ديفيلية 19.. صرخة ضد كوفيد 19

ديفيلية 19..  صرخة ضد كوفيد 19

العدد 748 صدر بتاريخ 27ديسمبر2021

لم يكن وباء الكورونا أول وباء يمر على الكرة الأرضية، فقد سبقه الطاعون والكوليرا، جميعها أوبئة أخذت في طريقها حيوات بشر، ولكنها منحت الفنانين والأدباء المادة والإلهام والوقت كي يبدعوا، فنجد في الروايات «الطاعون» لألبير كامو، وفي اللوحات كانت لوحة «الكوليرا» الوباء الأسود للفنان البلجيكي أنتوان وارتز، يظهر باللوحة شخص يخرج يديه من التابوت الذي وُضع به، كل هذا وأكثر بكثير هي إنتاجات وإبداعات ما بعد الأوبئة وتأثيرها، ولكنها إبداعات اتسمت بالكآبة والحزن المخيم إثر الحدث والموت.
أما عن السينما، فتم إنتاج فيلم عن الإيدز، صحيح أنه كتجربة فنية مؤسفة، ولكنه يظل فيلما عن أحد الأوبئة التي غزت العالم. أما عن المسرح، فقد تجد تجارب تؤرخ وتصور المشهد العالمي الذي حدث بحلول هذا الوباء المستمرة آثاره إلى الآن، ولكنك لن تجد مبدعا يرسل لك قبلة في الهواء تحمل رسالة «أحب الحياة يا عزيزي رغم الوباء والموت»، هذا المبدع هو وليد عوني مؤسس فرقة الرقص المسرحي الحديث والمعاصر، وهو مصمم ومخرج عرض «ديفيليه 19» الذي تم تقديمه ضمن عروض مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي بدورته الـ28. 
وإذا كنت تظن أن كلمة قبلة التي ذكرتها هي وصف اختلقته أثناء كتابتي، فقد خُدعت، لأن هذا ما حدث بالفعل وبدأ به العرض، حيث نجد وليد عوني نفسه يلقي قبلات في الهواء، ومن ثم الفرقة بأكملها تصطف في مقدمة خشبة المسرح توزع القبلات على جميع الحضور، إلى أن يصل الأمر بأحدهم أن ينزل من على الخشبة ويمسك به زملاؤه في صراع ومشهد كوميدي معه، ومن هنا تبدأ المشاهد المتلاحقة التي من خلال الرقص وحده عبرت عن وباء الكورونا وأثره؛ بل وكشفت نفاق البعض مع الموت حين ترد إحدى الفتيات على التليفون متلقية خبر وفاة أحدهم، بعد صدمتها ينكشف الزيف مع عبارة (أخد الشر وراح أحسن). 
إذا كنت تبحث عن حدث في عرض «ديفيليه 19»، ستجد أن وليد عوني يقدم بدل الحدث اثنين: الأول هو الديفيليه الذي يعمل على بروفاته مع فرقته، والثاني هو حين تستبدل كلمة ديفيليه بكوفيد، وهذا أول مستوى من مستويات السخرية من الوباء وأثره يقدمها وليد عوني. 
وبما إنه ديفيليه وكوفيد، فقد اعتمد الديكور على استاندات الملابس؛ منها الثابت في خلفية خشبة المسرح، ومنها المتحرك المستخدم على خشبة المسرح، حتى إنه استخدمها بديلا لغلق الستار أو الإظلام في النقل بين مشهد وآخر، إلى جانب وجود المرايات سواء الثابتة في جانبي المسرح أو الدائرية الصغيرة المستخدمة في أحد المشاهد. أما عن الموسيقى، فكانت حية أمام أعيننا عبر جهاز (دي جي)، وإيقافها كان بالأمر المنطوق من وليد عوني نفسه أو أحد أعضاء الفرقة. 
وبما أن الحدث الأساسي هو ديفيليه، فكانت ركيزة العرض الأساسية هي الأزياء وتعدد الألوان وبهجتها، وعلى الرغم من أن الربط بين المشاهد كاد يسقط إيقاع العرض بسبب أنه ربط واهٍ، فإنك لن تخرج من الحالة التي يغمسك بها وليد عوني من بداية العرض إلى نهايته. 
لم يكن العرض نابضا بالحياة وحبها فقط؛ بل هو عرض صارخ، إذا كانت عبر الألوان فقد اختار أن يكون الحذاء ذو الكعب العالي للراقصات أحمر اللون، والكراسي الخشب التي كانت ضمن الديكور ولها استخدامها سواء بالجلوس عليها أو الرقص بها، كانت حمراء أيضا، وعلى المستوى الفعلي وليس الدلالي تم إطلاق صرخة من الراقصات بعد عرض الديفيليه الأول، كانت هذه الصرخة هي الانطلاقة لوجود وباء الكورونا وتأثيره وظهور الأطباء، فالعرض بدأ بوجود فستان زفاف لا نعلم مصيره، وبعدها نجد العروس في حالة إغماء أو موت، ويليها مشهد لفتاة أخرى مرتدية اللون الأحمر أيضا، ولكن كان مصيرها الإنعاش وجهاز الأكسجين. 
فقد كان جهاز الأكسجين من أهم قطع الإكسسوار الدالة على الكورونا، يليه الكمامات وطاولة مليئة بالمطهرات وبكر المناديل التي ألقيت على الجمهور في نهاية العرض، لم يكتفِ بالإكسسوار ولكن التعبير الجسدي وهو الأهم في مسرح وليد عوني خصيصا أو الرقص التعبيري عموما، فعبر الرقص مثل لنا وسائل الوقاية من الفيروس كغسل الأيدي وارتداء الكمامة، أما بالكلمة المنطوقة فالعبارات البسيطة كانت «البس الكمامة» تنطق عنيفة كعنف تفشي الفيروس عالميا، و»بحبك تتجوزيني طب اقلعي الكمامة». 
لقد كسر وليد عوني الحاجز الرابع ليس فقط ببداية العرض والمشهد الافتتاحي والقبلات الملقاة في الهواء لجمهور العرض، ولكن بمشهد لإحدى بطلات العرض ظهرت بفستان مصنوع من الصور، كفكرة الفستان المصنوع من الجرائد التي انتشرت في صيحة الموضة، تحدثت مع الجمهور مباشرة عن هل التمثيل صعب أم سهل، وقصت علينا حكايتها من راقصة باليه إلى راقصة بفرقة وليد عوني للرقص المعاصر الحديث، وتأثير الكورونا على الفرقة بعدما كانوا يتجولون بفنهم في بلاد كثيرة، تم منع السفر. 
لم يكن منع السفر هو تأثير الكورونا الوحيد الذي عبر عنه العرض، فقد عبر عن فترة منع القهاوي و(الشيشة) فقط بقطعة إكسسوار هي شيشة موصول في منتصفها سلاح رشاش، ولكن الممتع في العرض أن التعبير عن الوباء تم بسخرية، كانت سخرية من الحياة. 
حتى فكرة وجود المصل المضاد للفيروس، التي ليست أساسية للوقاية فقط؛ بل أساسية أمام الفعاليات الاحتفالية كحفل لمغنى جاز، أو حتى فعالية مسابقة ملكة جمال العالم التي جعل مصر تفوز بها، ولكن تصدى وليد عوني للوباء ليس فقط بالسخرية والرقص والكرنفالية، إنما بالعودة للتراث والقصص الشعبية كوجود شهرزاد وشهريار، أو حتى الساحرة الشريرة من قصة سنووايت عندما تقف أمام المرآة وتسأل «يا مرايتي يا مرايتي مين أحلى واحدة»، كما لو كان الوباء هو أيضا سيصبح قصة وأسطورة يطويها الزمن وتحكيها الأجيال.
ولكن ما يميز العرض أنه خرج من دائرة الخاص وتأثير الوباء على مصر فقط أو الفرقة فقط، ولكنه أحضر كرة مطاطية كبيرة كانت هي الكرة الأرضية، والرقص والموسيقى واللغة لم تكن شرقية فقط، فتارة تجد الرقصات والزي الهندي، وتارة تجد مشهدا لمعلمة فرنسية تعلم الأولاد الباليه، فالكارثة كانت عالمية. 
أما عن حالة الكرنفالية والختام التي انتهى بها العرض، لم تكن على خشبة المسرح فقط، ولكن نزل الراقصون إلى الصالة إلى جانبي الجمهور، كي تكون نهاية ورسالة مفتوحة تدعو إلى حب الحياة رغم هول ما تفعله بنا الحياة. 


سارة أشرف