أفراح القبة.. ماذا لو سقطت الأقنعة؟

أفراح القبة..  ماذا لو سقطت الأقنعة؟

العدد 770 صدر بتاريخ 30مايو2022

تحجز كلمة «الشرف» بأبعادها وظلالها المتعددة، مكانًا خاصًا في الأدبيات الكبرى، سواء في الكتابة السردية أو النصوص المسرحية ـ كذلك الأعمال الدرامية، ويأتي ذلك من كون الكلمة مثيرة للجدل، بارتباطها بالقضايا الوطنية والمرأة معًا، وبشأن الأخيرة، تتساوى الثقافات البدائية في ربط الشرف بالنساء خاصة أجسادهن، وهي ليست ثقافة شرقية فحسب، إنما سمة تصيب الثقافات في بدائيتها، وفي مسرحية «السيد» للفرنسي كورنيل والمكتوبة في القرن السابع عشر، تقوم على فكرة الشرف وغسل العار، إذ يتوجه «دون ديك» إلى «رودريك» ويقول «تعال يا ولدي، تعال يا دمي، تعال اغسل عاري».
الشرف مفهوم معقد ومركب، غير متفق على إطار جامع مانع له، بل يمكن القول بشيء من الاطمئنان أنه مفهوم يستعصي على المفهمة conceptualization، فهناك من يضعه تاجًا على رأسه، وهناك من يتخذه وسيلة للوصول إلى غايته ومبتغاه، ومن خلال هذه البوابة يمكن قراءة «أفراح القبة» لـ«نجيب محفوظ» وصداها في الأعمال الدرامية والعروض المسرحية.
ومن المعالجات التي قدمت على خشبة المسرح لنص «محفوظ»، مسرحية «أفراح القبة»، من إنتاج مسرح الشباب بالبيت الفني للمسرح، معالجة وإخراج محمد يوسف المنصور.

النص الروائي
بالعودة إلى الرواية، نود أن نذكر أنها صدرت عام 1981، واعتمد فيها محفوظ على تقنية تعدد الأصوات «البوليفونية»، التقنية التي بدأ صاحب نوبل في استعمالها منذ 1966 في رواية «ميرامار» وهي تقنية تفتح أمام الراوي فسحة رحيبة وتتيح له حرية الحوار والبناء، غير مقيد بأسلوب واحد في القص، كما يتراجع فيها السارد التقليدي، لتقدم أصواتٍ متعددة، وتجبر القارئ، ومن بعده المتفرج في صالات المسرح، على المشاركة الإيجابية.
وقسمت الرواية إلى أربعة فصول، يروي كل فصل منها بطل من أبطال العمل، الأول «طارق رمضان» ممثل، والثاني «كرم يونس» ملقن، والثالث «حليمة الكبش» بائعة التذاكر، والرابع «عباس كرم يونس» مؤلف، على أن تلك الشخصيات تتقاطع في قصصها مع شخصيات أخرى مؤثرة في أحداث الرواية، هي «تحية» ممثلة، و«سرحان الهلالي» صاحب فرقة مسرحية، و«أم هاني» مسؤولة الأزياء في المسرح، و«أحمد برجل» مسئول البوفيه، و«فؤاد شلبي» الناقد الفني، و«درية» ممثلة، و«إسماعيل رشدي» ممثل، و«سالم العجرودي» مخرج.
تبدأ الرواية من داخل المسرح المملوك لـ «سرحان الهلالي» مدير وصاحب الفرقة، الذي يقرر تقديم مسرحية (أفراح القبة) التي ألفها عباس كرم يونس المؤلف وابن ملقن الفرقة، وما أن يبدأ الممثلون البروفات حتى يفاجئون بأنها تتناول أحداث حياتهم الشخصية، وتكشف العديد من المواقف والتفاصيل الفاضحة بكل ما تحتويه من عنف وفساد وانحطاط أخلاقي، رغم أن الجميع يلوك مفهوم «الشرف» ودائمين الحديث عنه، ومع محاولتهم لوقف العرض، فإن سرحان الهلالي يُصر على استكمال العمل لكي يتطهر من الماضي وآثامه، ويجد الممثلون أنفسهم مجبرين على الاستمرار في تمثيل أدوارهم الحقيقية.
يحاول جميع أبطال العمل أن يحكى قصته من وجهة نظره، من خلال نظرة أنانية لا تقوى على نقد الذات، فيلقي كل منهم اللوم على الآخرين، ويعمل على تنزيه نفسه من الأخطاء التي وقع فيها حتى لو كانت تمس الشرف، وتتكامل الأحداث والصورة التي يحاول من خلالها المؤلف من مجمل ما يرويه الأبطال تفنيد الأسباب والدوافع وراء أفعالهم بما تحمل من تناقضات ما بين الخير والشر معًا.
 وربما السؤال الذي حاول «محفوظ» أن يصل إلى إجابة واضحة عنه من خلال تناوله الفلسفي للعمل: ما الحقيقة؟، لننتهي إلى أنه لا توجد حقيقة مطلقة ولا ثابتة ولا متفق عليها، وإنما الحقيقة نسبية، متعددة الزوايا، وكلًا منا له حقيقته الخاصة، الأمر ذاته كالشرف نسبي، وما يراه أحدهم مخلًا بالشرف قد يمارسه أخرون بوصفه أمرًا طبيعيًا.
ومن المعروف أيضًا أن صاحب «الثلاثية» درس الفلسفة ومُطلع على العديد من أراء كبار الفلاسفة، ولعل رؤيته التي طرحها تتوافق مع المنظور الذي طرحه من قبل الفيلسوف «إيمانويل كانط» عندما سأل عن معيار الحقيقة، فأكد أنه (لا يمكن أن يوجد معيار مادي للحقيقة لأن الحقيقة المادية هي تلك المطابقة لموضوعها، والحال أن موضوعات الحقيقة تختلف وتتعدد مما يتعذر معه وجود معيار كوني لها).

المعالجة الدرامية
في عام 2016، عرضت الشاشة الصغيرة، مسلسلًا يحمل الاسم نفسه «أفراح القبة»، في 30 حلقة تمثل نحو 18 ساعة، كتب السيناريو والحوار محمد أمين راضي ونشوى زايد، وأخرجه محمد ياسين، ومن بطولته منى زكى، إياد نصار، والتزم العمل إلى حد كبير بالحبكة الدرامية التي وضعها «محفوظ» في روايته، إلا أنه أضاف بعض الشخصيات مثل «عبده» والد «تحية»، ووالدتها «بدرية»، وأختاها «سنية» و«علية»، وزوج أختها «أشرف بشندي»، مما أضاف بالتأكيد أبعادا درامية أخرى عن التي جاءت في الرواية، ومختلفة عن التي جاءت على لسان أبطال «محفوظ» الأربعة.
المسلسل زاد أيضًا من مواقع الحدث، إذ صرنا نرى أحداثًا تدور داخل كباريه وأخرى عن الدعارة تخص عائلة تسكن في حي شعبي، متطرقا إلى مشاهد وزوايا أخرى تخدم رؤية صناعه ولم يتطرق إليها «مؤلف الرواية» مثل مشهد وفاة «جمال عبد الناصر» وصدمة مصر في رحيل زعيمها، إضافة لمشهد والد «تحية» وممارسة المثلية، بوصفه أحد المشاهد المحورية في العمل ولعب دورًا في تغيير مصير البطلة «تحية».
المسلسل أيضا تتبع أسلوب تعدد وجهات النظر، وسرد الواقعة على أكثر من وجهة نظر، إضافة إلى أنه استغل تعدد الرواة ليكمل القصة وكأنها «لعبة بازل»، وإن عانى من كونه تأليفًا أكثر من سيناريو معالج فضلًا عن إمكانية معالجته في عدد ساعات درامية أقل.

العرض المسرحي
جاء العرض في قالب درامي هزلي، ومعالجة تسبر أغوار نفسية الإنسان وتناقضاته، وتكشف عن انعدام الغاية من وجوده، ليبقى في صراع دائم، هل كان ذلك نتيجة أخطائه أم وقع ضحية تصرفات وتعامل الآخرين؟ ثم نرى في النهاية أن الواقع أحيانًا يكون أكثر دهشة من الخيال.
والتزم العرض المسرحي بالخط الدرامي الذي بناه نجيب مسبقًا، مستفيدًا من معالجة محمد أمين راضي ونشوى زايد من قبل، في طرح القصة من وجهات نظر مختلفة وعلى لسان أبطال، فيما خلق المخرج، حبكة واقعية لتترابط الأحداث، مستعيضًا عن السرد الدرامي على لسان الأبطال بالإعداد للمسرحية التي يعترض كل بطل عن تأدية مشهده، ويحاول عرض مبرراته والأسباب الحقيقة وراء فعلته من منظوره الخاص، فتكشف لنا الأحداث عن الوجه الآخر لكل شخصية والرغبات الشريرة والرؤى السيئة والضغائن التي كان يحملها كل منهم للآخر، وهو ما جعل عدة مشاهد تتكرر بسبب تقاطعها مع أكثر من بطل، وجسد كل منهم مشهدًا ليربط بين الحاضر الذي يعيشه والماضي الذي كان سببًا فيما وصل إليه.
 واكتفى العرض بالشخصيات الأساسية والثانوية التي وضعها محفوظ في روايته بعيدًا عن معالجة المسلسل الدرامي، لكنه أعطى مساحة أكبر لبعضهم مثل «سرحان الهلالي» الذي جسده باحترافية كبيرة الفنان عبد المنعم رياض، وظهر في نهاية الأمر متحكمًا في الأحداث وفى مصائر أغلب الشخوص، ويسيرها حسبما يريد من أجل مصالحه الشخصية وأغراضه الفاسدة، مع وضع العديد من الخطوط الدرامية الإضافية لتعميق قصص الحب والكراهية والخيانة.
كذلك دارت أغلب أحداث العرض مقسمة ما بين مسرح فرقة الهلالي ومنزل «كرم يونس» وزوجته «حليمة الكبش»، الذي جاء منقسمًا إلى دورين؛ الأول حيث يعيش كرم وحليمة وعباس ومن قبلهم أم كرم الأكثر تأثيرًا في حياة الابن. والطابق الثاني ينقسم إلى اتجاهين الأول ينتهي إلى طاولة القمار والثاني إلى حجرة طارق، وهو ما يمكن أن نقرأه إشارة إلى التقسيم الطبقي للشخصيات في العمل، كما يقسم المنزلَ «سلمُ» يبدأ متفرعًا في اتجاهين ثم تتلاقى درجاته في اتجاه واحد، وكأنه تعبير أن الحياة لها طريق واحد، ونحن من نختار مصائرنا التي نتجه إليها.
نلاحظ أن العرض حاول أن يقدم شخصيات تتماس في تكوينها النفسي والاجتماعي مع بعض شرائح المجتمع في حقبة الستينيات، وهي المرحلة الزمنية التي تدور في إطارها أحداث الرواية، مبرزًا التناقض بين الخطابات المجتمعية والممارسة المتناقضة مع هذه الخطابات، بين القول والمسكوت عنه، ليقدم لنا سياقًا يعيش بوجهين، ولا نبالغ إن قلنا بـ«مئة وجه».
في العرض نرى من تقدم نفسها على أنه ابنة أحد الباشوات وهي في حقيقة الأمر من أسرة بسيطة تسكن حيًا شعبيًا، و«سرحان الهلالي» دائم الحديث عن الشرف (أكثر الكلمات ترديدًا على لسان أبطال العرض)، وشخصيته أبعد ما يكون عن الشرف، ربما كان إشارة إلى أولئك الذين يلوكون الشعارات والقيم المثالية الزائفة.
بشكل عام شخصيات العمل جميعها «مركبة»، وكل شخصية منهم لها دواخلها وحكاويها الخاصة، الجميع اختلفوا وإن اجتمعوا في أنهم جميعا ضحية الغير، الكل تبرأ من فساده ونأى بنفسه منها، وحاول إلقاء اللوم على الآخر.
إشكالية هل الإنسان «مسير أم مخير» أيضًا كان لها دورها في الأحداث، مثلًا «حليمة» أرادت أن تكون نجمة لكن الظروف ذهبت بها إلى شباك التذاكر كبائعة، وربما البداية كانت هي الاختيار الوحيد، لكن الحياة لا تسير دائمًا كما نبتغى منها وتأخذنا إلى مصائر مختلفة، أحيانًا تصعد بنا وأحيانًا تهبط بعنف، تمامًا كما جاء على لسان بطل العرض طارق رمضان (الحياة مسرح كبير، لكنني لست ممثلًا تلك هي المعضلة) الجملة السابقة، التي قد تتناص مع أشهر العبارات الشكسبيرية في مسرحية «هاملت»: «أكون أو لا أكون تلك هي المسألة»، وهي عبارة تكررت على لسان طارق رمضان، وكأنه سؤال العرض، سؤال الوجود والمصير. 
مسرحيًا، جاء إيقاع العرض متسارع إلى بما تناسب روح المسرح الحديث، فالأحداث وإن تكررت بعض مشاهدها لكنها تسير بشكل تصاعدي منتظم، وأغلب الجمل الحوارية مناسبة للجو النفسي وطبيعة الشخصيات وخلفياتها وسياقتها الثقافية والاجتماعية، واستطاعت المعالجة في نحو ساعتين عرض أن تحيط بكل هذه العوالم، وأن تأخذنا من كواليس المسرح إلى غوامض الحياة نفسها، وتبرز اللغة في مستواها الاستعمالي الانفعالات الشخصية، من خلال توظيف العبارات الأكثر تداولًا والأقرب إلى المقصد، فضلًا عن اللازمة التي تصاحب الحوارات لكل شخصية من الشخصيات.
طوال ساعتين، لا تشعر كمتفرج بالممل ولا الزحام على خشبة المسرح حتى في المشاهد التي اجتمع فيها أغلب أبطال العمل، فجاءت حركة الممثلين منتظمة، كل يعبر عنه حالته التي تستحوذ في لحظته على أعين واهتمام الجمهور، والأداء وإن كان متباينًا فقد كان موفقًا ومعبرًا عن الشخوص من الممثلين جميعهم، متحكمين في أدواتهم (الصوتية والشعورية والجسدية) وملامحهم وانفعالاتهم.
 الديكورات في مجملها كانت بسيطة، ومعبرة ينقل النفسي للعمل ويحقق الإحالات المقصودة زمنيا واجتماعيا، مراعيًا دلالات العرض خصوصًا في ديكور البيت القديم، كذلك الموسيقى المصاحبة للعرض معبرة عن وتيرة القصة بوتيرتها باستخدام وترية تثير الشجن، مجسدة صخب الحياة مثلما تدور أغلب المشاهد. كما اتسمت الإضاءة والملابس بالتماشي مع روح الفترة التي تدور فيها الأحداث، مع التركيز على اللوحات الاستعراضية الراقصة والتلاعب بالإضاءة. فمثلًا يظهر «طارق رمضان» في أحد المشاهد مرتديًا قميصا أبيض فوقه «بلوفر أحمر»، هنا تشعر أن الألوان تناسب نفسية «طارق» كثائر غاضب مندفع، لكنه من داخله الطيب المحب الذي يرى نفسه ضحية الآخرين وأولهم سرحان الهلالي.
في النهاية كان العرض أكثر تعبيرًا عن عنف الحياة وأكثر صدقًا في تناوله للحقيقة وإن كانت نسبية، وفى تعبيره عن «الشرف» ومفهومه وإن كان مجرد ادعاء، ورغم عنف وصعوبة الأحداث لكن الفنّ كان غالبًا حتى النهاية، فإن العرضٌ كان حقًا رائعًا فنيًا ومتماسكًا أمام أصل روائي فلسفي ومعقد، ومحافظًا على ملامح وروح الرواية «المحفوظية» وإن اختلف معها في التطبيق والرؤى، وقدم صناعُه وجبةً فنية دسمة، وعبّر أبطاله عن المشاعر التي تدور في نفس كل واحد منا بصدق، فكل منا داخله حكايته الخاصة وماضيه الذي يحتفظ بتفاصيله، لكن علينا في النهاية أن نواجه الحياة بشجاعة أكثر.


محمد عبد الرحمن