العدد 733 صدر بتاريخ 13سبتمبر2021
لا جدال حول أهمية مسرح الثقافة الجماهيرية كرافد مساهم فى تكوين المشهد المسرحى المصرى, لا زال يتسم بالبكارة والطزاجة ـ قى بعض عروضه ـ تلك البكارة والطزاجة المكتسبة من روح الهواية والحب اللذان يعمل بهما هؤلاء الهواة الذين لا ينتظرون منه مالا أو شهرة مكتفين بالإستمتاع بذلك السحر الخاطف لهذا الفن الجميل, وذلك الإستحسان لعملهم الذى قد يجدونه فى عيون مشاهد قروى أتى من حقله أو عامل أتى من ورشته, أو فتى ترك لعب الكرة فى الجرن وجاء ليشاهد ماذا يفعل هذا نفر من أهل جيرته.. وفى أحسن الأحوال قد يستمع ويسعد هؤلاء الهواة بكلمة استحسان يلقيها بتعال ناقد يدعى التواضع والمعرقة ساقته الأقدار لمشاهدة هذا العرض أو ذاك, وهو ما يدفع هؤلاء الهواة إلى الإصرار على الإجادة ومواصلة طريق محبتهم للمسرح رغم وعورة مشواره ومتعته فى آن.
ولن نتحدث عن أهمية مسرح الثقافة الجماهيرية فى إطار تحقيق توزيع العدالة الثقافية والفنية بين سكان العاصمة والمحافظات المختلفة, ولا دوره فى إعادة صياغة الوعى الجمعى, فكلها كلمات مع الوقت باتت مستهلة رغم حقيقة ما تعبر عنه, ولكن السؤال الذى بات ملخا ـ فيما نرى عبر متابعتنا لعروض مسرح الثقافة الجماهيرية بما يزيد على الثلاثين عاما ـ هل لا زال مسرح الثقافة الجماهيرية فى مصر يمثل نفس الأهمية التى كان عليها ونشأ من أجلها؟ هل لا زال يقوم بدوره بل بأدواره المنوط بها, وهل لا زال يحقق الأهداف المبتغاة منه؟ ويمكننا أن نورد العديد من الأسئلة المختلفة فى نفس الإطار رغم وعينا بمتغيرات الحراك الحادثة خلال السبعين عاما من عمر هذا النشاط الذى تبنته الدولة وعيا منها بأهميته ورصدت له الميزانيات الضخام, وقيضت له الأكفاء من المسؤولين لإدارته فى أزمنة مختلفة, وحقق نتائج متباينة فى أوقات مختلفة كان معظمها إيجابيا.
ولأن النشاط المسرحى مثل أى نشاط إبداعى ( لا يستطيع أن ينسلخ عن البيئة التى يرى قيها النور.... وفقا لمقولة الناقد المجرى جورج لوكاتش) فإن مسرح الثقافة الجماهيرية ـ رغم التميز الشديد لبعض عروضه ـ بات مخطوفا ولا نغالى إذا قلنا مسروقا, والخاطف السارق هنا هم بعض جهات مسؤولة وبعض أفراد, وإذا كانت تلك الجهات لها بعض العذر لأن عملية خطفها تلك هى فى ذات الوقت تحقيق وأداء لدورها الوظيفى الملقى على عاتقها ولكنها تقوم بهذا الدور بمغالاة وظيفية بحتة لا تقوم على فلسفة وفهم لدورها الحقيقى وبات ما تقوم به ـ بالتراكم الزمنى ـ وكأنه هو الأصل, ما بين آداء رقابى غير خاضع لفلسفة, أو ختى قوانين محددة بل قوانين مطاطة تخضع لفهم الرقيب المتغير وفقا لملابسات الظرفية السياسية والأنظمة المختلفة, وكل ذلك يمكن تفهمه واستيعابه وفقا للظرفيات المختلفة التى يمكن أن تمر بها الدولة المصرية فى حالات حراكها السياسية والمجتمعية المتواترة سريعا فى الربع قرن الأخير, ولا سيما السنوات العشرةالأخيرة منه, والملابسات المحيطة بها التى من نتيجتها أن اختطفت بعض المراكز القيادية المسؤولة عن مسرح الثقافة الجماهيرية من أشخاص ـ أقل ما يقال عنهم ـ غير أكفاء, وغير مؤهلين لتلك المناصب, والبعض منهم قد لا يشكل المسرح أحد همومه, أو اهتماماته سوى بالقدر الذى يخدم به نفسه, ومن الطبيعى أن يتحلق حوله من هم على شاكلته من الجوفائيين وأصحاب الإنتفاخ الفارغ الناجم عن الجهل والثقافة الإنتفاعية وتقديم المصلحة الخاصة على العامة, وليذهب المشروع التنموى الذى تسعى الدولة لتحقيقه الى الجحيم قى سبيل تحفيق مشروعهم أو طموحهم الشخصى المتوارى خلف ضجيجهم وأصواتهم العالية, وفدرتهم على فرض وجودهم الإفتراضى الأجوف الكثيف, ووجودهم الواقعى المغلف يالإنتاج الكمى الخادع وقبض الريح الناجم عنه.
ومن الطبيعى أيضا ـ وهذا الموجع حقا ـ أن يطفو على سطح المشاركين قى صناعة العروض المسرحية بالثقافة الجماهيرية فى تلك الأجواء غير الصحية مجموعة من الخاطفين واللصوص ـ فى كافة العناصر المسرحية والدفع بهم لتصدر المشهد تحت أىة دعاوى غوغائية طنانة دون أن يمتلكوا مهارات المهنة ولا أصالتها من غير القادرين على ابتكار الأفكار أو حتى صناعتها فلا يكون أماهم سوى جهود الغير من عروض سبق وأن شاهدوها هنا أو هناك والسطو عليها إعادتها فى صياغات رديئة للعاية هى إهدار للمال العام وترسيخ للسطو والمنتج الردئ والأمران يتعارضان مع ما يهدف إليه الفن من الرقى بالأخلاق والسلوك العام وتحقيق قيم الخير والجمال والعدل .... الخ القيم النبيلة التى يسعى الفن عموما والمسرح خصوصا الى ترسيخها فى الإنسان والمجتمع بشكل عام.
ولا يصبح غريبا أن نجد بين العروض المسرحية العشر بهذا الموسم بأحد الأقاليم الثقافية الست عرضين اثنين أى ما يعادل الخمس ونصى هذين العرضين لكاتب واحد, ينسبهما إلى نفسه وأبرم عنهما عقدين مع الجهة الإنتاجية, وتقاضى عنهما أجرا, بينما النصين يتماسان تماسا واضحا وكبيرا مع نصين لكاتبين آخرين كانا يملآن السمع والبصر رحمهما الله... وأى قراءة مقارنة بين الأعمال الأصلية والأعمال المتماسة معها (كلمة تماس هنا تعبيرا مهذبا للغاية رغم أنها لا تعبر يدقة عن الواقع المقارن بين الأصل والمأصول أو المسلوخ عنه) بلغ حد استخدام حتى نفس الإسم فى أحدهما إعتمادا على الذاكرة المفتقدة لتوثيق مشهدنا المسرحى التى تغفل أحيانا عن أعمال توقى أصحابها من ما يقارب العشرين عاما أحدهم استشهد فى حريق بنى سويف الشهيربالخامس من سبتمبر 2005, والآ خر توفى فى النصف الأول من تسعينات القرن المنصرم والنصوص متوافرة سواء الأصل أو المأصول منه) وتلك النوعية من الخطف لبعض النصوص, أو بعض العروض غير بعيدة عن خطف المناصب القيادية فى المسرح بل هى وطيدة الصلة بها ربما الفارق بينهما أن الأولى مستهجنة أخلاقيا ومجرمة قانونا, أما الثانية وإن كانت مستهجنة أيضا إلا أنها مقننة فلا يجرمها القانون, رغم ما يترتب عليها من جرائم فى حق الفن المسرحى والمجتمع والتنمية المبتغاة غير ما تهدره من المال العام فى غير محله الصحيح ... إن الجوفائية التى ينطوى عليها أصحابها تجعلهم غير قادرين على كشف جوفائية المتحلقين حولهم بل هم من حرصوا على أن تكون بطانتهم من نفس الشاكلة ونفس الخواء وتجمعهم السطحية و( الولا حاجة ) ومن الطبيعى فى تلك الأجواء أن تجد مخرجين عند مناقشة مشاريعهم المسرحية المتقدمين بها لا يمتلكون رؤى للنصوص المزمعين إخراجها ولا حتى القدرة عند بعضهم فى سرد الحدوتة المسرحية إن صح التعبير, ولما أتيح لنا مشاهدة عروض هؤلاء لم تكن النتيجة مفاجئة, بل جاءت عروضهم هزيلة ومتدنية للغاية على كافة المستويات باستثناء وجود مهارات فردية لدى بعض الممثلين ... فكيف جيئ بهؤلاء وكيف حصلوا على فرصة إخراج عرض مسرحى حتى ولو كان فى إطار الهواة وهو دور لو نعلم خطير بل قد يكون أشد خطورة من التعامل مع المحترفين لأن المحدودية المعرفية لدى الهواة تجعلهم يستقبلون ما يتفوه به المخرجين على أنه من المقدسات الفنية, ومن ثم يساهم هؤلاء فى (تخويخ) عقول غضة تنعقد عليها الآمال المستقبلية.
وإذا كنا أشرنا إلى خطف بعض النصوص من أصحابها فهناك أيضا خطف الفرصة من أصحاب النصوص الجيدة الذين قد يمنعهم عدم القدرة على المزاحمة والإكتفاء بالدور الإبداعى تاركين المساحة الأكبر ليحتلها عديمى الموهبة وتتصدر العديد من نصوصهم التى يعرفون كيفية تسويقها لدى من على شاكلتهم من المخرجين فى حين تظل النصوص الجيدة غير قادرة على التسويق حتى يقيض الله لبعض منها مخرجا جادا يبحث عن الجديد الجيد من النصوص ويصبح الأمر محض صدفة,بينما النصوص الرديئة تملأ السمع والبصر, ولا نعرف كيف يتم إجازتها فنيا والموافقة على إنتاجها (منها اثنين لمؤلف واحد من بين نصوص العروض العشر التى تم إنتاجها هذا الموسم بالإقليم ذاته غير النصين المتماسين نصوص أخرى مما يؤكد فداحة المشكلة) !!!
كما تقع العروض المسرحية بالمناطق الحدودية أيضا فى إطار المسرح المخطوف من بيئته المعروض فيها لتحتلها عروض أخرى غريبة لا ترتبط بالوجدان الجمعى لجمهورها النوعى بتلك المناطق الحدودية ذات الخصوصية المتباينة رغم اشتراكها فى العديد من السمات لكن يظل تباينها الديموجرافى يستدعى مراعاته فيما يقدم من عروض... إذ أن مدينة “رفح” على سبيل المثال وهى منطقة حدودية لا يمكن مساواتها بحلايب أو شلاتين وهما بلدتان حدوديتان كذلك, فمتلقى العرض المسرحى فى مدينة “رفح “ الذى يتعامل ـ بشكل أو آخر ـ مع كيان صهيونى بشكل يومى علينا أن نتوجه له بعروض مسرحية تختلف كلية عن العروض التى يتم تقديمها فى حلايب أو شلاتين فطبيعة الصراع الذى يربطنا بالجانب الآخر ـ هنا أو هناك ـ مختلفة فى الكلية, فإذا كان الصراع فى أحدهما صراع وجود فهو على الناحية الأخرى مجرد صراع حدود يعلو صوته ويخفت من آن لآخر بينما على االناحية الأخرى فهو صراع أبدى مع عدو دائم التربص, ومن ثم تفرض نفسها خلافية العروض المسرحية الواجب تقديمها هنا أو هناك حسبما يراد به التوجه لهذا الجمهور أو ذاك, وينسحب ذلك على العروض الواجب تقديمها فى المناطق الحدودية المختلفة على حدود مصر المتباينة فى ديموجرافيتها.
وقد أدت تلك الأسباب ـ وغيرها ـ من الإختطاف إلى خطف الجمهور من حول العروض المسرحية بالثقافة الجماهيرية ـ إلا القليل من العروض ـ وعلينا أن نعترف بتلك الحقيقة دون أن تخدعنا بعض الصور المزيفة والكاذبة التى تبناها أصحاب شعار «المسرح للجمهور» وكأنهم أتوا بما لم يأت به أحد قبلهم, وكأن المسرح كان لغير الجمهور, فالمتابع لمسرح الثقافة الجماهيرية فى الأقاليم ـ كلجان التقييم ـ يستطيع أن يضع يده ببساطة عن انصراف الجماهير عنه ـ إلا فى النادر من العروض ـ ناهينا عن نصاب أيام العروض غير المكتملة, وفى بعض المواقع تكون ليلة العرض فى وجود لجان التقييم هى الليلة الأولى والأخيرة للعرض والوقوف على تلك الحقيقة ليس من الأمر العسير.
ومن العار علينا جميعا كمسرحيين أن يشملنا الصمت والتسليم بالوضع الراهن والتعامى عن الواقع دون أخذ خطوات فاعلة تعيد إلينا هذا المخطوف (مسرح الثقافة الجماهيرية وجمهوره) وإخضاعه لدورة علاجية جادة تشارك فيها الأطياف المسرحية الجادةوتؤخذ مأخذ الجد ولا نتهاون فى تنفيذها للمشاركة بدوره الصحيح فى التنمية المجتمعية والثقافية التى نسعى إليها, ولعل وجود رجل مسرحى على رأس جهاز الثقافة الجماهيرية يكون فاعلا فى إعادة ذاك المخطوف إلى أهله.