يوم مناسب جدا.. لموت الإنسان الصرصار

يوم مناسب جدا..  لموت الإنسان الصرصار

العدد 786 صدر بتاريخ 19سبتمبر2022

يوم مناسب جدا للموت؛كان هو العنوان الذي اختاره/ محمد هلال لعرضه الذي قدمه ضمن نشاط نادي المسرح التجريبي بالمنصورة. في مقالي السابق تعرضت لهذا النشاط وما قدمه والخطوات اللازمة لاستمراره. والحقيقة أن هذا العرض يتشابه مع سابقه_ عرض البؤساء للزقازيق_ في الكثير من الأمور. أولها تلك الصفة المراوغة والتي أصبحت مقيتة؛ التي يحاول أن يلصقها المخرجون بالشباب بأعمالهم . ألا وهي صفة (الكتابة) مع أنهم ليسوا بمؤلفي العروض وإنما هم مقتبسون أو معدون . فعرض اليوم(يوم مناسب جدا للموت) كما يقدمه مطبوع العرض نفسه هو عن رواية الإنسان الصرصار لدستيوفسكي، صحيح أن الذاكرة السمعبصرية للمخرج قد تدخلت وأضافت أو سطحت؛ ولكن ماحدث من تدخل هذه الدائرة يدخل تحت نطاق الرؤية اللازمة إخراج أي نص مهما كان. إذن فالتوصيف الصحيح لما تم هو الإعداد عن ديستويفسكي ؛ وليس كتابة عنه!!
ليس هنا مجال الحديث عن المؤلف الأصلي وروايته التي لها أكثر من اسم؛ فهي الإنسان الصرصار أو رسائل من باطن الأرض أومذكرات قبو، ولكن في عجالة من الممكن أن نقول أن هذه الرواية تعتبر ردا على مناصري فلسفة التفاؤل والصورة الجيدة للإنسان؛ اعتمادا على التقدم الذي كان في القرن التاسع عشر. وسرعان ما صحت مقولة ديستويفسكي ونظريته المتشائمة للإنسانية عند اندلاع الحرب العالمية الأولى. بل أن هذه الرواية يعتبرها الكثيرون بدايات الوجودية في الفلسفة والفن. والكثير من الأشخاص والأعمال الفنية اللاحقة قد تأثرت بها لحد كبير مثل نيتشة وكافكا ورالف إليسون..الخ.
تتحدث الرواية عن إنسان سيء وكريه ولا يحمل اسما وهو موظف متقاعد. الجزء الأول عبارة عن مونولوج يتكلم فيه عن نفسه. والقسم الثاني يتحدث عن بعض الأشياء التي مرت عليه وأثرت به. وأبرز كيف يتمتع بالألم والمعاناة . وناقش بعضا من أفكار وكيفية تغير الأخلاق ومنطقه ونظرته لقوانين الطبيعة ونفسية الآنسان خاصة فيما يتعلق بمناطق الوعي.. الخ
تعامل هلال مع الرواية بشيء من الحرية؛ مع وقوعه في أسر ما عرفه عن النص؛ وفي نفس الوقت كان يطالب نفسه بالحديث عن الآن ونحن، 
فأولا هو لم يجعل من الكاتب بطلا للعرض. بل وضع الكاتب بجوار مكتب أسفل يمين خشبة المسرح أمام المشاهدين وفي صالة العرض. ومع الأحداث كان هناك تبادل للحديث بين الكاتب والبطل الذي وضع له اسما!!
ومع الأحداث حدث الخلط بين كون الكاتب والشخصية وجهي العملة. وبين العلاقة بين القاهر والمقهور؛ وفي أحيان كنت تجد العلاقة الميتافيزيقية وكون الكاتب هو المحرك الأول للأحداث؛ نعم هناك تأثر بما قيل عن وجودية الرواية ؛ وأنا لست ضد تعدد الدالات؛ ولكن التعدد يلزمه أن تكون الخيوط متوازية لا متقاطعة؛ مع السمت الواجب لكل خيط سواء في الظهور أو الأداء؛ كما أنه ربما نسي أو تناسى أنه في مشهده الأخير حينما جعل الجميع يرتدي مرايا على وجهه؛ مشيرا لأن الجميع ما هم ألا واحد؛ سواء كان واحدا فعليا. أو جمع مشترك؛ كل يرى انعكاس نفسه في الآخر. لم يجعل الكاتب ضمن هذه المجموعة، أي أنه أكد ضمنيا على البعد الميتافزيفي، ولا أعتقد أنه كان يقصد هذا التأكيد. كما أن منح الاسم للشخصية لم يجعله النمط المعادل للإنسانية أو القاهرين/ المقهورين ... الخ ؛ بل حدده بصفته فردا من الممكن أن يختلف عنه الآخرون.
هذا الموجود على الخشبة كما الجزء الأول في الرواية تحدث عن نفسه وقدم ما يريد/ المخرج/ المعد منه. ثم أكد أنه يوم مناسب جدا للموت ؛ ولكن بتوالي تداعياته يتذكر أشياء حدثت له. في نفس الوقت نجده يتعامل مع الحاضر كصاحب المنزل والخادمة؛ لم يحدث الأمر بانسيابية الفصل بين ماهو ماضي أو متخيل؛ وبين ماهو كائن؛ بل حدثت هناك تداخلات؛ لم تكن على مثال أن ما حدث ماضيا من الممكن أن يؤثر في واقعنا. أو انعدام البعد بين الماضي والآن والمستقبل هو للتلاشي طبقا لرغبة الشخصية في الموت؛ لم تحظ هذه النقطة التقنية بالاهتمام الكافي. بل كان التركيز على إبراز النفاق والنفعية التي تحكم البشر ووجود القهر؛ ومحاولة الكل نهش الآخر؛ مع عدم الفطنة أن وجود كل منهما مرتبط بوجود الآخر . وإنما هم كلهم اهم ألا صورة واحدة تبدلت روشها؛ كما حاول أن يقول في بعض من دالات المشهد الأخير.
كما أنه لم يدع دالة اسم الرواية ( الإنسان الصرصار) تخرج بلا طائل؛ فهو في تداعياته . وصراعه مع الضابط عندما يلتقيان في الطريق ولا يفسح له. نجده يشعر بالاصطدام بقوة؛ على عكس الضابط الذي يشعر أن حشرة اعترضته فيقوم بدهسها. ثم بعد حوار للكاتب مع الشخصية. نجد كمن يقوم بتجربة ما فيخرج زجاجة بها تلك الحشرة. ويفتح غطائها ويضعها على الأرض؛ أي انه يعلن لها أنها لو استطاعت الخروج لخرجت؛ والخروج منعدم لأن الحشرة لن تستطيع المضي على السطح الأملس. ليقوم بالمعادلة بين الحشرة والشخصية؛ وإذا كان القاهر الدنيوي يقوم بالدهس على خشبة المسرح؛ فمن هذا اللاهي بمعاناة الحشرة في الأسفل؟. أعتقد أنه سار وراء دلالة العنوان البسيطة دون الخوض فيه. لو كان قد ركز في العناوين الأخرى للرواية لربما كان له تعاملا آخر.
المهم أنه بعد كل تذكر أو تداخل . وتبيان البشاعة الحاكمة سواء كانت من داخله أو من حوله. يصر على أنه يوم مناسب جدا للموت. إلى فترة النهاية حين يتذكر لحظة الحب الحقيقي المتمثل في ليزا التي قدمت على أنها عاهرة؛ في محاولة للربط بينها وبين الدنيا. ولكنها لم تكن سوى عاهرة وباءت محاولات ربطها بالمومس الفاضلة بالفشل على مستوى التنفيذ؛ ولحظات إنسانية مع الخادمة . فيدرك بأنه ليس هناك وقتا مناسبا للموت؛ وأنه يريد أن يعود ثانية للحياة ولكن بعد فوات الأوان.
هو حاول أن يقول الكثير سواء عن الطبيعة التي تحكم الإنسانية الآن. وأن المقهور ماهو إلا قاهر في بعض الأحيان فالكل يمارس الفعل على الآخرين؛ وأنه لو أفسحنا طريقا لبعض المشاعر التي أهملت لكان الوضع أفضل؛ ولكننا في النهاية نسير لحيث النتيجة لما فعلناه؛؛ مع عدم إغفال البعد الميتافيزيقي والوجودي الذي أطل بشدة، والذي أكاد أجزم بأن المخرج لا يقصده؛ مع أنه استفاد ببعض تقنيات مسرح العبث من حيث مناطق دخول وخرج الشخصيات وتداخلها بعضها مع البعض؛ ولكن حالت الخبرة دون تحققها على المستوى الأمثل. 
الملاحظ أنه كان هناك تباعدا كبيرا بين المخرج والمعد. مع انهما ذات الشخص. فالمعد  بعدما هيأ النص أصر على تقديمه بكامله. ولم يفطن المخرج أن النهاية قد جاءت مرتين على الأقل قبل نهايته الثالثة. وأن النهاية الثانية لم تضف للأولى؛ وكذا علاقة الثالثة بالثانية. كل ما في الأمر هو إعادة توكيد وشرح لما تم مخافة ألا يفهم الجمهور. أو الإتيان بشيء لم يعد هذا مكانه ولا أوانه. والحقيقة أنه لو اقتصر على ما بعد منتصف العرض بقيل. أو عندما فتح الكاتب الزجاجة؛ لانتهى الأمر ووصلت الحالة المرادة لنا وللجمهور. ولكن الإسهاب خلق خلطا وتساؤلات ليس ها ردود.
لكننا في النهاية ومن شبه معرفتي بمحمد هلال الذي أزي انه يملك مقومات الفنان؛ والذي يطمح بأن تكون له رؤيته؛ ولا يخشى من التصادمات لتبيان تلك الرؤية. وهو قادم بما لا يدع مجالا للشك. ولكن هناك فرق بين السرعة  لمحاولة الكينونة والتسرع الذي يأت بالأمر مبتسرا. ونظرا لكونه يريد الأمرين معا؛ المعرفة والفعل_ وهو شيء أحبذه_ عليه أن يعيد النظر أكثر من مرة؛ لأني واثق أن مجرد إعادة النظر من جانبه هو؛ نظرا لطبيعته الناقدة؛ ستصحح كثيرا من الأمور.
كما أنني رغم ما قلت لست ضد التجربة ولا أتخذ منها موقفا حياديا. بل أنني معها وبشدة. فهو عرض في المجمل يستحق المشاهدة؛ وحاول هلال أن يقدم الجديد طبقا لمعرفته؛ وللحق كان هناك البعض منه؛ وهو عرض من الممكن أن يكون بداية جيدة لطريق.  
ولكن حديثي للقائمين على المشروع. في المرات القادمة ما رأيكم لو أرسلنا من يتسمون بالخبرة والمعرفة؛ لمشاهدة ومناقشة العرض مع المؤدين والمخرج وعشرة من المتلقين المختارين المعروفين بالثقافة المسرحية على الأقل. ويكون هناك نقاشا بينهم وبين المؤدين وشريحة الجمهور. ثم يكون التقييم بعدها بأسبوع. لنعطي الفرصة للمخرج أن يرى ما رآه المتخصصون أصحاب الخبرة والمؤدين والجمهور. ثم يقرر أيسير معهم؟ أم لا. 
ولا يمكن أن أنهي حديثي دون الإشادة بفريق العمل خاصة من الممثلين. فلولاهم ومع طول العرض وتشعب دلالاته لكان الناتج أقل جودة. خاصة محمد علي وهو ممثل قدير وقد حاز على جائزة التمثيل في القومي من قبل. ونور مشعل/ الخادمة؛ فهي ممثلة تملك الحضور الطاغي والموهبة الفطرية القادرة على الإقناع والإمتاع بأدائها المتمكن والسهل في آن واحد


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏