التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (1) النشأة والاختلاف

التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (1) النشأة والاختلاف

العدد 792 صدر بتاريخ 31أكتوبر2022

من الموضوعات المهمة التي كنت أتمنى أن أنجزها - قبل فوات الأوان وحلول لحظة الفراق - أن أكتب عن تاريخ «مسارح روض الفرج»، لأنني أعلم أن الموضوع صعب ومُرهق ويحتاج إلى فريق عمل كبير، لذلك قررت أن أقوم بالمهمة وحدي كالعادة، لأنني أعرف كيف أؤرخ لهذه المسارح بصورة ترضيني شخصياً على المستوى العلمي والتاريخي.
والمشكلة التي صادفتني هي من أين أبدأ؟؟ هل أبدأ بالفرق أم بالأشخاص أم بالمسارح أم بالكازينوهات .. إلخ التفاصيل الموجود في هذا المكان، لا سيما وأنني سأغطي حوالي 34 سنة من القرن العشرين، وتحديداً من عام 1922 إلى 1956. وأخيراً قمت بتصنيف المادة إلى قسمين: الأول يتعلق بأشهر الفرق التي عملت في مسارح كازينوهات روض الفرج، أمثال: فرقة يوسف عز الدين، وفرقة علي الكسار، وفرقة فوزي منيب، وفرقة عبد اللطيف جمجوم .. إلخ. والقسم الآخر يتعلق بمسرح المهمشين في روض الفرج، وأوضحت مفهومي لكلمة «المهمش» مسرحياً! والقسمان يكمل أحدهما الآخر، وقد التزمت بالترتيب التاريخي للفرق من خلال ظهورها في روض الفرج، بناء على ما بين يدي من وثائق وإعلانات ومقالات!! وكان لا بد في البداية من كتابة مقدمة أو تمهيد أبيّن فيه كيف بدأت روض الفرج في الظهور، وتحديداً «ساحل روض الفرج»!!

البداية ذكرها الجبرتي
تحدث الجبرتي في تاريخه عام 1808 عن «ساحل الغلال» عندما شرع الباشا في صناعة المراكب، فأنشأ ترسانة بساحل بولاق بها الصُناع والنجارين والنشارين لصناعة المراكب والسفن. هذا ما ذكره الجبرتي .. ونستطيع أن نتخيل أن هذه الترسانة بما فيها من مئات أو آلاف العمال لصناعة المراكب والسفن، بالإضافة إلى أنها بجوار ميناء الحبوب والغلال المعروف بساحل الغلال – ومنه جاءت تسمية «ساحل روض الفرج» - وما فيه من عمال نقل وتفريغ وتخزين وحراسة .. إلخ، وكل هذه العمالة تحتاج إلى خدمات بشرية متنوعة، مثل: أكشاك لبيع المأكولات، ومقاهٍ لشرب الدخان، وأماكن للمبيت أو السهر والتسلية .. إلخ.
ومن هنا ظهرت المقاهي الشعبية في ساحل روض الفرج، وكانت تحتل كورنيش النيل، وأغلب زبائنها من طبقة عمال الترسانة وعمال ساحل الغلال. وظل الأمر هكذا حتى قيام الحرب العالمية الأولى، عندما توترت الحياة في القاهرة، وتم إغلاق أكثر المسارح والصالات، وأصبح السهر ممنوعاً .. إلخ الإجراءات المعروفة في مثل هذه الظروف. هنا ظهر شقيقان من الجالية اليونانية – التي تعيش في مصر – أحدها اسمه «الخواجة يني» والآخر «الخواجة نيقولا»، ونجح الشقيقان في شراء قطعتين شاسعتين متجاورتين من أرض ساحل روض الفرج، وبنى كل منهما عليها بناءً خشبياً مع رصيف مميز، بحيث كان الرصيف يطل على النيل وكان مفروشاً بمناضد حديثة وكراس مخصصة للحدائق، وبذلك تحول رصيف كل بناء إلى قهوة تم تخصيصها للغناء الشعبي أولاً، ثم تحولت مع الزمن إلى صالة غناء ورقص واستعراضات فنية، سنتحدث عنها كثيراً فيما بعد! أما البناء الخشبي، فكان مسرحاً يُقدم عليه كافة أنواع التمثيل والاستعراضات. وكانت جموع الناس تزدحم على مقهى ومسرح كل بناء بصورة كبيرة ابتداءً من العصر إلى قبيل الفجر يومياً.
وما جعل الزبائن تتزاحم على المكانين، أن الخواجة يني جعل الدخول إلى المقهى لسماع الأغاني الشعبية مجاناً، ولكن بثمن المشروب!! وفعل الأمر نفسه شقيقه الخواجة نيقولا وجعل دخول المسرح نفسه – خلافاً للقهوة - مجاناً ولكن بثمن المشروب أيضاً! وثمن المشروب خمسة قروش!! وبمرور الوقت أصبح المكانان لا يستوعبان إقبال الجمهور الكبير يومياً، فضم الشقيقان إليهما أحد أقاربهما وافتتح مكاناً ثالثاً بجوارهما لاستيعاب الإقبال الجماهيري في الصيف .. وبفضل هؤلاء اليونانيين ظهر في تاريخ المسرح المصري، ما يُعرف بمسارح روض الفرج التي كانت ضمن الكازينوهات، وهي: «كازينو مونت كارلو» و«كازينو سان أستفانو» و«كازينو ليلاس»، بالإضافة إلى ما ظهر بعد ذلك من أماكن في روض الفرج أيضاً، مثل: «كازينو ميرامار» و«حديقة أفكاروس».

اختلاف الروايات
ما سبق من معلومات، أعدّها أصدق وأدق معلومات عن نشأة مسارح روض الفرج! أقول هذا لأنني لا أميل غالباً للروايات التي تأتي من آخرين، أو التي يسمعها الشخص من آخرين بعد حدوث الرواية بعشرات السنين!! لأنني على ثقة بأن الحدث إذا مرّ عليه أكثر من أربعين سنة فمن الصعب تذكر تفاصيله بدقة مهما كانت الذاكرة واعية، فما بالنا لو الحدث مرّ عليه أكثر من نصف قرن، وأن من ينقله لم يشاهده بل نقله بالسماع من آخرين!! أقول هذا من خلال نموذجين وجدتهما عن نشأة مسارح روض الفرج، تأكدت من عدم مصداقيتهما، وعدم القطع بأحداثهما!
النموذج الأول مؤرخ عام 1951، عندما نشرت مجلة «الكواكب» مقالة عنوانها «الملاهي الصيفية في القاهرة»، جاء فيها: «.. عندما يأتي فصل الصيف تبدأ الفرق المسرحية في الرحيل إلى المصايف أو العمل على المسارح الصيفية التي أُنشئت في القاهرة. وأول مسرح صيفي عرفته القاهرة هو مسرح مونت كارلو الذي أقامه أحد اليونانيين في عام 1915، وقد بُني من الخشب على ساحل روض الفرج. وقد عرض صاحب المسرح على المرحوم الشيخ «سلامة حجازي» أن يعمل عليه بفرقته، ولكنه رفض اعتقاداً منه أنه لا يمكن للفنان أن يعمل، ولا يتاح للجمهور أن يستمتع بالتمثيل والغناء في مكان غير مسقوف. ولما لم تفلح جهود صاحب المسرح في إقناع الشيخ سلامة، اتجه إلى المرحوم نجيب الريحاني الذي رحب بالفكرة وكون فرقة مسرحية عمل بها على هذا المسرح فلاقت إقبالاً كثيراً من الجمهور الذي رأى أن في إمكانه أن يستمتع بالتمثيل في جو لطيف».
هذا النموذج يحمل أمرين: الأول أن الشيخ سلامة حجازي رفض التمثيل أو الغناء في مسارح روض الفرج، وهذا أمر لم أتأكد منه - رغم منطقية قبوله – حيث إنني تتبعت – في كتاباتي السابقة – كل تاريخ سلامة حجازي التمثيلي، ولم أقف على معلومة تقول إنه رفض التمثيل في مسارح روض الفرج، أو أن علاقة ما ربطته بمسارح روض الفرج!! ورغم ذلك القصة مقبولة لما هو معروف عن الشيخ من اعتزازه بكرامته كونه فناناً قديراً.
أما المعلومة الأخرى، وهي أن نجيب الريحاني مثّل في مسارح روض الفرج! وهذا أمر لم أقرأه من قبل ولم أسمع به!! ناهيك عن أن الريحاني لم يذكر شيئاً بهذا الخصوص في مذكراته! ورغم ذلك يجب علينا أن نعترف بأن الريحاني كتب عدة أسطر في مذكراته عن روض الفرج، قال فيها تحت عنوان «كشكش الأصلي» الآتي:
«.. وفي أحد الأيام نصحت لي بديعة أن نتسلى بشم الهواء في مصيف روض الفرج فرافقتها، وما كدنا نصل حتى طرق أذني صراخ شخص يوزع رقاع إعلان وهو يقول بصوته المنكر: «إلّحَق هنا يا جدع، تعالى شوف كشكش الأصلي يا جدع، هنا ملك الكوموكودو – أي والله هكذا قال – إلّحق قبل ما يلعب». وتراءى لبديعة أن تقف هنيهة لتناقش ذلك «الإعلانجي» في صيغة ندائه، ولم يكن بالطبع يعرف شخصيتها، فجرى بينهما الحوار التالي: بديعة: لكن يا أخينا (كشكش الأصلي) في عماد الدين مش هنا. الإعلانجي: لا يا ستي هانم. دكهه تقليد، لكن الأصلي هنا. بديعة: طيب وإزاي الأصلي يهزأ نفسه في روض الفرج، ويسيب التقليد يتمتع في عماد الدين؟ الإعلانجي: وإيه يعني عماد الدين يا ست. فيه في الدنيا أحسن من روض الفرج؟ دا روض العشاق يا هانم ..! ورأيت أن الخناقة قد تطول وتتشعب البحوث فتجر إلى توتر العلائق بين كشكش الأصلي وبين حرم كشكش التقليد، اللي هو أنا، فجذبت بديعة ودخلنا لنشاهد «الكوموكودو» كشكش اللي مش تقليد!! ورفع الستار وظهر «المبروك»، فرقص ومثل وغنى وأنشد، فكدت أطير .. لا من السرور، ولكن لأن كشكش ذلك الاسم الذي كنت أعتز به أضحى على هذه الحال من الهوان، يتلاعب به مثل هذا الإنسان «ويمرمغ» به الأرض. ولست أخفي على القارئ أنني لولا وجود بديعة إلى جانبي في تلك اللحظة، يعلم الله أنني ربما ألقيت نفسي في النيل منتحراً، وبلاش الغلب الأزلي ده!! نهايته. كانت هذه السهرة «الروض فرجية» سبباً في القضاء على ترددي في السفر، فلم ينقض الليل، حتى كنت في صباح اليوم التالي قاصداً إلى قلم الجوازات، لاستخراج جواز السفر لي ولبديعة».
الشاهد هنا أن الريحاني لو كان اشتغل في روض الفرج لكان الأولى به أن يذكر ذلك في هذا الموضع من مذكراته لأنه الأنسب! بل وكان الأفضل له أن يُقارن بين ما قدمه هو في روض الفرج، وبين ما قدمه كشكش بك الآخر! وهذا يثبت أنه لم يعمل في روض الفرج، ويثبت أن الرواية المذكورة في مجلة الكواكب غير صحيحة بالنسبة لنجيب الريحاني، ومشكوك فيها بالنسبة لسلامة حجازي!!
الطريف أن مجلة «الكواكب» نفسها نشرت مقالة أخرى في أواخر الستينيات كتبها «حسين عثمان» بعنوان «أقسم الشيخ سلامة حجازي فأصبح روض الفرج مصيفاً»!! والطرافة المقصودة أن المعلومات المنشورة فيها تخالف تماماً ما نشرته المجلة نفسها من قبل!! فكاتب المقالة – حسين عثمان – قال الآتي:
«.. قبل 60 عاماً لم تكن القاهرة عرفت الملاهي الصيفية، وكان أصحاب الملاهي في حي الأزبكية يغلقون أبوابها طوال فترة الصيف، ولا يبقى في هذا الحي غير الحانات ومقاهي الرقص، وكان بعض نجوم الغناء والتمثيل يسافرون في رحلات طويلة إلى البلاد العربية أو يطوفون بعض بلاد الوجه البحري، وكان بعض الأثرياء يصيفون في «ذهبياتهم» [العوامات] التي ترسو على شاطئ ترعة المحمودية بالإسكندرية، ليحيوا سهراتهم الصيفية. أما أهالي القاهرة فقد كان لهم شواطئ النيل ما يخفف عنهم حرارة الصيف. وفي سنة 1905 اختلف الشيخ سلامة حجازي مع متعهد فرقته للسفر إلى الشام، وألقى الشيخ سلامة يمين الطلاق بألا يسافر إلى الشام لحساب هذا المتعهد، وكان يمين الطلاق سبباً في إنشاء مصيف فني في القاهرة. فقد فكر الشيخ سلامة حجازي في الاستمرار في العمل بالقاهرة، وعرف أن بعض اليونانيين يقيمون في روض الفرج بجوار البناء الذي ترسو عليه المراكب النيلية مقاه كبيرة، يقضي فيها ركاب هذه المراكب وأصحاب البضائع سهراتهم، واتفق الشيخ مع أحد أصحاب هذه المقاهي على أن يحول مقهاه إلى مسرح تعمل عليه فرقته، وأعد صاحب المقهى عدته، وبنى مسرحاً خشبياً، لكن الشيخ فوجئ بمرض أرقده في البيت، لكنه أوفى بوعده مع صاحب المقهى، فعملت الفرقة بدونه مدة شهرين على هذا المسرح، وأقبل الناس على الفرقة، ونجح موسمها الصيفي نجاحاً فاق موسمها الشتوي نفسه، واستمر الشيخ يعمل على نفس هذا المسرح في الصيف التالي، وبدأ أصحاب المقاهي الأخرى يقلدونه، ولم يكن الأمر يكلفهم إلا بناء قاعدة من الطوب وعليها مسرح خشبي، وتحويل المقهى إلى صالة للمتفرجين، وتنافس أصحاب هذه الملاهي على الاتفاق مع الفنانات والفنانين وراقصات ملاهي الأزبكية ومطربيها، وظلوا يحيون سهرات الصيف في روض الفرج طوال خمس سنوات، حتى قامت الحرب العالمية الأولى، وتوقف نشاط هذه المسارح بالنسبة للشعب، وخصصت للترفيه عن الجنود الإنجليز وحلفائهم».
أغلب المعلومات المذكورة صحيحة إلا قصة تمثيل الشيخ سلامة حجازي!! لأن المجلة نفسها ذكرت من قبل أن الشيخ سلامة رفض رفضاً تاماً التمثيل في روض الفرج! وهنا نكتشف أن فرقة الشيخ مثلت موسماً صيفياً كاملاً في روض الفرج، وفي الموسم التالي مثلت الفرقة أيضاً مع الشيخ سلامة حجازي نفسه!! وهو الأمر الذي لم أجده ولا في أي خبر أو إعلان يتعلق بسلامة حجازي أو فرقته، لا سيما وأنني تابعت «جميع» الأخبار المنشورة عن الشيخ سلامة حجازي وفرقته منذ بدأت في الظهور عام 1905، فلم أجد أية إشارة عن روض الفرج!! والغريب أن الكواكب تقول إن فرقة الشيخ مثلت موسمين متتاليين في روض الفرج! وهو أمر لو حدث لوجدت عنه عشرات الأخبار!!


سيد علي إسماعيل