«لي لي».. اختبار الإرادة الحرة في مقابل الغواية

«لي لي»..    اختبار الإرادة الحرة في مقابل الغواية

العدد 696 صدر بتاريخ 28ديسمبر2020

« وبينما الجميع ساجدون كالقطيع بعد طول ضلاله، كنت قد تسللت عبر النافذة الملاصقة للقبلة، وفي ملح البصر كنت أدق غرفة الدور الثاني السطوح في البيت المقابل.
«لي لي» وقد لفت نفسها بملاءة السرير تفتح، بابتسامة مرعوبة قلت لها وأنا أفك زرارالكاكولة الأعلى: «جئت أعلمك الصلاة.»
انزلقت الملاءة عنها فضمتها بقوة وهي تستدير توليني الظهر وتقول: أنا اشتريت الأسطوانة الإنجليزي اللي بتعلم الصلاة، لقيتني أفهمها أكتر، متأسفة.
وأطفأت النور.أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟! «
بهذه الكلمات التي ختم بها يوسف ادريس قصته المثيرة للجدل « أكان لابد يا لي لي أن تضيئي النور» والتي تركت - ومازالت - دويا وأثرا قنبليا في الوسط الأدبي، يمكن الولوج لعالم ادريس ولشخوص حكايته .. و كيف اعدها المؤلف: محمد السوري وتناولها المخرج نادر الجوهري في مسرحيته «لي لي» والتي قدمت ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي- زكي طليمات- في دورته السابعة والثلاثين، دورة الفنان الراحل سناء شافع .
ولنطرح من البداية من هي «لي لي» عند ادريس وما هو « النور «، لي لي هي تلك الفتاة الفاتنة البريئة التي تسكن «حي الباطنية» وكر المخدرات، إنها - وكما يصفها ادريس- «نصف إشاعات وأحاديث واستنكارات واستحسانات واتهامات وبراءات أهل الحي.
 «لي لي» أعجوبتهم  بنصفها الإنجليزي ونصفها المصري، بشعرها الأحمر الطويل الكثيف وعيونها العسلية المصرية، فهي ثمرة الزواج الذي دام أسبوعا بين أمها وبين عسكري إنجليزي اسمه «جوني» قضى مع «بديعة» الأم ليلة، ولم يكتفي بما أصاب من متعة ويفر، فقد طلب منها في
الصباح الزواج، وتم، وبعد أسبوع سافر، وبعدها لم يعد! مات في الحرب ..
 ولأنه إذا كانت  الخواجاية مصرية كان الإغراء أكبر، تعلمت «لي لي» أو لم تتعلم. لكنها كانت طموحة  من صغرها وهي تحس أنها أرقى ولا بد
 أن تكون الأرقى، وحتى وهي تعب المشروبات الرخيصة في الكباريهات منضمة إلى الفرق  الأجنبية، وتقضي الوقت تتردد على مكاتب ريجيسيري  الدرجة الثانية كانت تؤمن تماما أنها يوما ما ستصبح ست الستات، وسيسجد لها العالم، وتكون أشهر وأمتع امرأة فيه..»
«لي لي» طرف الصراع الأول في قصة ادريس بملامحها وتاريخها الواضح، في مقابل الشيخ خريج الأزهر الحديث الذي يسرد لنا بعض جوانب الحكاية، وهنا يستخدم إدريس أسلوبين في سرد القصة، فتارة السارد العليم (مؤلف القصة) وفي مقاطع أخرى نجد الشيخ نفسه هو الرواي فيقول «  أنا الخريج الحديث من الأزهر، من صغري أحببت الله، وبإرادتي ربطت وجودي بدينه أكاد أبسم إشفاقا ممن يتصورون أني دخلته لأصبح فقيها ومقرئًا ما دام قد وهبني هذا الصوت، أعرف أنه جميل وأني كي أداريه لا أكشف للناس عن جماله، ولكن ما لهذا اخترت الأزهر، وما لهذا حفظت القرآن صغريًا، ومن ابتدائي مدارس حولت إلى ابتدائي أزهر، السبب أعمق، السبب إلهي، السبب موقفي من كون ليس فيه ما يستحق الحيا سواه.
أكان لا بد يا «لي لي» أن تضيئي النور؟!»
ثم هذا التأكيد على النور الذي أضأته «لي لي» إنه الاختبار .. اختبار الإرادة الحرة في مقابل الغواية ..
هذه الملامح التي رسمها ادريس لشخوصه وهذا التاريخ الذي حدده واضحا كان دافعا قويا لأن تتحرك شخصيات القصة  وفق قوانين الاحتمال و الحتمية أو الضرورة الدرامية .. بينما دراما العرض المسرحي وشخوصه قد ابتعدت كثيرا عما رسمه ادريس في قصته.
فالعرض المسرحي قدم لنا «لي لي» بوصفها الشيطان الذي يغوي الشيخ وكل من يهتدي أو يصلي تظهر له « لي لي» وتغويه .. وهو طرح أراه قد أفقد قصة ادريس  عمقها و تأثيرها .. فالصراع في دراما ادريس  يكتسب قوته من براءة لي لي» .. في مقابل الضعف الانساني في نفس الشيخ الصغير حديث التخرج، أما ما حدث من شيطنة لهذه الفتاة البريئة التي لا ذنب لها سوى أنها فاتنة فقد خفف من حدة الصراع الدرامي، بالإضافة لما يعتري أغلب مشاهد العرض من فجاجة المباشرة .. . حين نسمع صراحة أن لي لي قد اختفت حين ترك الناس الصلاة .  وتعود حين يعود أهل الحارة الصلاة .
إن هذه الصيغة التي طرح بها المخرج رؤيته لم تثمر عن رؤية مغايرة بل أفسدت دراما تكتسب قوتها وتأثيرها من الأبعاد التي رسمها الكاتب للشخصيات والتناقض بينهما.
ومن ناحية أخرى فقد استخدم المخرج الصالة في اكثر من مرة فالعرض يبدأ بوصول الشيخ ومعه « علي لوز « أحد شخصيات الحارة، من الصالة، و مشهد أخر بين (على لوز)  وحبيبته في مشهد ينتهي بموت حبيبته  على السلم الرابط بين الصالة و خشبة المسرح، وغيرها .. من اللحظات التي استخدم فيها الصالة كاسرا الحائط الرابع دونما مبرر درامي واضح في حين أن العرض في صيغة إيهاميه تامة .. حتى وإن كان يقصد أن الشيخ وعلي لوز من الناس في افتتاحية العرض .. أو ان «على لوز» وحبيبته من المهمشين الذين هم في قاع المجتمع .. فقد كان يمكنه أن يفعل كل هذا على خشبة المسرح التي تتسع لذلك دون تشويش على المتلقي بكسر لا محل له في الدراما.
ولنضف لذلك رقصات المولوية لمحمد البحيري التي زينت العرض بالتشكيلات الجمالية فقط ولكنها  لم تكن مبررة دراميا، فلم تضف للدراما ولم تعلق عليها  بل إن التصوف في حد ذاته ليس  طرفا في معادلة الصراع الدرامي، و إن كان البطل شيخا، فالتصوف هو حالة الصفو والسمو الروحي، أما دراما. العرض فهي على النقيض إذ هي تتلخص في صراع  الإرادة في مقابل الشهوة والجسد، وهو ما لا يتطلب هذا الشكل من الرقصات التي ارتبطت بالتصوف، بينما أجاد في الرقصات بين لي لي والشيخ، وأداها كلا من نسمة بهي ومينا نبيل بإتقان و وعي شديدين.
أما على مستوى الصورة البصرية، فقد ارتكز المخرج على ثلاث مناطق رئيسة ( كل منطقة مقسمة لمستويين رأسيين) .. في اليمين بيت المعلم حنتيته وفوقة بيت (لي لي) . وفي المنتصف باب المسجد ومن فوقه ما يعبر عن المئذنة، وإلي اليسار منزل الشيخ الذي يسكن الطابق الثاني.  
لكن هذا التقسيم قد أحدث شيئا من التشتيت قد حدث على طول العرض، ففي لحظات كثيرة لم يكن واضحا الشارع من المسجد من المنزل .. بل يحدث تداخلا ليس مقصودا ولا واعيا بين الأماكن وبعضها .. فالبعض يخلع حذائه عند دخول المسجد وآخرون لا يفعلون ..
ورغم جماليات الإضاءة ومناسبتها للحظات الدرامية إلا ان وجود بروجيكتور أرضى على الافانسين ألقى بظلال شبحية على الديكور في اوقات كثيرة من العرض أفقدها تأثيرها  
في حين  قد أدى الممثلون أدوراهم ببراعة شديدة فالمعلم حنتيته والذي قام به كريم أدريانو راسما أبعادا واضحة لهذا المعلم الذي درس في الأزهر  صغيرا، ثم خرج من الأزهر وأصبح تاجرا للحشيش .. ولا يرى تناقضا بين صلاته وبين تجارته للمخدرات ..بل ومستعد أن يدافع باستماته عن أكل عيشه، ولا يقبل نقاشا في ذلك، وقد رسمه أدريانو بخفة ظل شديدة، لا تملك إلا أن تصدقه في حركته ومشيته وإيماءاته وضحكته وصوته و تفاصيل دقيقة أكسبت الشخصية روحا وحيوية كما لو كنت تعرفها.
وكذلك بولا ماهر الذي أتقن (علي لوز )  وهو المصاب بشيء من الشلل الدماغي أو ما أشبه، فأكسبه مشيته وحركة وصوتا ونطقا،  من منبت شعره وتعبيرات وجهه وحركة فكه وأصابع يديه وحتى أخمص قدميه، كل شيء كان حقيقي وصادق... ولو أن توبته بعد صدمته بموت حبيبته لم يكن هناك مبررا لانتكاسته مرة أخرى بغواية لي لي حتى وإن انتكس شيخه الذي تاب على يديه. فالصدمة أكبر من لي لي ومن غوايتها.
وكذلك اجادت  حبيبته دعاء الزيدي.
و عبدالرحمن محسن الذي أجاد  في دور سنقر البلطجي برغم نمطية الشخصية إلا أنه  خرج من كليشيه البلطجي ليكسب الشخصية خصوصيه ويقربها من المتلقي ، ونسمه بهي في دور لي لي  وزلط وبتول عماد والغندور ومينا نبيل أجادوا. وإن اختلفنا مع المخرج فيما طرحه أو حدده من ملامح للشخصيات ولاسيما ملامح شخصية لي لي التي لم تظهر واضحة إلا في النصف الاخير من المسرحية رغم أنها طرف رئيس في الصراع الدرامي.
وبرغم محاولات المخرج التأكيد على ان لي لي مجرد شيطان في  خيال الشيخ عبدالعال بل وفي خيال أهل الحارة، إلا أن ذلك كان من الممكن تمريره لو لم يكن لبيتها (كوان ثابت ) واضح على المسرح لشرفتها، يؤكد ان لها وجود حسيا وليست هاجسا او ذات وجود معنوي في خيال اهل الحارة.
أما أشعار أحمد الشريف رغم قوة ألفاظها ومعانيها فهو يمتلك حسا دراميا شاعرا ومعجما لغويا من الألفاظ بديعا  إلا أنه أكسبها أيضا ابعادا وصورا ومفردات صوفيه بتوجيه من المخرج لم يكن لها داع في مواقفها الدرامية.
وقد جاءت موسيقى أحمد حسني ملائمة لأغلب اللحظات الدرامية، وهو ما أضاف للعرض تأثيرا شعوريا، وساعد على الاندماج والتأثر باللحظات الدرامية.
ولا يمكن أن ننكر هذا المجهود الذي قدمه فريق العمل والذي لا نملك إلا احترامه، واحترام صناعه، وإن اتسم بالمراهقة الإخراجية فهذه طبيعة التجارب الأولى، وهو ما يحسب لرصيد نادر الجوهري وفريقه، أن يتصدوا لهذا العمل الذي يطرح قضية شائكة وفي غاية الحساسية، فهي مخاطرة بكل المقاييس، لكنها تتطلب من مخرج العمل إعادة التفكير في الطرح والتناول ليصل بعمله إلى الكمال والنضج الفني المنشود .


عماد علواني