البناء والقضية في مونودراما «الغفير» لـبكري عبد الحميد

البناء والقضية  في مونودراما «الغفير» لـبكري عبد الحميد

العدد 811 صدر بتاريخ 13مارس2023

يسبر الكاتب المسرحي بكري عبد الحميد أغوار شخصيته من خلال مسرحيته المونودرامية «الغفير» الصادرة عن هيئة قصور الثقافة عام 2010، يختزل ثلاثين عامًا من الضمير الإنساني المتأزم، مستعينًا بالتراث الفكري والأدبي والتاريخي ليبني عليها المونودراما، مستفيدًا من إرثه المسرحي والشعري ليضفي عليها الدلالة والرمز وليكسبها بعدًا إنسانيًا. يتناول شخصية الحارس صابر عبد الراضي فيفجر نوازعه وارتباكاته بعد أن تأزم إثر وقوفه في إحدى الليالي حارسًا على معبد الكرنك في الأقصر، ينتابه ضيق نفسي شديد، محبوس في ذاته يحاول التحرر منها بعد أن باتت تؤرقه، وأثناء محاولاته الفرار يصطدم بالأصوات المنبعثة من المعبد وكذلك صوت زوجته، برغم أن تلك الأصوات أثرت المونودراما إلا أنها كانت عاملا في تكريس فكرة التقوقع التي يلوذ بها للابتعاد عن واقع أليم. يشارك في نهب الآثار بلاوعي كما يشارك في تلويث النيل بإلقاء القاذورات فيه بوعي، يبحث في اللامعنى في خضم المعنى المرتبك. يندهش للضحكات الصادرة من المعبد وفي نفس الوقت لبكاء النيل، تلك الثنائية التي يتكيء عليها بكري عبد الحميد يوجه من خلالها خطابه المسرحي ذي الطرح السياسي. يتحدث الغفير وهو ممسك بالبندقية بصوتٍ عالٍ مع تماثيل المعبد وأعمدته كما يتحدث مع النيل، يبثهم أحزانه وفي نفس الوقت يتسرب إليه خوف شديد إثر سماعه ضحكات تتناهى إليه من جوف المعبد، يسمع أصواتًا ترد عليه فتزيد من ذعره. تتحمل الشخصية المونودرامية صنوف العذاب النفسي فجعلته يعاني ويتأزم، تلك المعاناة قادته للحديث كمتنفس وحيد للخروج من دائرة القلق والحيرة.  
تمتلك شخصية بكري عبد الحميد المونودرامية قدرات خاصة من خلال تعبيراته بلهجته العامية البسيطة ولغة عربية فصحى وفي بعض الأحيان شاعرية، تلك التنويعات في الحوار أكسبت الشخصية المونورامية زخمًا وتوهجًا، كما كشف عن عمقها الذي يعكس دلالات متعددة، كانت المحرك الوحيد للحدث الدرامي وقادته للنمو والتطور. لا يشعر المتلقي بالرتابة التي تنتج عن وجود شخص واحد يتحدث لأنه كان يقوم بالفعل بالحركة وتنوع الأداء وتجسيده لشخصيات غائبة استحضرها وتفاعل معها. استطاعت الشخصية خلق الدرامية التي تعتبر العنصر المهم في بناء الشخصية المونودرامية. يتسم النص بالعمق والذكاء واتكاءه على دلالات تحملها اللغة المعبرة التي تتسم بالدينامية فكانت الوعاء الذي يحمل الرسالة المونودرامية التي يستطيع الحارس توصيلها بالشكل الصحيح الذي يؤكد تلك الدلالات وغايتها.
«أنا حتة غفير غلبان لا رحت ولا جيت. عارفين كل الوشوش وكل الأماكن، وكل اللى جرى واللي بيجرى واللي حيجرى، وقافلين على كل حاجة صندوق قديم»
استعان بكري عبد الحميد بحكايات ألف ليلة وليلة ليرمز إلى واقع الشخصية كما استعان بمقاطع من فجر الضمير وكتاب الموتى والعهد القديم..إلخ، يحمل هموم حراسة المعبد وتعاطفه مع النيل وعبء زوجته بدرية وأولاده، هو حارس الحضارة والتاريخ سُلبت منه ذاكرته من أجل نهب الآثار بشكل ممنهج، وتم وضعه في دوامة الحياة ليواجه واقعًا مؤلما، بالرغم من ذلك يقف ببندقيته يحاول الثبات واستدرار الوعي لينفذ مهمته دون الوقوع في الخطأ. إنها قضية نهب الآثار التي ظلت تعاني منها الأقصر في فترة ما قبل 2010 يفجرها كاتبنا ليوقفها أو على الأقل ليدق ناقوس الخطر.  
«خللي بالك يا صابر، يخللي باله من ايه ولا ايه صابر، يحمي التاريخ ويحرس المساخيط ويراعي النيل اللي بيجري من ميت ألف سنة، يحرسه من اللي عايزين يسرقوه من قدام ومن ورا.»
يستعين الكاتب بمشهد فيلم «واسلاماه» ليسقط على واقعه، يحاول صابر الهروب من الواقع ليقع في ضجيج العزلة، فيجد نفسه في تيه لا ينتهي، يبحث عن فجر يأتي ليزيح عتمة الليل، وحينما ينتقد واقعه تتهمه الأصوات بالكفر والتحريض على الفتنة، يحمل بكري عبد الحميد شخصيته المونودرامية بحمولات ثقافية وسياسية ليدق ناقوس الخطر حول طمس الهوية الحضارية التي هي بالأساس هوية المكان، وبطمس حضارته يعتبر طمسًا للمكان نفسه. يصل الحدث الدرامي إلى الذروة حينما يختلي الغفير بزوجته في مشهد تعبيري يمتزج فيه صوت بدرية والبندقية فيتحدان لتكون زوجته لكنه يكتشف أنه لم يعد رجلا ترضى به زوجته فتتندر عليه بأنه لم يعد سيد الرجال فيثبت عجزه كرجل، ذلك المشهد أتم بناء الشخصية من الخارج.
يؤكد لويس كارتون في كتاب «The power of one» «قوة الشخص الواحد» أنّ المسرحية ذات الشخصيات المتعددة ترتدي فيها كل شخصية قناعًا ما مختلفًا يتغير وفق الأحداث في المسرحية والزمن. لكن في المونودراما فإن الشخصية واحدة بلا قناع مما يُمكِّن المتلقي من النظر بعمق في دواخل الذات الإنسانية. بينما يرى بيتر بروك أن المسرحية المونودرامية تُفقد المسرح جزءًا من وهجه الخاص، لأنه يعتمد أساسًا على ممثل واحد يقوم بأداء عرض مسرحي كامل، وبذلك تغيب سمة التفاعل التي يقوم عليها أي حدث درامي حقيقي على خشبة المسرح بين ممثل وممثل آخر في ثنائية التعامل بين فعل ورد فعل، وفيما يرى البعض أن الشخصية المونودرامية هي شخصية وحيدة منفردة ولا يمكن أن تُرى إلا من منظورها دون أن يكون هناك بعض الآراء حولها، وهي بذلك تنأى بالشخصية بعيدًا عن محيطها الاجتماعي، وعن تواصلها مع الآخر. لكن في مونودراما «الغفير» تمتلك الشخصية مقومات الحوار والحركة وتفجر أزمتها النفسية وارتباكاتها، وبرغم محو ذاكرته من أجل هدف واضح وهو نهب الآثار إلا أنه ما يزال يطرح الاسئلة والتساؤلات حول ما يحدث ليترك الفرصة للمتلقي ليجيب عليها. وضع بكري عبد الحميد شخصيته في منطقة اللاوعي حتى يكون المتلقي في وعي تام بشأن قضية الطمس الحضاري التي تتم أمامه. تقوم الشخصية المونودرامية بالتحاور مع أصوات أخرى صنعت الدرامية وجعلت الحوار متناميًا وقادت الحدث المسرحي للتطور وصولًا إلى أكثر من ذروة تحمل العديد من الرموز والإسقاطات.
إن العتبة البصرية الأولى تدهشنا بغلاف يقوم على بورترية لشخص يقف خلف جدران سجن يمسك بالقضبان التي تبدو سميكة لا يمكن الخروج من خلالها، فيلقي بدلالات عميقة تؤسس لخطاب مسرحي مغاير، إذ يمثل سجن الشخصية المونودرامية في نزع وعيه وحبسه في ذاته، ويعتبر البورترية إشارة مباشرة لمضمون المسرحية والتكريس لموضوعها القائم على حبس الذات في نزع هويته. جاء اللون القاتم المحيط بالقضبان ليشير إلى دلالة أن الخارج أكثر قتامة من الداخل، أو أن ما خلف القضبان ليس أكثر رحابة من الخارج. إنه تعبير عن واقع تتعاظم دلالاته ويدل على ديناميكية فكرته. جاءت العتبة اللغوية وهي العنوان «الغفير» لتدل على وجود شخصية ما تواجه مصيرًا مجهولًا خلف قضبان سجن ما، ويشير بشكل مباشر إلى الغلاف فتقوم بينهما علاقة قوية، ونجد المفارقة في العنوان والغلاف حيث الغفير الذي يقوم بالحراسة هو الذي يقف خلف الجدران. من حيث الجانب التركيبي: تعرب كلمة «الغفير» خبرًا مرفوعًا لمبتدأ محذوف تقديره هو.
يقول بارت: «إن العناوين عبارة عن أنظمة دلالية سيميولوجية تحمل في طياتها قيمًا أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية»، يحمل العنوان دلالة متشعبة إذ أنه الحارس اليقظ الذي يحرس شيئًا أو مكانًا ذا أهمية، ويشير أيضا إلى دلالة أن تلك المونودراما وشخصيتها وموضوعها وبنيانها الدرامي هي التي تبرز علاقة ما سوف يتولى المتن الكشف عنها. يعتبر الغلاف والعنوان العتبتان الأوليان؛ البوابة الشرعية للمتن بعد أن قامتا بوضع الدلالة التقابلية والتي تمثل الحبكة المسرحية وبرغم ذلك فإن هناك دلالات كثيرة غامضة سوف يتولى المتن أيضا الكشف عنها.
إن المقصود بالبناء الدرامي هو التطور في بنية التركيبة المسرحية، وصولا إلى ذروتها ومن ثم إلى نتائجها النهائية. هكذا يحلل المختصون في علم المسرح قواعد المسرح الكلاسيكي والمسرح الواقعي ويقسمونها إلى مراحل تبدأ بالمقدمة أو المشاهد الاستهلالية، وتمر بمرحلة الصراع أو ما يسمى بالعقدة، بعدها تأتي النهاية لتشكل حلًا للمشكلة نفسها. جاء البناء الدرامي في مونودراما «الغفير» متينا يثير التخيل لدي المتلقي وبنسيج محكم من خلال حبكة الصراع القائمة على ارتباكات الشخصية الذاتية والارتباكات الناجمة عن الأصوات المشتركة في الحوار، تتسم بالدينامية والتوتر والتفاعلية وحوار تفاعلي دال، إنه بناء قائم على الهدم والتغيير ومن ثم إعادة البناء بتكنيك واعٍ وأن الحبكة باستمراريتها تتحكم في حركات الفعل الدرامي وتوجهه وفقًا لضرورتها، كما أنها سوف تتدفق وتساهم في إعادة تشكيل الحدث ونموه الذي يصل إلى العديد من نقاط التأزم والذي يدل على أن الصراع هو النتيجة الحتمية لوجود محاولات مستميتة لاتهام الغفير بسرقة معبد الكرنك وصولًا إلى اتهامه في نهاية المونودراما بسرقة النيل نفسه (صوت الضابط: فين النيل يالا). يحتشد البناء الدرامي بالإشارات والدلالات سواء كانت ذاتية أو تقابلية أو مسكوت عنها أنتجتها الإستعارة والمعادل الموضوعي لتبرز ملامح القضية فيكتمل البناء الدرامي.
مزج بكري عبد الحميد مونودراما «الغفير» باللهجة العامية واللغة الفصحى والشاعرية، وبرغم ضرورة المزج إلا أن الشخصية لم يكن مجرد حارسًا يقف للحراسة بل ضمير حي تم التلاعب بوعيه وسرقة ذاكرته فأصبح بلا ذاكرة حتى يحدث النهب الممنهج للآثار وخصوصًا معبد الكرنك الذي يمثل المكون الحضاري للأقصر بشكل خاص ومصر بشكل عام. إنها شخصية مونودرامية متفردة تحمل على عاتقها حراسة الإرث الحضاري الضخم. كانت اللغة شديدة الثراء المعرفي وحملها بكري عبد الحميد بالعديد من الرموز التي وصلت بالمونودراما إلى غايات محددة يسعى لتكريسها والتلميح لبعضها.
شغلت الشخصية المونودرامية الحيز المكاني القائم في فضاء المسرح الذي يقع ما بين معبد الكرنك ونهر النيل والحيز الزماني المتمثل في زمن النص، ما قبل عام 2010، دون أن يترهل أداؤه لأن النص المونودرامي كان عميقًا ويحمل رؤية واسعة من خلال رصد الحدث في الزمان والمكان المناسبين وبطريقــة تتجاوز سردية الأداء أو ترهله. استطـــــاع بكري عبد الحميد أن يوجِّه ممـــــثلًا واحدًا يلعب دورًا مختلفًا وحالة درامية يستطيع الدفع بها من خلال تصاعد وتنامي الأحداث وتشابكها، وبين ردود أفعاله إزاء تحاور الأصوات معه في الفضاء المسرحي، واتسق مع رؤية كيث جونستون حول الممثل حينما قال: يمكنك أن تشاهد ممثلًا رائعًا في الصفوف الخلفية لمسرح كبير لا يمثل وجهه إلا بقعة ضئيلة في شبكية العين فتــــتخيل أنـــك رأيت كل تعبير دقــيق مرسوم على وجهه، هذا الممثل يمكــــــنه أن يجعل القناع الخشبي يبتسم وشفتيه المقوستين ترتعدان، وحاجبيه المرسومين يضيقان.
«انتو ليه عايزيني أفقد الثقة حتى ف نفسي، من يوم ما نسيت كل حاجة، وانا بخاف من كل حاجه، بخاف م البندقية اللي حطيتوها ف إيدي، بخاف م الليل والنهار»
تزيد الانفعالات والارتباكات فتذبل بداخله العاطفة التي تؤطر إنسانيته ولا يمكنها مواجهة سيطرة العقل الذي يسود الموقف برغم طمس ذاكرته. حينما اكتشف بكاء النيل يبثه حزنه وضيقه شعر بوحدته القاتله وظل يعاني من حزنه وضيقه من الآخرين وعائلته التي تقوم بإرباك ذاته فآثر الوحدة في حراسة المعبد. تتشرذم شخصيته فيظهر التناقض الذي يزيد من درامية الأحداث. يكشف الغفير عن مأزق يعيش فيه إذ لم ير حلمًا في حياته، الحلم الذي يعتبر الوعي الذي يقود الإنسان للوقوف أمام أخطاء الحاضر، بمعنى أن الحارس بلا حلم ومن ثم بلا وعي.  
يقول جورج لوكاتش «تعني الدراما عملًا مكتوبًا، يستهدف الوصول إلى تأثير قوي لجماهير محتشدة داخل قاعة مسرح» ومن هذا المنطلق كتب بكري عبد الحميد مسرحية «الغفير» للتأثير في المتلقي عن طريق التكريس لدرامية الأحدات التي جاء فيها التصاعد الدرامي بشكل منطقي يؤسس لمسألة الإيهام، ولم يسع إلى وضع المتلقي في مكانة المقارن خصوصًا في الوقت الراهن، لأن المتلقي أصبح واعيًا ويفهم الرمزية وإساقاطاتها بشكل كبير ولا يحتاج لأن يهدم الكاتب المسرحي الجدار الرابع ليكون جزءًا من العمل المسرحي، ولكنه وضعه في مكانته الواعية والمدركة للقضايا الاجتماعية وأهمية إعادة إنتاجها في قالب مسرحي. إن بكري عبد الحميد يوجه خطابًا مسرحيًا مهمًا لمتلق واع، ربما يكون مثقفًا إلى حد ما وربما يكون أقل درجة، لكنه على أي حال، يضع في اعتباره أن المتلقي في الوقت الراهن يفهم إلى حد كبير ما يوجه إليه من خطابات توقظ وعيه وتراهن عليه.
تتسم مونودراما «الغفير» لبكري عبد الحميد باكتمال البناء الدرامي ووضوح القضية وجمالياتها ورؤاها الدلالية ولغتها الجميلة التي جاءت في شكل جمل قصيرة وتناسب التحولات في الشخصية المونودرامية، وعبرت عن آلامها وأحلامها ونوازعها الشخصية، ولكي يكسب الدراما توهجًا استخدم صيغة المعادل الموضوعي بشكل متكرر، مثل مشهد فيلم واسلاماه وألف ليلة وليلة، لتكون الميزان في الفعل الدرامي وأنساقه وتكوين الشخصية الدرامية وصراعها النفسي بطريقة فنية واعية، وحمَّل تلك الصيغة بدلالات آخرى تتوازى مع اكتمال الحدث ووصوله إلى الذروة. تتسم شخصية صابر عبد الراضي باللاوعي وعدم الثبات في ظل ظروف نفسية واجتماعية قاسية تقوده إلى الارتباك، يقوم بالفعل الدرامي الذي يؤدي في النهاية إلى قمة الانفعال وتقاطع مع المعادل الموضوعي فاكتملت المونودراما فاتسمت بالخصوبة والثراء لتكون عملًا مسرحيًا مهمًا في مشروع بكري عبد الحميد شديد الثراء والتنوع.


ترجمة عبد السلام إبراهيم