الفينومينولوجيا ودراماتورجيا المكان والفراغ (2-2)

الفينومينولوجيا  ودراماتورجيا المكان والفراغ (2-2)

العدد 759 صدر بتاريخ 14مارس2022

أطرح هذه الأسئلة لأنها أساسية لفهم خبرتنا بالمكان. فالوجود في العالم يعني الوجود في المكان. ويقول ادوارد كيزي : « نحن دائما مع الجسم، وكوننا أجسام، فنحن دائما داخل مكان أيضا. وبفضل الجسم نحن في هذا المكان وجزء منه. ومنذ هيدجر حتى الآن، الوجود في العالم يعني الوجود في مكان.  انه في الواقع وجودنا في مكان في العالم هو الذي يسمح لنا أن نفهم الفراغ. فجسمنا يمدنا بتوجه خلال خصائصه الثنائية، مثل الأمام والخلف، واليمين واليسار، والأعلى والأسفل. ولكن هذا التوجه يصبح ذا مغزى فقط لأننا كائنات متحركة، وأننا ندخل إلى العالم ونحن نتحرك. وبالنسبة لكيزي، تميز هذه الحركة القصد الجسدي الذي يسمح بادراك الفراغ. ويوجد أصل الفراغ بشكل مباشر في جسم الذات الفردية. أو بدقة أكثر، يوجد في حركة ذلك الجسم. ولكي ينشأ الفراغ، فجسمنا كما نحن موجودون فيه يجب أن يكون في حالة حركة. وفي هذا الصدد يتفق كيزي مع لوفيفر في أن الفراغ ينتج ولا يوجد قبل تدخل الإنسان. ورغم ذلك يجادل كيزي بأن الفراغ تتم معايشته أولا من خلال الحركة. والقدرة علي تصور الفراغ تصبح ممكنة من خلال أفعال تفاعلات الجسم الحركي الحسي ومن خلال الوجود في المكان. الحسم في حركة يسمح بالتأقلم الذي يؤدي إلى إنتاج الفراغ عند لوفيفر. ومرة أخرى توازي العلاقة معادلة الأداء والأدائية، ومعادلة العرض والتمثيل، أو بصياغتها بمزيد من المصطلحات المسرحية، معادلة التدريبات والأداء. يوفر تفاعلنا ككائنات حية في عالم المكان البيانات التي تتيح لنا تصور الفراغ باعتباره نتاجا للعلاقات بيننا وبين الكائنات الأخرى سواء كانت متحركة من عدمه. 
 المكان، بالنسبة لكيزي وأيضا بالنسبة لميرلوبونتي، لا يمارس من خلال أفعالنا، بل من خلال أفعال العالم علي أجسامنا. وسواء كانت هذه الأفعال رياح أو أمطار، أو أفعال الكائنات المتحركة الأخرى، أو إدراكنا للعالم، وكذلك معلوماتنا عن العالم، فإنها تنشأ من خلال التفاعل : فنحن فعلا نشارك دائما في العالم، ونعمل وفقه، حتى عندما نتصرف. 
 ومن الصعوبة الشديدة الحديث عن المكان لأنه حاضر بالنسبة لنا في كل لحظة وجود. فتجربة المكان منتشرة لدرجة أنه من المستحيل أن نتخيل أنفسنا بدون الوجود في مكان ما، حتى لو لم يكن له وجود مجسد في خيالات عالم الانترنت الافتراضي. وحقيقة عدم قابليته للانفصال تميز اختفاءه الظاهري. ولا ينبغي لنا أن نكون علي علم تام بالمكان. ولكي نكون كذلك فان الأمر يتطلب وعيا بكل ما نقوم به تقريبا، الوقوف والجلوس والكلام. وبدلا من ذلك يتراجع المكان إلى الخلفية ليصبح ما يسميه ميرلوبونتي “ قالب الفعل المعتاد Matrix of Habitual Action”. ولأنه قالب فضلا عن أنه موضع منفرد أو متحد، فمن المستحيل علينا أن نكون واعين تماما بالمكان الذي نسكنه أو صلاتنا به. وهذا جزئيا بسبب تعقيدات المكان، مع أنه أيضا لأننا نصبح واعين بالمكان من خلال تداخل الوعي فقط. عندما نصبح واعين بالمكان، فان ذلك يحدث من خلال تفضيل مجموعة مفاهيم معينة اقصائية في الأساس. وعندما نصبح واعين بوجودنا في العالم، فان ذلك يحدث من خلال فهما محدودا أو فهما اختزاليا للمكان الذي نوجد فيه. 
 وجودنا في مكان في العالم مسألة ضرورية لبناء الفراغ ويميز الأساس الذي يمكننا أن ندركه. وبدلا من ذلك يمكننا أن نعرف المكان في أجزاء، أجزاء تتغير أثناء تفاعلنا مع العالم وتفاعل العالم معنا. ويمكننا رسم خط متوازي بين وجودنا في المكان وفهمنا لأفكارنا الذاتية. فالفكر كما يتصوره لويس ألتوسير، معقد بشدة ويحدد علاقاتنا بالتقاليد التي نواجهها وكيفية ارتباطنا بالآخرين. إذ يمكننا فقط أن نعي جوانب معينة في ما نؤمن به في أي لحظة، ولن نستطيع أن نعرف النطاق الكامل لمعتقداتنا الفكرية. فما نفهمه من أفكارنا مجزأ ويعتمد علي المنظور المحدد الذي نتخذه في أي لحظة. وبالمثل، يمكننا أن نعرف فقط كيف نرتبط بالمكان من وجهة النظر التي نتخذها. 
     وعن طريق المثال، تناقش جاي ماكولي Gay MacAuley في كتابها المهم «الفراغ في الأداء :صناعة المعنى في المسرح Space in Performance: Making meaning in theater « الفراغ المادي، وتستشهد بكتاب ادوار كيزي « العودة إلى المكان : نحو فهم متطور لعالم المكان  “ Getting Back into Place : Toward a Renewed understanding of place world “. إذ يقول كيزي : 
أنا هنا بجسمي – جسمي المعاش -. وجسمي المعاش هو وسيلة النقل لـ «هنا»، وحاملها وعائقها .... كما يسميه هوسرل. فمصير «هنا» مرتبط كلية وحصريا بذلك الجـسم ..  وإذا كانت هنـاك تجـارب لا يفهمهــا جسمي، فهذه التجارب ينقصها «هنا»، أو سيكـون لها «هنا « زائف أو شبه «هنا».     
تركز مناقشة ماكولي اللاحقة لرؤى كيزي علي مفهوم « هنا « و«وهنا الزائفة « مع إشارة معينة إلى تفاعل الجمهور والممثل. فهي مهتمة بتفاعل هاتين الكينونتين، ولكن الشيء المفقود هو ما يبدو أن كيزي يؤكده بوضوح شديد: ”جسمي المعاش”. ففي أربعة جمل هناك خمس إشارات إلى الجسم، ولكن الجسم في استخدام ماكولي للجسم قد استبدل بكلمة « هنا» كمفهوم مكاني. وهذا لا يعني أن نقلل من قيمة مميزات عمل ماكولي أو رؤيتها، بل لكي نضخم الفروق التي أريد أن أضعها في المقدمة في تمييز المكان والفراغ. فالفراغ هو تجسيد وبُعد ووقوف خارج المكان، بينما المكان هو شغل الفراغ، والوجود في الفراغ. 
 التفكير في الفراغ إذن يعني التفكير بشكل تجريدي، وافتراض موقع موضوعي ووضع تجربتنا في إطار العلاقة بين الأشياء، سواء كانت ساكنة أو متحركة. والتفكير في مكاننا في العالم يعني أن نصف تجاربنا الذاتية. بينما يتم وضع الفراغ داخل إطار بصيغة المفرد الغائب، وتجربة المكان هي دائما بضمير المتكلم. بينما يمكن أن يحدث وصفنا لعلاقاتنا في الفراغ من خلال استخدام التصنيفات التحليلية مثل المسافة والاتجاه، والارتفاع والعرض والعمق؛ فوصف خبرة المكان تحدث من خلال خصائص مثل مفتوح ومقيد ومهيب ومتحرر ومتواضع. 
 التمييز بين الفراغ والمكان ليس مجرد تمييزا نظريا، بل أن له تضمينات عملية، ولاسيما في المسرح حيث يلمس المسائل الأساسية. وقد بدأت هذا المقال بمثال لكي أقترح كيف يمكن استخدام مصطلحين في التحليل النصي. والتأكيد الذي وضعه بيكيت علي الفراغ فضلا عن المكان، أو التأكيد الذي وضعه تشيكوف علي المكان فضلا عن الفراغ يمكن أن يزودنا برؤى للمعاني المحتملة للمسرحية. ورغم ذلك، هذه هي القيمة الأساسية. فالمخرج والسينوغرافي والدراماتورج يهتمون غالبا بالممثل في الفراغ، ويركزون اهتمامهم علي العلاقة المكانية بين الشخصيات والتشكيلات التي يخلقونها، والمعاني التي تقدمها هذه الصور والطريقة التي يتغير بها المعنى خلال الحركة. ويتوقعون خبرة المتفرجين بالعرض والمحتويات التي تقدمها الأحداث. وبالتالي عندما تصف ماكولي الممثلين والفراغ الفعال الذي يشغلونه فهو في إطار الدخول والخروج والحركة والوضع والتوجه والإيماءة والطاقة والحضور، فهي تستخدم تصنيفات التلقي، وتصنيفات ما يعايشه الجمهور. والشيء الناقص في مناقشتها للفراغ في الأداء هو منظور الممثل. 
 المسألة بالنسبة للمثلين ليست مسألة علاقات مكانية، إلا في إطار المنع، وفي إطار أين من المفترض أن يكونوا في لحظة بعينها. فتجربتهم هي تجربة مكان. أين أكون الآن؟ وماذا أفعل بالأشياء التي حولي؟. وعندما يدخلون خشبة المسرح  فإنهم لا يدخلون غرفة معيشة بروزرف، بل يدخلون مشهدا يسمح لهم بخلق إيهام بدخول غرفة معينة مطلوب دخولها في النص. وبالمثل لا تهتم الشخصية التي تلعب دور ويني ما إذا كانت تشغل فراغا مجردا أو مكانا محددا في الشارع أو علي الشاطئ. فهي مهتمة بالمشهد وموقع الأدوات وكيف تقنع المشاهدين أنها مدفونة حتى خصرها أو حتى رأسها في الأرض. لا يحتاج الممثلون أن يعرفوا سبب وجودهم في مكان بعينه، بل يحتاجون أن يعرفوا كيف يوجدون فيه : خاصية الحركة التي يحتاجون لصنعها، وقصدهم في لحظة معينة. فمن الشائع أنه عندما يغادر المخرج، يتغير الحظر بمرور الوقت. وهذا ليس مرجعه إلى رفض الممثلين لحظر المخرج، ولكن لأن هذه الكيفية التي يبدؤون في رؤية أنفسهم يشغلون المكان في الأداء. 
 وهذا لا يعني أن نقول أن الممثلين لا ينبغي أن يهتموا بأسباب ما وراء اختياراتهم أو أن يكونوا غير واعين بتأثير أفعالهم علي الجمهور. ولكن يحتاج الممثلون في لحظة الأداء أن يركزوا علي وجودهم في المكان، وينخرطون ذاتيا مع البيئة التي يجدون أنفسهم فيها. ولكي يعودوا إلى ذلك الفارق الآخر، فإنهم يهتمون بالأداء والفعل وليس الأدائي، وكيف يفسر المشاهدون أفعالهم. ونحن كدراماتورجيين وممثلين ومصممين للديكور، نحتاج أن نعي هذا الفارق وأن نجد طريقة تساعد الممثلين في المكان. 
 ومع ذلك هناك بعد آخر. فالدراماتورجيون والمخرجون ونحن أيضا موجودون في المكان، فنحن ككائنات موجودة متداخلين في الفراغ. ويشارك أداءنا في فراغ التدريبات في العلاقات التي توجد بين المشاركين، وفي إنتاج الفراغ وكل ما يستتبعه. فلا يمكننا أن نكون مشاهدين موضوعيين، برغم نوايانا الطيبة. فنحن ككائنات ذاتية نخلق تفاعلاتنا ونعرضها في مجموعة علاقات قابلة للنقل. وبينما لا يمكننا أن نعرف كل الطرق التي تؤثر بها أفعالنا في سياسة التدريبات، فيمكننا أن ننتبه إلى نوع الفراغ الناتج، والصور الأدائية للتدريبات، ونستطيع أن نؤدي بشكل مغاير. وعند هذه النقطة يظهر سؤال الأخلاقيات في النقاش، لأنه سؤال حتمي في أي مناقشة للأداء والأدائي. فالمسرح يدور حول الترابط بين الناس، والطريقة التي نشارك بها بعضنا البعض سوف تؤثر علي ما تم إنتاجه. يتم كبح الممثلون عند إعطائهم قراءات خطية، أو يُطلب منهم تقليد إيماءات معينة، لأنهم يُعاملون كأشياء في الفراغ. ويصبحون أدوات لتجسيد رؤية شخص آخر، فضلا عن أنهم الكائنات المتحركة التي، من خلال تفاعلها مع عالم المكان، يسعون لبناء التجربة التي سوف تؤثر علي المشاهدين. فلن يتحرر الممثلون من التضمينات الأخلاقية لهذه العملية. فأفعال ممثل واحد تمارس ضغطا علي الأعضاء الآخرين في الفرقة، والعلاقات الناتجة يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي أو سلبي علي العملية ككل. وطبقا لماكسين شيتس جونستون، فإننا نولد متناغمين بدنيا مع الآخرين؛ ونحن كفنانين مبدعين، فان مسئوليتنا أن نتناغم كثافات الآخرين، من أجل السعي إلى علاقة تبادلية. 
 وهذه ليست مسئولية سهلة. فأداء المسرح صعب بلا حدود – أعني ما يجعله فنا. وعندما يفلح فسوف يوجد تزامن بين وجودنا في المكان معا وفي المكان الناتج من خلال العلاقات التي تميز العرض. فالمسرح يتطلب القدرة علي الترجمة بين الذاتي والموضوعي  وبهذه الترجمة لكي نخلق علاقة بين الكائنات المتحركة التي تسمح للممثلين أن يكونوا في المكان بالطريقة التي تخلق فراغ الأداء الفعال والبليغ. 
.....................................................................................
• جون لوتربي يعمل أستاذا بجامعة Stony Brook. ومن أبرز كتبه «سماع الأصوات Hearing Voices» الذي نشر ضمن مطبوعات جامعة ميتشجان. وقد نشر العديد من المقالات في مجلات مثل Theater and Criticism، Performance Research،Journal for Psychology and Humanities. وكتاب «نحو نظرية عامة في فن التمثيل Toward a General Theory of Acting» 
• نشرت هذه المقالة في Journal of Dramatic Theory and Criticism  


ترجمة أحمد عبد الفتاح