقت واقعا نفسيا داخل تلك المرأة/ الضحية، لنكتشف في النهاية مفارقة اللعب بدوال الفضاء أننا في مصحة نفسية، وما هذان الرجلان إلا اثنان من الممرضين يحاولان فرض سيطرتهما من خلال اقتحام ذاكرتها ولعب أدوار شبكة العلاقات التي عاشتها في الماضي، ومن هذا المنطلق التعبيري نستطيع أن نعطي مبررا للانتقال المفاجئ في الزمان والمكان وحالات الانفعالات المبالغ فيها والتشنجات في الأداء التمثيلي.
الحقيقة المخرج اجتهد بشكل واضح في تشكيل عالم المعنى من خلال إعداده لنص العرض الذي كما هو واضح يصور رحلة سقوط تلك المرأة لتحمل وحدها خطيئة البشرية على سرير يشغل مركز قوة الفضاء المسرحي في النهاية مقيدة عليه غير قادرة على الفكاك منه، ذلك السرير الذي يفتح لنا مجموعة من التأويلات «الرغبة، الجسد، الخطيئة، العجز.... إلخ» لننتهي إلى صورة كاملة من اليأس الواضح من إمكانية الوصول إلى الخلاص، وأن مخلص المرأة ما هو إلا أحد معذبيها في المصحة.
ومثلما اجتهد المخرج في تشكيل المعنى، اجتهد أيضا في تشكيل البنية المكونة للعرض، التي اتسمت بمجموعة من الثنائيات، والتي سارت في سيمترية واضحة طوال البناء المشهدي سواء من خلال ألوان الملابس الرمزية الأبيض/ الأسود التي انعكست أيضا على تشكيلات الضوء، باستثناء لحظات درامية يظهر فيها الضوء الأصفر بعد لقاء الزوج الأول مع عشيقته، وثنائية الكرسي والسرير، وثنائية المنصة التي لعبت دورا رئيسيا في لعبة تبادل الأدوار في آلية دوارة تعتمد هي الأخرى على الثنائيات وتدور في فلك المثلث الميلودرامي الشهير الزوج/ الزوجة/ العشيقة، فكل شخصية تلعب دور الآخر في كل لحظة من لحظات العرض، فالزوج الأول لا يبقى زوجا حيث يتحول إلى عشيق في منتصف العرض، والأخ في البداية لم يكن سوى عشيق يطارد امرأة أخيه، والمرأة نفسها تتحول إلى عشيقة في لحظات، ولعل ما يبرر تلك اللعبة آلية المنظور الذي تتحكم فيه حالات المرأة النفسية، فكل مشاعرها ومخاوفها المتناقضة تتجسد بصريا على مستوى الأداء، وهو ما يفسر الحديث عن منصتين على الخشبة، منصة أمامية تشغل أكثر من ثلاثة أرباع الخشبة لممارسة لعبة التمثيل وتبادل الأدوار، وربع أخير يفصلنا من خلال جدارين بلاستيكيين بطول المسرح يتحركان في مجرى عرضي ليتقنع وراءها الممثلون، الذين تعاملوا بدورهم قدر الإمكان مع تلك اللعبة في تبادل الأدوار رغم خبراتهم التي نستطيع أن نقول عنها إنها متوسطة لكن تحية لهم على مجهودهم الكبير نظرا لأن تلك النوعية من الأدوار تحتاج إلى خبرات كبيرة.
الحقيقة إن العرض به الكثير من الإيجابيات، لعل أهمها ما تحدثنا عنه في نص العرض المتماسك لمجموعة من أعمال قاسم مطرود أدائيا، إضافة إلى قدرته على بناء تعبيري منضبط، لكن رغم ما سبق الحديث عنه أعلاه في مجمله تبقى لنا مشكلة رئيسية، متمثلة في سؤال جوهري: أين هي المناطق الساخنة في العرض التي تجعل من الفضاء المتخيل أن يمتد إلى فضاء التلقي، ليجد العرض حياته الأخرى في الواقع الفعلي؟ الإجابة في حقيقة الأمر ليس لها سبيل سوى النفي، فالمخرج رغم جهده الملموس في إبراز صنعته إلا أنه غاب عنه وجهة النظر ليغوص في عالم شديد التجريد ويفتح أفق من التأويلات الواسعة التي تشتت ذهنية الجمهور، من خلال حبكة في جوهرها كما صاغها المخرج شديدة النمطية بمثلثها الميلودرامي غير قادرة على تحمل تلك الجمل الحوارية التي اتسمت بالصخب حينا والشاعرية الهزيلة حينا آخر، وكأن اللغة أصبحت محبوسة داخل ذاتها، إن العالم المسرحي بفضائه المتخيل بعناصره كافة تكتسب قوتها من امتدادها الحي داخل العالم الواقعي، المرجع والضفة الأخيرة التي نستطيع أن نقف عليها لنهرب مما أسماه بروك المسرح الميت.


خالد رسلان