مسرح المقهورين بين النظرية والتطبيق (3)

مسرح المقهورين  بين النظرية والتطبيق (3)

العدد 766 صدر بتاريخ 2مايو2022

«المسرح هو شكل من أشكال المعرفة»؛ ليست مجرد مقولة شهيرة للمخرج البرازيلي «أوجست بوال»، ولكنها مثل أغلب مقولاته كاشفة عن رؤيته للمسرح من ناحية وتوجهه الفكري من ناحية آخرى؛ فمسرح المقهورين «مسرح بياني» هكذا قال لي مؤسس فرقة الورشة المخرج الكبير حسن الجريتلي. وفي لقائي مع مؤسسة مختبر المسحراتي المخرجة الكبيرة عبيرعليّ قالت لي: مسرح المقهورين مسرح تنموي. ظلت هذه النقاشات عالقة بذهني، وذات يوم قلت للمخرج السوري عمرو أبو سعدة، وبالمناسبة هو من قام بتدريبي على هذا التكنيك المسرحي: اعتقد ان هذا التكنيك يفقد فيه الفن لذته ومتعته؛ فيجد الفنان نفسه محاصرا بإطار تعليمي يقدم من خلاله عرضا مسرحيا غارقا في المباشرة. لكنه قال لي: ولما لا تقول ان لذة الفنان تحدث بحدوث التفاعل بين الجمهور والممثلين. سألت نفسي هل كان «أبو سعدة» يضع التغيير الذي يُحدثه هذا اللون المسرحي معادلا موضوعيا لحدوث بل وتحقيق المتعة الفنية؟ أي ان حدوث التغيير لدي (المتفرج / الممثل «المقهور») والذي يعد الهدف الأهم عند «بوال» هو المتعة المنشودة أم فقط هو الغرض والغاية؟. ان كان الأمر كذلك فالمقاربة بين (بريخت و بوال) قائمة وجائزة وواجبة وحتمية؛ فكلاهما بنى مسرحه على فلسفات ثورية، وقاما بكسر الحاجز الرابع، سعيا في حدوث الثورة والتغيير من خلال إيقاظ وعي المشاهد فأسسا مسرحا تعليميا يدفع المشاهد للتفكير، وهذا دفعهما- بريخت وبوال- دفعا لإعادة النظر في شكل العملية المسرحية ككل بدء من كتابة النص مرورا بالتمثيل انتهاء بالإخراج، وكأي فن غايته دهشة وجوهره إدهاش ليحقق المتعة، والتي بالفعل تحققت مع «بريخت»، ولكن البعض يرى انها لم تحقق مع «بوال» والذي رفُض من كثيرين، وفي لجة التفكير والبحث والتنقيب قال لي الناقد الكبير د. أحمد سخسوخ: مسرح أوجست بوال مختلف عن مسرح «بريشت», ولا علاقة له به, فمسرح «بوال» متغير من مرحلة إلى آخرى, فهناك مرحلة كان يعتمد فيها على الارتجال، وكان يقترب فيها من المسرح الارتجالي الذي ينتمي إلى كوميديا «دي لارتي»؛ حيث يطرح سيناريو ويستكمله الممثلون, كأن يذهبون إلى سوبر ماركت, وهناك ممثل وممثلة فقط, يبدأن في الشجار؛ فيتدخل الجمهور, ليشركه في الحدث, وأسباب هذا المسرح هو نسبة الأمية التي كان عليها الجمهور انذاك، أما مسرح «بريشت» فهو مسرح مغاير ومختلف من مرحلة إلى آخرى؛ فقد بدأ مسرحا تعبيريا, ثم تعليميا, ثم ملحميا, ثم ديالكتيكيا، وكل مرحلة لها خصوصياتها وتكنيكها, وقد فُهم «بريشت» في مصر والعالم العربي خطأ, نتيجة للتركيز على مرحلة واحدة فقط هي الملحمية. فور انتهاء د. سخسوخ من الحديث وجدتني اسأله: ان كان الأمر هكذا لماذا يهاجم النقاد مسرح «بوال»؟. رد «سخسوخ» في بساطة متناهية: هؤلاء لا هم نقاد ولاعلاقة لهم بالنقد, لأن المسرح دائما في حالة تغير وتحرك وتخلي عن قوانينه السابقة؛ فلا توجد قوانين أبدية في المسرح, وإلا لما تطور, وبالتالي قوانين المسرح مختلفة من عصر إلى آخر؛ بل لدى الفنان الواحد من فترة إلى آخرى. رأي د. «سخسوخ» ذكرني بتعليق الفنانة عبير عليّ: «سلفيو» الفن هم السبب وراء رفض مسرح «بوال». ترفض «عليّ» وجود  كتاب مقدس للفن. وسألتني: ما هو الهدف الحقيقي لهذا المسرح؟ التنوير أليس كذلك؟!. وهو ما يحقق المتعة الإنسانية؛ فمسرح المقهورين مسرح مهم، ولكن المشكلة إننا أصحاب ثقافة لا تعترف سوى بالرأي الواحد ونحن ندعي التعددية، ولكن لا نمارسها؛ فهذا المسرح علاج عملي أو بالحري مصحة عملية لتدريب الأفراد على إعادة قراءة مشاكلهم وكيفية إتخاذهم القرار، وأن يتقبلوا أكثر من حل؛ فجوهر المشكلة يكمن في تعودنا طرح المشاكل ولا نكون فاعلين في حلها وهو ما اثاره «بوال» من خلال المتفرج الفاعل أو المتفرج الإيجابي؛ فهو وضع حل سحري من خلال مسرحه «التنموي» الذي يقوم على آلية استخدام الفن في التنمية، ولكنه لا يدرب كوادر على حرفيات الفن المسرحي؛ فهو شكل فني يقلل من حدة المناقشة، ويقوم بإعادة صياغة لبرنامج تدريب تعليمي بشكل علمي؛ فهو بمثابة تأهيل اجتماعي للجمهور، وبالتالى هو لا يطرح نصا أدبيا بالمعنى المتعارف عليه. 
استطاعت «علي» وضع يدها على جوهر المشكلة؛ فالمتعة موجودة، ولكنها إنسانية لا فنية؛ ربما ذلك  لطبيعة القضايا التي تطرحها نصوص مسرح المقهورين التفاعلية، والذي سبقته صيغ مسرحية أكثر متعة؛ هذا ما أكده «الجريتلي»: ُكنت مهتم ان احضر شغل «بوال» وقتها قرأت كتابه الأول «ألعاب الممثلين وغير الممثلين» وأثناء عملي معه، ورغم اهتمامي  بمسرح الملتقى أو الفورم، ومسرح الضوء، والمسرح الامرئي «الخفي» – صيغ مسرحية سبقت الظهور الفعلي لمسرح المقهورين بشكله الحالي-  وجدتُ نفسي مثار بشكل أكبر نحو مسرح الصورة – أحد الصيغ المسرحية التي اشتغل بها «بوال»-  وصممت صورة مسرحية لعائلة مصرية لخصت فيها محتوى اجتماعى، وفي هذه الصورة اختزلت أشياء كثيرة، واخذ «بوال» هذه الصورة ووضعها في كتابه، وقام بوصفها بعد ذلك، ورغم ذلك لدي انطباع عام  ان مسرح المقهورين ما هو إلا أداة لخلق حوار داخل مجتمعات بها درجة ما من التجانس. كان الحوار بيني وبين «الجريتلي» ثري وشيق؛ كنا نقفز من نقطة لأخرى، ولكنه في نهاية المطاف فضّل الحكي المسرحي؛ فهو يراه طريقة مثلى في التغيير المجتمعي. وبحسب رؤية «الجريتلي» فان الحكي المسرحي يُفجر الدراما داخل المجتمع أكثر من مسرح المقهورين, علاوة على كونه شكلا فنيا غير مباشر عكس مسرح «بوال» ولذلك فضّل «الجريتلي» مسرح الصورة لانه يقدم الفن من خلال رسايل شعرية، ولكن مسرح المقهورين بشكله الحالي هو مسرح بياني. يرى أيضا «الجريتلي» ان مسرح المقهورين يختزل الفن والفن لا يختزل فى رسالة. رغم كل السطور السابقة أرى ضرورة النظر للموضوع من المنظور الدرامي؛ فالدراما كما نعرف وطبقا للتعريف الإغريقي هي (فعل أو عملا يؤدى)، وهي جوهر التراجيديا؛ لان التراجيديا وفق تعريف «أرسطو» في كتابه الأشهر «فن الشعر» هي (محاكاة أفعال)، والمسرح طبقا لهيجل هو (صراع إرادات حرة)، ومسرح «بوال» به دراما من خلال الفعل الذي يقوم به القاهر والفعل المضاد الذي يقوم به المقهور؛ وأيضا به صراع، ولكن جوهر الصراع بين القاهر والمقهور يتم من خلال إرادات قد تبدو غير حرة أو غير متكافئة!، وهذا ما توضحه النصوص المسرحية، والتي تُكتب من خلال ورشة مسرحية يحدث فيها ارتجال أو سيناريو سريع أو تقنيات درامية تساعد على كتابة النص، أو تُكتب هذه النصوص بشكل مُعد سلفا شرط ان يحتوى النص المسرحي على ثلاث شخصيات رئيسية وشخصيات آخرى فرعية – لايوجد عدد محدد للشخصيات ولكن يفضّل الاقتصاد في الكتابة لتقليل النفقات فغاية هذا المسرح عرض القضية لا أكثر ولا أقل- والشخصيات الرئيسية هي «قاهر» و»مقهور» و»جوكر» يدير العرض المسرحي. يُصاغ النص المسرحي من خلال ثلاثة مشاهد .. المشهد الأول، وهو مشهد البداية وفيه التعريف بالشخصيات، وتأسيس عام، وعرض للقضية ولطبيعتها مع توضيح القهر الذي يقوم به القاهر ضد المقهور .. المشهد الثاني، ويحتوي على جوهر القضية بكل تفاصيلها مع تأكيد توضيح ضغط القاهر على المقهور، ويحتوى أيضا المشهد على تفاقم هذا الضغط ووصوله للذروة، والمشهد الثالث، وهو اليوم الاستثنائي؛ أي اليوم الذي سيشهد حدثا استثنائيا يقوم به القاهر ضد المقهور؛ فينفجر المقهور ضده ويثور عليه. وكأن المسرحية التفاعلية (إطار وذروة وانفجار) وبنظرة عامة نخلص إلى ان النص المسرحي يكون مُعد بشكل مسبق ويناقش قضية محددة لفئة محددة تعاني من مشكلة محددة؛ وبذلك يكون هناك وحدة تركيز الفعل في الزمن؛ بمعنى آخر .. يتم سرد القصة بترتيب زمني وفق حبكة قوية وواضحة، ولكن كما حدثت في الواقع، وعلى فريق العمل عدم الخلط  بين واقعية الصورة التي شهدت حدوث الحدث في الواقع، وبين الصورة الدقيقة للواقع؛ فنحن لا ننقل الواقع كما هو؛ فعند كتابة النص التفاعلي نركز فقط على  قضية رئيسية بشكل واضح دون الدخول في قضايا فرعية، وكلما كانت مدة العرض قليلة وكان التفاعل أكبر؛ كلما حدثت الفائدة، وأغلب الظن المسرحيات التفاعلية تُعرض في مناطق فقيرة ومهمشة، وبالتالي لا حاجة مُلحة لوجود سينوغرافيا – إضاءة وديكور وموسيقى- ولكن وجود بعض الاكسسوارت – وهي أي أيضا عنصر سينوغرافي-  أمر مهم وضروري، ولكنه ليس حتمي؛ كما ان العرض التفاعلي يشترط توفر أركان المسرح الثلاث (مكان العرض ومكان للفرجة وغرض الفرجة) - بحكم انه مسرح- ولكنه لا يشترط توافر شكل هندسي محدد للمسرح سواء بشكله المتعارف عليه أو بأي أشكال آخرى؛ كالعلبة الإيطالية مثلا؛ فمسرح المقهورين يُقدم في قاعات أو ساحات عامة أو في الشارع أو في أي مكان. أهم شيء هو التفاعل، ولكن كيف يحدث التفاعل؟ بعد ان يحدث اليوم الاستثنائي؛ فيثور المقهور ضد القاهر يقوم «الجوكر” بإيقاف العرض المسرحي، ويطلب من الجمهور اقتراح حلول؛ فيبدأ الجمهور في اقتراح حلول من شأنها إيجاد حل للمقهور؛ فيطلب “الجوكر” من كل شخص قام باقتراح حل الصعود إلى خشبة المسرح لمواجهة القاهر، هذا القاهر ما هو إلا نموذج للقاهر الحقيقي الموجود في الواقع، وبالتالي وفور انتهاء العرض التفاعلي نكون أمام فرد شاهد ظلمه وقهره يُعرض أمام عينيه، ولكنه تعلّم كيف يواجه هذا القهر، ومن هذا المنطلق نكون أمام ثلاثة متفرجين الأول: متفرج المسرح الأرسطي، والذي يسلّم نفسه إلى الشخصية الدرامية؛ بحيث تقوم بأداء الفعل والفكر بالنيابة عنه؛ بل ان المسرح الأرسطي «يُطهر» المتفرج من أي فكر ثوري من خلال الإيهام كمرحلة أولى، و»التطهير» كمرحلة ثانية؛ فالشفقة التي يشعر بها المتفرج تجاه البطل، والخوف من الوقوع في نفس مصير البطل، يطهرا المتفرج من أي فعل ثوري. المتفرج الثاني: وهو متفرج المسرح الملحمي – المسرح البريختي- والذي يسلم نفسه، أيضاً، للشخصية الدرامية لتقوم بأداء الفعل بالنيابة عنه، ولكن المتفرج يحتفظ لنفسه بحق التفكير الذي غالباً ما يكون متعارضاً مع فكر الشخصية الدرامية، ويحدث التفكير من خلال «التغريب». والتغريب في أبسط تعريفاته (جعل المألوف غريبا). المتفرج الثالث: وهو (المتفرج / الممثل) والذي يقوم بدور البطولة؛ فيغير في مجرى الحدث الدرامي، ويقترح الحلول، ويناقشها؛ فيدرب نفسه على القيام بالفعل الحقيقي في الحياة من خلال مسرحية تفاعلية مكتوبة بشكل مقصود وموجه يديرها “جوكر” يحفز الجمهور على التفاعل، ولكن من هو «الجوكر» وما هي وظيفته؟ وما هي طبيعة الأفكار التي يطرحها مسرح المقهورين؟ وما هي صفات وخصائص القاهر والمقهور وإلى أي مدى نستطيع تهميش العناصر السينوغرافي؟ وما هي التجارب التفاعلية الرائدة في المجتمع المصري؟. هذا ما سنعرفه في الحلقات القادمة.


مينا ناصف