عادل عبده يستحضر عبق «زقاق المدق» بإسقاطات روح الحاضر

عادل عبده يستحضر عبق «زقاق المدق» بإسقاطات روح الحاضر

العدد 754 صدر بتاريخ 7فبراير2022

 تقدم هذه الأيام ابتداء من الساعة الثامنة مساء، على مسرح البالون بالعجوزة / القاهرة، مسرحية «زقاق المدق» المأخوذة عن الرواية التي تحمل نفس الاسم للأديب العالمي نجيب محفوظ. رؤية درامية وأشعار: محمد الصواف. إخراج: د. عادل عبدو، تشخيص كل من: دنيا عبدالعزيز، وبهاء ثروت، ومجدي فكري، وبثينة رشوان، وكريم الحسيني، وشمس، وأحمد صادق، وسيد جبر،  وعبدالله سعد، وحسان العربي، ومراد فكري، وأحمد شومان، ومروة نصير، وعصام مصطفى هاشم، وسيد عيد. المشاهد السينمائية: ضياء داوود. وتصميم أزياء: مروه عبدالرحمن، وإبراهيم الغنام، وهاني عبدالهادي. إنتاج قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية بقيادة الفنان د. عادل عبدو.
مقارنة الإبحار إلى عالم «زقاق المدق» ما بين الرواية والسينما والمسرح: ولد النص الأصلي «زقاق المدق» من رحم الرواية التي حولته إلى نص وصفي دقيق ومفصل لمكان دمجت فيه أمكنة مختلفة قاسمها المشترك ضيق الآفاق ولزمان حدد في الغروب الذي يترواح بين الاسترخاء والبوح، مما فرض استدعاء شخصيات تتميز بملامح وعادات وهواجس مخنوقة  تتوق إلى التحرر من كل تجليات الاستبداد (الفقر، الاستعمار، الروتين..).
وللعودة إلى الملامح الأولى لـ»زقاق المدق» فهي رواية نشرت عام 1947. اتخذت اسمها من أحد الأزقّة المتفرّعة من حارة الصنادقية بمنطقة الحسين بحي الأزهر الشريف بالقاهرة.  وتدور أحداثها في أربعينات القرن العشرين والحرب العالمية الثانية وهيمنتها على العالم عامة ومصر خاصة. مسلطة ضوءها على شابة جميلة صغيرة السن كبيرة الطموح الذي سيتحول للطمع المميت الذي سيدفع ثمنه خطيبها (عباس) على يد أحد الضباط الإنجليز، (حميدة) اسم متعارض مع الصفة التي فردت لها أكبر مساحة في الرواية.  
وفي سنة 1963 ومن إنتاج رمسيس نجيب وإعداد سعد الدين وهبة وبطولة شادية وصلاح قابيل ويوسف شعبان، تناول المخرج السينمائي حسن الإمام «زقاق المدق» فكرة انعكاس الطمع على صاحبه وما هي النتيجة المحتومة التي تنتظره، فقام بتغيير النهاية من مقتل عباس الحلو إلى مقتل حميدة التي كانت نهاية مرفوضة من البعض معللين أن حميدة نتيجة مأساوية لمجتمع متفكك يخضع لهواجس متراكمة فرضت عيه بالإكراه. 
وفي سنة 1995، قدمت التجربة السينمائية الثانية التي حملت عنوان «زقاق المعجزات» من طرف المخرج المكسيكي خورخي فونز بيريز، وبطولة: سلمى حايك وإيرنيستو غوميز كروز، وبرنو بشير. وشهدت هذه  النسخة تعديلا يتلاءم والنمط الاجتماعي المكسيكي مع الحفاظ على النمط الأصلي للراوية. كما تم تحويلها إلى فيلم آخر بإيران، دارت أحداثه في طهران تحت مسمى «كافيه ستار/ مقهى النجمة».
أما على مستوى المسرح، ففي سنة 1958 تم إعداد الرواية للمسرح من طرف أمينة الصاوي وقام بإخراجها كمال ياسين وكانت من بطولة كل: فاطمة رشدي، وعبدالمنعم المدبولي، وسهير المرشدي، ومحمد رضا. وبعد 26 سنة وبالضبط في عام 1984 قامت فرقة الفنانين المتحدين برئاسة المخرج حسن عبدالسلام بإعادة عرضها كانت البطولة للفنان صلاح السعدني ومعالي زايد، وعبدالمنعم مدبولي، ومحمود شكوكو. وبعد مرور 37 سنة، وفي السنة الماضية (2021) ارتأى إنتاج قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية بقيادة الفنان الدكتور عادل عبدو خوض تجربة الاشتغال على ذات الرواية، لكن بشكل مختلف. 
على مستوى الإعداد / الرؤية الدرامية:
 لمدة سنة كاملة قام محمد الصواف بقراءة متعددة للرواية والغوص في أعماقها التاريخية والجغرافية والاجتماعية، وتحليل كل شخصياتها، ليتحول إلى الخطوة التالية المتمثلة في المشاهدات المتكررة للفيلم السينمائي لذات الرواية ليستخلص الفكرة/ الزاوية التي شدته كمبدع يرغب في إضافة نوعية للنص الأصلي من جهة، ومن جهة أخرى تفرده ببصمته الفنية، التي تجلت في قراءة جديدة تتلاءم والمرحلة الراهنة، مرتكنا على بناء وحبكة مختلفة كتغيير في النهاية مع الاحتفاظ بنفس الشخصيات، لكن وفق أبعاد أخرى تتوافق مع الطرح الجديد، وكذا متحررة من المألوف (أبطال الفيلم). ففلح (الصواف) في الحفاظ على روح نجيب محفوظ لكن بتشكيل أحداث مرتكزة على الجوانب الإنسانية، فجاءت كل الشخوص محور الأحداث، بتصرفاتها وتطلعاتها الشرعية واللاشرعية المسايرة لكل الأزمنة والأمكنة سواء بدلالتها ورموزها، جعلها تتلون وفق المطلوب الآني. فهناك إسقاطات حاول الصواف ملامستها مع مراعاة اختلاف الزمن، كالإتجار بالبشر وأعضائهم (القوادة/ خلع أطقم أسنان الموتى والأحياء)، وأحلام الهجرة، وانتشار المخدرات وخيوط اللعبة السياسية وكواليسها وتقويض التماسك الاجتماعي، خصوصا أثناء مرحلة الانتخابات التي تستباح فيها كل القيم و.... فحقق بذلك توليفة مكنته من خلق تواصل ذي أبعاد دلالية حولت العالم المادي المباشر إلى آخر ذاتي إبداعي أقرب إلى المعايش في تقديم حالة السعادة والترفيه والتثقيف والمتعة سواء لصناع العرض أو الجمهور، حرصا على القيمة الفنية التي تبناها العمل كطرح وفرجة ومدى احتوائه على رسائل وتوصيات إنسانية فقدت في زمننا الاستهلاكي. وأظن أن هذا هو رهان الصواف الذي سعى إليه ليفصح عن سر استفزازه وشغفه إلى رواق «زقاق المدق».         
المتعة البصرية بمساحيق طبيعية تجمل الراهن
أن تشتغل عرضا مسرحيا تم الاشتغال عليه سابقا بكذا صيغة والتخلص من آفة المقارنة، فهذه مجازفة كبيرة، وأن تختار خشبة بفضاء شاسع فالواجب أن تتسلح بالمغامرة, والمعروف أن لمسرح البالون خشبة أعدت خصيصا لتقديم أعمال ضخمة ذات طابع استعراضي في المقام الأول، خصوصا أن البعض يعتبر أن هذه الخشبة تعد مقبرة لأعمال مسرحية عادية. لكن المخرج د. عادل عبده بحرفية شديدة وتناول واعٍ لما يقدم، استطاع  حل تلك المعضلة وقدم المعادلة الصعبة ليطوع النص إلى عمل استعراضي كبير حوى كل عناصر الفرجة المسرحية والإبهار والمتعة السمعية والبصرية. وفي تغييره لنهاية العمل بابتعاده عن الجو القاتم الذي يتمثل في الموت أحد البطلين يكون فلح في إدخال السرور إلى وجدان الجمهور الذي يسعى إلى فسحة الأمل.      
12 لوحة استعراضية تخللت العرض ما بين الفردية والثنائية والجماعية سواء ذات طابع شرقي أو غربي أكانت من أداء راقصين أو ممثلين توظفت بشكل درامي محكم، لأنها كانت تشكل مدا تواصليا بين خيوط الحكاية. أيضا كانت لحركات السيرك دلالة، لأن الحياة سرك مفتوح ومكشوف. 
ارتكن د. عادل على تقنيات حديثة لجذب الجهور بمختلف مشاربه الثقافية وانتمائه المسرحي وفئاته العمرية، خصوصا المرحلة الشبابية التي لديها معلومات جد بسيطة عن فترة الأربعينيات, فاستطاع  تقريب صورة المكان بنقل تفاصيل جغرافيته الخارجية وكذا الداخلية من خلال استغلاله للشاشة بمشاهد سينمائية وكرافيك وخدع مسرحية (وصف الجدران والأرضيات والسقوف والزخرفة والمحلات وواجهتها...) كما استحضر ملامح ولوازم وهندام ومهام كل الشخصيات (ساكنة الزقاق وعابروها) بشكل مفصل ومقنع (أكسسوارات وملابس). مما أضفى على العرض سمة الوثائقية (النوستالجيا). 
الأداء/ التشخيص... السهل الممتنع:
توفق المخرج (د. عادل) من جرد شخصية حميدة كفلك محوري وجعل البطولة مفتوحة لكل الممثلين/ الشخوص، تحس أنه نحت كل شخصية واستخرج منها غير المألوف، فمثلا منح مساحة لدنيا عبدالعزيز أن تبدع بصوتها ورقصها وتقدم (حميدة) مختلفة. زعزع هدوء وحلم (عباس/ بهاء ثروت) بحركاته وتفاعلاته خاصة لحظة رفضه توبة حبيبته التي هاجر الزقاق من أجلها وكيف أصر على صون كرامته. كريم الحسيني الذي غير جلده من الهادئ للمارد، تقمص الحكمة والرزانة لأحمد صادق/ عم كامل بائع البسبوسة، وتحرره من هيمنة المقارنة بينه وبين الممثل الراحل (عبدالوارث عسر) خصوصا لحظة توهجه بمونولوج يختزل جروح عميقة شرخت حياته ويسعى جاهدا إلى عدم معايشتها حتى للآخرين. الحضور المميز لكل من بثينة رشوان وشمس ومجدي فكري و..... حيث استطاع أن يتملص من تلابيب الرواية والفيلم دون أن يتبرأ من قرابتها، فنحت لكل شخصية إطارها وترك الفرصة للشخصيات حرية الإبداع.  ليتوفق الجميع من تقديم فرجة استعراضية استقطبت جمهورا غفيرا في عز النوة وخنقة الامتحانات.


بشري عمور