«ديسكو».. بأضواء كاشفة! قراءة هرمينوطيقية لمسرحية سامح مهران

«ديسكو».. بأضواء كاشفة! قراءة هرمينوطيقية لمسرحية سامح مهران

العدد 754 صدر بتاريخ 7فبراير2022

الدنيا مسرح كبير.. وإن جميع الرجال والنساء ما هم إلا لاعبون على هذا المسرح  شكسبير
إن قراءة المسرحية سلوك فردي، أما مشاهدة المسرحية فإنه سلوك عام أو اجتماعي، وذلك في سياق التلقي، والفرق بينهما يتطلب مقاربة اجتماعية نفسية وصفية تحليلية. وهذا المقال يختص بالقراءة وليس المشاهدة، لكن أي قراءة؟ إنها قراءة تهدف إلى «تقشير النص» - ليس العبث بأوراقه فهذا فعل لاجدوى منه- ومعرفة المخبأ بين سطور الكتابة. ويظل العنوان «ثريا النص»، والباب الذي ندلف منه إلى ثنايا النص. وبما أننا بصدد قراءة هرمينوطيقية لمسرحية «ديسكو». إذن، فالبداية تكون عند العنوان/ الكلمة: ديسكو؛ تحمل في اللغة الإنجليزية معاني عدّة، لكنها بالأساس نمط من موسيقى البوب الغربية مخصص للرقص، وقد شاع هذا النمط الموسيقي في سبعينيات القرن العشرين. فيما تعني بالعربية المكان الخاص بالرقص أو النادي الليلي. وكلمة ديسكو تعني حرفيا المرقص. نحن إذن سوف ندخل في مرقص، لكن المرقص/ المسرحية يحمل دلالات أعمق وأشمل مما تعني الكلمة ذاتها. مع الإشارة إلى أن المسرحية تتضمن مشاهد ديسكو/ مرقص؛ بل الأكثر دهشة أن المتفرج ينخرط في الرقص (على أنغام موسيقى عربية وليس موسيقى البوب)! وفي المقال وقفة عن دلالات انخراط الجمهور في الفعل المسرحي ومشاركته في الأداء الفني.
يمكن إحالة مسرحية «ديسكو» إلى مرجعيات متعددة؛ تمثل بنية النص ومقترح الأداء أو شكل العرض، والرؤية الفكرية، ويمكن وصف هذه المرجعيات بأنها «أنساق قائمة على التجديد والتجريب والانزياح». أنساق تتداخل فيما بينها، وتتشابك بديناميكية عبر تنويعات الحدث، وصراع الشخصيات، وأسلوب الحوار، وتعدد الرؤى الفنية والفكرية.    
أول هذه الأنساق؛ النسق الدرامي الذي جاء متسقا ومنسجما مع مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» للكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو. ثانيا؛ النسق الجمالي الذي يتناغم مع أسلوب المخرج الألماني برتولد بريشت، أما النسق الثالث؛ فإنه النسق الفكري الذي يتوافق إلى حد ما مع بعض سمات ما بعد الحداثة. 
لماذا بيرانديللو..؟!
كان بيرانديللو قد أدخل شخصياته الباحثة عن مؤلف إلى قاعة مسرح أثناء فترة تدريبات مجموعة ممثلين مع مخرج في فرقة مسرحية، تدريجيا تقود الأحداث إلى أن تمتزج المواقف والحالات بين المخرج والممثلين من جهة، والشخصيات الباحثة عن مؤلفها في الجهة الثانية. وقد اعتمد بيرانديللو ما يعرف عند الباحثين والممارسين بأنه «مسرح داخل مسرح» الذي يعد سمة من سمات مسرح بيرانديللو. في مسرحية «ديسكو» جعل سامح مهران الممثلين أنفسهم يبحثون عن مؤلف لكي يواصلوا مهنتهم التي يعتاشون عليها، فقد توقف المسرح عن تقديم عروض بسبب ضعف إقبال الجمهور والوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور! وبينما كانت شخصيات بيرانديللو تطلب من المخرج فرصة الاستماع لقصصهم وتقديمها على المسرح، فإن شخصيات مهران تتفق؛ بل تقرر، أن يقدم كل منها حكايته على المسرح - بوصفهم ممثلين وبشرا في الوقت ذاته- بعد أن تعلن ممثلة الفرقة موت المؤلف، وأنه لا أمل بالحصول على مسرحية، وليس أمامهم إلا لعب أدوارهم الحياتية على خشبة المسرح؛ (قصدك إن كل واحد مننا يدخل بشخصيته الحقيقية، والعالم بتاعه هوه؟)؛ إنها محاولة من الممثلين لحل أزمة المؤلف، ومعالجة مشكلة الجمهور، وكذلك حل أزمتهم المالية -بوصفهم ممثلين عاطلين عن العمل- وتخفيف ضيق الحال وتوفير متطلبات المعيشة الأساسية لعائلاتهم وأبناءهم. (يا عم لا نصدم ولا ما نصدمش، عاوزين فلوس، مصاري، الدنيا زي ما أنت راسي، عندنا عيال عاوزين يتعلموا، والدروس الخصوصية مشطبة علينا أول بأول، والثلاجه مفيهاش غير مية). 
ينبغي التذكير هنا، أن فكرة موت المؤلف التي جاءت على لسان إحدى الممثلات في مسرحية «ديسكو»، ليست جديدة وإنما متجددة، فقد نادى بها كل من المخرج المسرحي المثير للجدل أنتونان آرتو، والناقد رولان بارت والمفكر ميشيل فوكو (ومن المفارقة أن كل هؤلاء فرنسيون، فيبدو أن الفكرة نمت في فرنسا لكنها في الواقع متأثرة بإطروحات الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه عن موت الإله). وإذا كانت الفكرة قد سبقت عصرنا بعقود من السنين فلماذا متجددة؟ التجديد الآن؛ بأن الفكرة ليست في سياق التنظير أو النقد المحض، وإنما في سياق مسرحي (أدبي/ أدائي)، متجذر في بنية النص وليس طارئا أو عابرا لها، إذ إن فكرة موت المؤلف هنا سوف تكون باعثا لولادة المسرحية وليس فناءها بالإضافة إلى تحفيز الممثلين على رسم مخطط العرض، وتوزيع الأدوار، وصياغة الحوار. 
ممثلون يجتمعون حول طاولة البروفات 
ممثل 1 : فين المؤلف؟
ممثلة 1: مات.. المؤلف مات.
ممثل 2 : هو يعني اللي خلقه ما خلقش غيره؟
ممثلة  2 : كلهم بيقولوا في المتقال
الجميع: الفراولة بتاع الفراولة (ضحكات)
ممثلة 3 : طب هوه مين اللي هايخرج الرواية؟
ممثل 1 : المهم يبقى فيه رواية من الأصل.
يُلاحظ أن توجه مسرحية «ديسكو» نحو «مسرح داخل مسرح»، إنما يأتي ضمن السعي للتجديد والتجريب في نمط مسرحي راسخ، الذي يعتمد أدوات ذات تأثير جمالي ماتع، ولعل أبرز تلك الأدوات «القناع»، المقصود القناع بالمفهوم العام وليس قناع الوجه، فإن ما يقدم على المسرح من أحداث ومواقف مأساوية وملهاوية، ليس بالضرورة حقيقيا مع أنه قد يكون واقعا فعليا. 
عبدالتواب: (في الظلام) البلد كلها هيست.. الخيال دخل في الحقيقة، والحقيقة بتركب على الخيال، وموش عارف هوه مين ولا دوره إيه.. مستشفى مجانين بحجم الوطن.
وكان بيرانديللو يلجأ إلى إخفاء الحقيقة لأنه يرى ذلك من طبيعة المسرح، أو أقرب إلى روح المسرح، وبذلك يلقي قناعا على الحقيقة. والقناع أمر مألوف في المسرح؛ بل كان أداة أساسية عند الممثل منذ بدايات المسرح عند الإغريق. وكان المتفرج يرى الممثلين من خلف قناع، وإن كان استخدام القناع قد اختفى أو انحسر في المسرح الحديث إلا في حالات ومشاهد معينة بحسب نمط العرض وأسلوب المخرج. يمكن القول إن فكرة «المرقص» قد تكون واحدة من أوجه القناع الفني في مسرحتي بيرانديللو ومهران، مع الإشارة إلى  اختلاف دلالة «المرقص» وعلاقته بالمسرح في كل مسرحية. إن شخصية المدير في مسرحية بيرانديللو ترفض أن يكون المسرح مرقصا، كما في المقطع التالي:
ابنة الزوجة: فلتسمعوا أيها السادة، ولو أنه لم يمض على وفاة أبي إلا شهران فقط.. إلا أنكم يجب أن تشاهدوا كيف أغني وأرقص.. (تبدأ بالغناء).
الممثلون والممثلات: (يصفقون ويضحكون) رائع.. رائع.. حسن جدا.
المدير: (متضايقا) اصمتوا!.. أتعتقدون أنكم في مرقص؟ (ينتحي بالأب جانبا، ويتحدث إليه بغضب شديد) أخبرني بالله عليك، هل هي مجنونة؟
الأب: مجنونة! إنها أسوأ من ذلك بكثير!
بينما نجد مسرحية «ديسكو» على العكس من مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف»؛ جعلت المسرح ذاته مرقصا حقيقيا ينخرط فيه الممثلون والجمهور على حد سواء، في دلالة واضحة على أن المسرح والحياة ما هما إلا «مرقصا» كبيرا بأضواء ملونة لكنها كاشفة! 
الأداة الثانية في مسرحية «ديسكو:، هي «اللعب» الذي يعد واحدا من خصائص المسرح الأساسية، إذ يمنح اللعب الممثلين فرصة كبيرة وفضاء مفتوحا للإثارة والمتعة. وذلك بطبيعة الحال يزيد من نسبة التلقي وإقبال الجمهور، إذ ليس هناك مسرح من دون جمهور مثلما ليس هناك مسرحية من دون دهشة ومتعة وجمال. 
ممثل 1: هالعب دوري في الحياة... الجد
ممثله 2: وأنا الابنة والزوجة
ممثل 2: وبما أني كنت في إعارة في السعودية، ممكن ألعب دور الزوج اللي لسه راجع
ممثل 3: عن نفسي ماليش دور، عاوز أخلع بره البلد دي، عاوز أهج وأنفد بجلدي مع أعز صحابي «مشعل»
ممثل 1: تبقى تلعب دور الابن اللي عاوز يتنيل يهاجر
وهنا تأتي المقاربة مع مفتتح المقال بعبارة الكاتب الإنجليزي وليم شكسبير في مسرحية (كما تشاء)، (الدنيا مسرح كبير... وإن جميع الرجال والنساء ما هم إلا لاعبون على هذا المسرح). 
إن الممثلين والعاملين في المسرح، والمتفرجين أيضا؛ يدركون جميعا حقيقة اللعب بأنه ليس وسيلة متعة أو إثارة فقط وإنما أداة للكشف عن اللعب في الحقيقة ذاتها، حقيقة الأشياء والموجودات والشخوص. وقد بات اللعب سلوكا اجتماعيا على نحو واسع. ولا يخفى على الجميع صار من الصعوبة بمكان التفريق بين جوهر الحقيقة ومظهرها، سواء في الحياة أو المسرح! إن هذا الأمر -»المسرح والدنيا داخلين في بعض»- لن ينتهي حتى بعد إطفاء أضواء المسرح، إذ تستمر ثنائية «اللعب والقناع» باستمرار الحياة كونها ترتبط بطبيعة الإنسان وعلاقته بنظرائه من بني البشر، وتبقى هذه الثنائية قائمة؛ بل متنامية في ضوء المتغيرات التي تطرأ على العادات والتقاليد الاجتماعية والثقافية، والقيم الإنسانية عموما. وتكشف أضواء الديسكو/ المسرحية الكثير من هذه المتغيرات بأسلوب أدبي وفني ماتع.
بحر : حلو قوي، يعني إنت عارف إننا بنمثل؟
الحارس: إلا عارف دي كمان! شايفني طرطور واقف قدامك، لكن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والا ماسمعتش الكلام ده وخرم ودانك؟
الأم : ده مجنون، المسرح والدنيا داخلين في بعض عنده (تقول هذا الكلام هامسة للممثل الذي يلعب دور الجد، ثم تصرخ في وجه الحارس) امشي من هنا، اطلع بره، غور
الحارس : أصله كان بيت أبوكي، أنا موظف زيي زييكو    
بحر : أنت موظف زيك زينا، حلو الكلام، يعني بتشتغل إيه هنا؟
الحارس : باشتغل حارس
بحر : حارس على المبنى موش علينا
الحارس : لأ، وعليك وعلى اللي بتعمله وتقوله كمان، إياكشي أسيبكوا تفتحوا عينين الناس عل الغلط
لقد اختفى الحد الفاصل بين الخيال والواقع وتفسيراته المحتملة، وظلّ الإنسان طريقه للخروج من الارتباك والالتباس الحاصل في حياته، ومعرفة ما الذي عليه أن يفعله في واقع متقلب وعالم محتدم؟ وكيف يتصرف حيال ذلك كله؟ والحد من مشكلة النظر إلى سيرته الذاتية (الإنسان - الفرد)، والتفكير بمصيره، وماذا سيكون المآل..؟ كيف يمكن أن يكون بمأمن من مخاطر تحيطه في كل آن ومكان..؟ أين هي السعادة أو الرفاهية التي يبحث عنها..؟ تساؤلات تشكل عصب الدراما وفن المسرح.
كيف حضر بريشت..؟!
يعلم الممارسون والباحثون بأن اللعب وكسر الإيهام (التقديم وليس التقمص) والموقف الانتقادي، من سمات مسرح بريشت؛ وهذه السمات ليست غائبة عن مسرحية «ديسكو»، ويمكن وصف هذه السمات بأنها النسق الجمالي في مسرحية «ديسكو».  
إن شخصية الحارس -التي تعتبر نموذجا للقناع الفني في المسرحية أيضا، إذ يتماهى فيها الأداء من/ وإلى الحياتي والمسرحي- تعد الأساس بكسر الإيهام المسرحي في جميع المشاهد التي تظهر فيها دون استثناء؛ بل ويمضي الممثلون إلى كسر الإيهام كذلك، بخاصة عندما تظهر شخصية الحارس، إضافة إلى أن الممثل في «ديسكو» مدرك تماما بأنه «يلعب» على المسرح ولا يمثل. إن الممثل في المسرحيات ذات الطابع المحلمي، عليه تقديم الشخصية باعتماد «لعب» وليس «لبس» الدور، ويتعين عليه ألا يسارع إلى «لصق» الشخصية قبل حشوها بالأفكار، وتأكيد الإيماءة الاجتماعية Gesture للتعبير عن الصورة المركبة للمواقف التي تتخذها الشخصيات، ويتوجب على الممثل الاهتمام النقدي بمنطوقات الشخصية المتعددة ومنطوقات الشخصيات الأخرى، وعليه أن يمتاز بسعة المعرفة وقوة الملاحظة، وأن يمتلك وجهة نظر وآراء وأهدافا. هذا ما ورد في (الأرغانون الصغير)، ويضيف بريشت: «يجب على الممثل رفض الوسائل التي تعلمها لكي يغري المتفرج، بأن يتوحد مع الشخصيات التي يلعبها، وإذا كان هدف الممثل ألا يرسل المتفرج في غيبوبة يجب عليه ألا يكون نفسه في غيبوبة». في هذا النمط المسرحي؛ يستند تكنيك الأداء التمثيلي على إيجاد مسافة بين الممثل والمتفرج، ما يعرف بالتغريب (Verfremdung بالألمانية)، (Alienation بالإنجليزية)، ويعني بحسب بريشت، «جعل المألوف غريبا»، ويهدف ذلك إلى «هدم مبدأ الإيهام والتعاطف الأرسطي»، وإلى «إثارة وعي المتفرج بغرابة وتناقض واقعه الاجتماعي، وإلى إثارة رغبة المتفرج في تغيير الواقع المتناقض الغريب تغييرا جذريا». 
(الحارس يطفئ النور.. المسرح يسبح في الظلام)
الممثلة : (التي تلعب دور هدى) ما تيجوا نستغل الوله ده في العرض
بحر : آه، هندخل في الجنان من أوسع أبوابه
الممثلة : (التي تلعب دور الأم) ولله فكرة بمليون جنيه، آهوه حاجة تدي العرض عفوية وتخليه يتغير من يوم للتاني
ممثل : (الذي يلعب دور منسي) ويعمل شوية ريليف ويخلي الناس تفرح على مكتوباتها
بحر : دا خطر أوي يا جماعة.. كده تبقى فوضى
ممثل : (الذي يلعب دور مشعل) أهوه حاجة من فوضى الدنيا لما تدخل علينا ما يضرش
هدى : قليل من الفوضى تصلح المعدة
يتسم نهج بريشت أيضا بطابع انتقادي، وفي الغالب يطرح موضوعات سياسية واجتماعية؛ إنه مسرح «يثير الفكر، ويجدد عيون المتفرج، فينزع غشاء العادة عن عينيه، فإذا به يرى المألوف غريبا، ويدفعه إلى التأمل والتفكير»، وهذا ما يلاحظ بوضوح في مسرحية «ديسكو».
ممثل 3 : إحنا برضه مسئولين عن الجو المسموم اللي حوالينا، دورنا نحرر الجاهل من جهله
ممثله 1 : إزاي بقى يا فيلسوف عصرك وأوانك؟
ممثل 3 : أحيانا الصدمة بتبقى مهمة بالنسبة لنا، وبالنسبة للمتفرج سوا سوا
ممثله 1 : كويس.. حلو خالص، بس خلي بالك، أول مين يفتح الباب هوه نفسه أول ضحايا الباب.
وتتنقد مسرحية «ديسكو» نماذج عديدة من السلوك الاجتماعي في الوقت الراهن، وتطرح أفكارا تحرض القارئ/ المتفرج على التفكير بآليات التغيير الممكنة للواقع المرير والمرفوض. ويأتي على لسان شخصية منسي الذي يرغب بالهروب «بره البلد دي»: ليه دايما نبص للأوحش مننا؟ وما نبصش للأحسن، كده عمرنا ما هانطلع لقدام ولا نتقدم خطوة. 
ويتكرر الطابع الانتقادي «الجدي والساخر معا» في مسرحية «ديسكو» في مواضع عدّة، فهذه شخصية «بحر» الذي يحاول الهرب من الواقع عبر التخييل والاستذكار لزوجته المتوفاة، إذ تراه يهيم مع نفسه وهو في دكانه من دون أن ينتبه للزبائن الذين يقرر بعضهم أخذ ما يريد دون أن يدفع ثمن، ويحرض آخرون على فعل الشيء ذاته بذريعة أن (التجار إخوان الشياطين، بيمصوا دم الغلابة، ربنا بيسلطهم على نفسهم رحمة بينا إحنا، دا بحر، اسم على مسمى، ويبلع في كرشه مال النبي). بينما يتشبث بحر/ الشخصية بروح زوجته للخلاص من الواقع، إذ يقول: «اعملي معروف وخديني معاكي، الدنيا وحشة والناس كدابين، الوغد بقى عظيم، والصاحب بيسرق حلم صاحبه، والحسود بيبدر في الأرض شكوك، والعاقل بقى غريب في وسط زعيق اللي معلقين يفط الشرف». 
في مسرحية «ديسكو»، يتجسد الرقص/ اللعب، على أنغام موسيقى الفوضى، الجوع، الحرمان، الرغبة في الرحيل، اختلال القيم، وتغير الطباع والسلوك الإنساني؛ واقع لا مفر منه إلا بالكشف والمواجهة! ويظل المسرح وسيلة جمالية غايتها المتعة والتغيير مثلما اتخذ بريشت ذلك نهجا وأسلوبا وسبيلا!
هل فعلا ما بعد الحداثة..؟!
النسق الفكري في مسرحية «ديسكو» يتناغم إلى حد ما مع بعض سمات ما بعد الحداثة في المسرح، ويتجسد في: (موت الشخصية، المحاكاة الساخرة «Parody» ، الحنين إلى الماضي «Nostalgia»، وخلط الأساليب والخامات «Pastiche»).  
يغيب البطل الدرامي في مسرحية «ديسكو» بمعنى غياب شخصية البطل الأوحد التي تدور حولها الأحداث والأفعال والعلاقات، فلم يعد ثمة وجود للفاعل الفرد أو الفاعل المستقل، فقد أطاح الفيلسوف الفرنسي (جان فرانسوا ليوتار) بمفهوم (النزعة الفردية) بوصفها أيديولوجيا وكونها من السرديات الكبرى التي أزاحتها مابعد الحداثة. وكذلك (موت الفاعل) عند ميشيل فوكو، هذه الأفكار، كانت الحافز أو المنبع الذي استقت منه الباحثة المسرحية الأمريكية (إلينور فوجس) Elinor Fuchs، أطروحتها بشأن (موت الشخصية) The Death of Character. وكان (موت الشخصية) في مسرحية «ديسكو» قد أحيّا الممثل/ المؤدي، وليس الممثل الإيهامي. إذ أضحى الممثلون أبطالا دراميين، كل واحد منهم يقدم شخصية لها سيرة درامية/ حياتية، على نحو التوازي وليس الاندماج! وقد تبدو الشخصيات نمطية، تتماهى مع الواقع أكثر من التسامي مع الخيال، بينما في بعض الحالات تقترب من كونها «صورة شائهة أو مزيفة» simulacra، تنساق عبر «سطوح عاكسة مثل مرايا متقابلة تجتذبها صرخة الدال Signifier المجنون». (جان بودريار)
لقد تحدث العديد من المفكرين والدارسين عن سمات ما بعد الحداثة، ومن تلك السمات المحاكاة الساخرة Parody، وهي موجودة في الثقافة الشعبية المعاصرة. وتستخدم في الأدب والمسرح والتلفزيون والعمارة والأفلام وحتى الكلام اليومي. ويعرف الباحث الأدبي البرفسور سيمون دينتثSimon Dentith  في كتاب له صدر سنة (2000) يحمل عنوان (Parody: The New Critical Idiom)، المحاكاة الساخرة على أنها «أية ممارسة ثقافية تقدم ملمحا تقليدا جدليا نسبيا لإنتاج أو ممارسة ثقافية أخرى»، وتقول الباحثة ليندا هَتشيون في كتابها (سياسة ما بعد الحداثية): «يمكن العثور على المحاكاة الساخرة في الأدب والموسيقى والمسرح والتلفزيون والأفلام والرسوم المتحركة والألعاب، وتمارس بعض المحاكاة الساخرة في المسرح». ونقلت هَتشيون -في كتابها- عن دومينيك لا كابرا الاقتباس التالي: «إن توظيفا معينا للتهكم والسخرية قد يؤدي دورا في نقد الأيديولوجيا وفي توقّع خطة لا يستثنى الالتزام بها، القدرة بها؛ بل يرافق القدرةَ على تحقيق مسافة نقدية لأعمق التزامات الإنسان ورغائبه». وتتفق هَتشيون مع دومينك بأن ما بعد الحداثية تقدم، بالضبط، ذلك «التوظيف المحدّد للتهكم والسخرية». ولم تخلُ مسرحية «ديسكو» من المحاكاة الساخرة لما لهذا الأسلوب من قدرة على النقد والتهكم للواقع الاجتماعي، والسياسي، والثقافي. وبحسب هَتشيون «إن الفن ما بعد الحداثي؛ يوظّف الباروديا والتهكم لينخرط في تاريخ الفن وذاكرة المتفرج في عملية إعادة تقييم الأشكال والمضامين الأستطيقية عبر إعادة النظر في تمثيلها السياسي الذي جرت العادة على عدم الإقرار به». هكذا هي مسرحية «ديسكو» تثير أسئلة وتشتبك مع الواقع بمحاكاة ساخرة تهكمية.
وقد استخدم صاحب مسرح البيئة، المخرج الأمريكي جورج شيشنر، المحاكاة الساخرة (الباروديا) بهدف بناء علاقة تفاعلية مع المتفرج. وحاول استخدام جميع عناصر العرض المسرحي وتقنياته المتاحة بغية توريط  المتفرج في تجربة يتوحد فيها الجميع بلا تمييز لتحويل الحدث المسرحي إلى حدث اجتماعي داخل بيئة العرض. واستعار شيشنر مفهوم «الجماعة» Community، من المسرح الطليعي الأمريكي الذي ارتبط  بالثقافة البدائية Primitive التي اعتبرها شيشنر بأنها ثقافة «تشاركية» Communal، وهذا يفسر تأكيده على فكرة تورط الجمهور في العرض. ويأتي تورط الجمهور في المسرح بأشكال مختلفة. وفي مسرحية «ديسكو» يتورط الجمهور من خلال المشاركة بالرقص والغناء، وتلك دلالة على أن البيئة الاجتماعية عبارة عن «ديسكو» واسع لا يقتصر على أحداث المسرحية، فالجميع بحالة هيجان وتوتر نتيجة ما يتعرضون له من ضغوط شتى تدفعهم إلى الانخراط بالرقص والغناء مع الممثلين. ومشاركة الجمهور في الحدث المسرحي دليل على أن المسرح ليس وسيلة ترفيه ومتعة فقط، وإنما مكان له القدرة على امتصاص حالات التذمر والإحباط وتفريغ الشحنات الانفعالية عند الممثل والمتفرج على حد سواء. ولن تحاول ما بعد الحداثة التنكر لمفاهيم الفوضى والتشظي؛ إنها على العكس، تحتضنهما على ما ينطوي عليه ذلك من عواقب. 
من سمات ما بعد الحداثة التي ذكرها فريدريك جيمسون، (المعارضة الأدبية - الفنية)، التي عرّفها بـ»الحنين إلى الماضي»، وقد وردت سمة «الحنين إلى الماضي»، عند ليوتار كذلك، في معرض تساؤله عن «ما بعد الحديث»، بأنه «يقدم ما لا يمكن عرضه أو تصويره في الحديث. وهو ما ينكر على نفسه سلوان الأشكال الجديدة والإجماع على ذوق يمكن من خلاله المشاركة الجماعية في الحنين إلى ما لا يتحقق أو ينال. وهو ما يبحث عن رموز جديدة لا بهدف الاستمتاع بها؛ بل بهدف إضفاء شعور أقوى بما لا سبيل إلى تصويره». وتتناول مسرحية «ديسكو» موضوعات غاية في الأهمية تتعلق بالتغيرات التي طرأت على المجتمع في تحوّل القيّم الاجتماعية ودخول مفاهيم وسلوكيات غريبة ومرفوضة في المجتمع، وقد تجسدت هذه الحالات مع شخصية الجد «بحر» الذي يضطر أن يغادر الواقع عبر الاستماع لأغنيات أم كلثوم والتحليق بخياله مع عروس البحر التي يجد فيها سلوى وحنينا للماضي. وهناك مواقف وحالات في المسرحية تعبر عن الحنين للماضي، والتشبث فيه باستخدام مفردات وعبارات معينة أو المقارنة بين الماضي والحاضر وغيرها. إن حالة اللاثبات والتغيّر المصاحبة للعرض المسرحي، وتدفق أحداث ومواقف غير متوقعة، وتوالد دلالات ومعانٍ على نحو متتابع، يعتبرها (نك كاي) «لحظة مسرحية أو أدائية، وكذلك لحظة ما بعد حداثية حقة». وكانت مسرحية «ديسكو» غنية بالتدفق وكسر «أفق التوقع»، وثرية بالدلالات والمعاني وعند مستويات متنوعة.
دون أدنى شك! تبنت مسرحية «ديسكو» خلط الأساليب والخامات «Pastiche»، لعرض حالات ومواقف اجتماعية وإنسانية مسرحيا، فإن المزج بين أسلوب برانديللو ونهج بريشت وسمات ما بعد حداثية في نهاية المطاف، استعارة/ استخدام خامات متعددة في لوحة فنية جمالية باذخة. فإن ما بعد الحداثة نزوع نحو التجديد والتغيير من خلال، الانفصال المتصل مع أنساق فنية تقليدية، وزحزحة أيديولوجيات ثقافية صارمة؛ إنها دورة بحث عن استراتيجيات وآليات غير نمطية؛ بل نزوع نحو المستقبل لكنه نزوع توتر، «يجد تعبيره المفضل في التجربة الفنية». 
اللغة واللهجة وما بينهما «ديسكو»..!
هناك دراسات عديدة بحثت كل ما يتعلق باللغة/ اللهجة، و/ أو اللغة واللهجة، إذ فرّق علماء اللغة المحدثين بين اللغة واللهجة، بينما عبر العلماء القدامى باللغة عن اللهجة، وأنه لا يمكن إدراك الفرق بينهما إلا من خلال السياق. وأشار محدثون إلى ذلك بوضوح وكادوا أن يتفقوا على أن العلاقة بين اللغة واللهجة هي علاقة العام بالخاص. وتحدث آخرون أن اللهجة ابنة اللغة ومتفرعة عنها، إذ لا يمكن للهجة أن تستغنى عن اللغة لأنها تستمد منها عناصرها وخصائصها؛ بل وإن نظام اللهجة يستند على اللغة عموما.
في هذا السياق، يقول محمد أحمد خاطر في كتابه (اللهجات العربية) «إن العربية مثلا لغة مكتفية بذاتها محتوية على عناصرها، سواء أَنظرنا إليها في نفسها أم موازنة بلغة أجنبية أخرى كالإنجليزية مثلا، أم موازنة  بالعاميات في الوطن العربي، أما اللهجة المصرية مثلا فهي لغة إذا نظرنا إليها في ذاتها أو موازنة بلغة أجنبية، ولكنها لهجة إذا وزنت بالفصحى أو غيرها من اللهجات العربية».
هنا، يمكن القول إن استخدام اللهجة في نص «ديسكو» لم يزعزع قيمة المعاني والدلالات الدرامية والفكرية التي جاءت بها المسرحية. وإنما قد يعزز من الشخصيات ويمنحها مساحة للتدفق في المشاعر والأفكار التي تود التعبير عنها دون حواجز أو قيود، وكذلك تعطي اللهجة الممثل مرونة كافية في الأداء الصوتي خصوصا إذا كان الممثل مصريا، مع أن الممثلين من البلدان العربية الأخرى قد أثبتوا قدرة ومهارة أدائية في اللهجة المصرية من خلال لعب أدوار في الدراما التلفزيونية والسينما في السنوات الأخيرة.


إحسان الخالدي - فنان عراقي مقيم في أمريكا