محاضرة زكي طليمات في الجامعة الخلدونية بتونس

محاضرة زكي طليمات في الجامعة الخلدونية بتونس

العدد 751 صدر بتاريخ 17يناير2022

أشرنا من قبل إلى زيارة زكي طليمات إلى تونس – لأول مرة - ضمن أفراد الفرقة المصرية عام 1950، وأشرنا أيضاً إلى أن مهمته كانت ثقافية أكثر منها فنية! وأول نشاط ثقافي قام به، كانت محاضرته الأولى في «الجامعة الخلدونية»، وهي في الأصل جمعية ثقافية تعليمية تأسست في تونس عام 1896، وكانت معنيّة بترتيب الدروس والخطب والمحاضرات في علوم التاريخ والجغرافيا واللغة الفرنسية والطبيعة والكمياء .. إلخ! وانتقل مقرها إلى «المدرسة العصفورية» في عام 1900، وأصبح لها نشاط ثقافي وأدبي كبير، مثل عقد المؤتمرات والمواسم الثقافية لأعلام مصريين أمثال: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ومن أهم الأسماء التي حاضرت في الخلدونية، كان الشيخ «محمد عبده» عام 1903! هذه هي «الجامعة الخلدونية» التي ألقى فيها زكي طليمات محاضرته الأولى، في أول زيارة له إلى تونس، وقد ازدحم المستمعون والطلاب لسماع محاضرته، فضاق بهم بهو الجامعة، فاصطفوا في ممراتها!
ومن حسن الطالع أن المراسل التونسي لمجلة «الأستوديو»، أرسل وصفاً لهذه المحاضرة في أواخر يناير 1950، نشرته المجلة تحت عنوان «الأستاذ زكي طليمات يدعو للمسرح والأدب العربي»، وهذا نصه: «دعت الجامعة الخلدونية الأستاذ الكبير زكي طليمات ليحاضر أساتذة المعهد وطلبته في المسرح المصري والأدب العربي المعاصر، فاحتشد المدرج الكبير يتقدمهم فضيلة شيخ الإسلام وكبار رجال التعليم والصحافة، وانتشرت أبواق المذياع في فناء الجامعة. وقد تحدث الأستاذ طليمات عن نشأة المسرح العربي في مصر، والمراحل التي تقلب فيها حتى استقر في أوضاعه القائمة، وقد احتضنته وزارتا المعارف والشئون الاجتماعية، فكان المسرح المدرسي، ومعهد التمثيل، والمسرح الشعبي، والفرقة المصرية. وقدر أن ازدهار المسرح المصري في وقتنا الحاضر يرجع إلى رعاية جلالة الملك فاروق وإلى حدبه وبره بالقائمين بشئون هذا المسرح. ثم عالج الأدب العربي المعاصر فرسم التيارات الغربية المختلفة التي نسجت تأثيرها على هذا الأدب العربي المستحدث، وكيف امتدت أطرافه إلى معالجة القصة على نسق جديد، ثم المسرحية نظماً ونثراً. وعرج على النثر العربي فقرر أنه قد استقام له أسلوب جديد ذو طابع طريف ويتزعمه اليوم معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف، وقبله لطفي السيد باشا. وقال عن الشعر: أنه بعد وفاة خليل مطران وأحمد شوقي، وبعد عباس محمود العقاد لم يلح بعد في الأفق فجر جديد، وإن كانت هناك فئة من الشعراء تحاول أن تأتي بجديد. ثم فتح الأستاذ طليمات باب المناقشة في أمور المسرح وشئونه».

الانطباعات الأولى
ولأنها زيارة طليمات الأولى إلى تونس، فقد هرعت الصحف والمجلات لعقد لقاءات معه بعد عودته لمعرفة رأيه وانطباعاته عن هذه الزيارة! وأول جريدة فعلت ذلك كانت جريدة «البلاغ» في أواخر فبراير، عندما نشرت حواراً معه تحت عنوان «الأستاذ زكي طليمات يتحدث عن رحلة الفرقة المصرية إلى شمال أفريقيا»، ننقل منه هذه المقاطع: كيف نشأت فكرة رحلة الفرقة إلى شمال أفريقيا؟ ج: معلوم أن الفرقة المصرية ليست مقصورة على أن تقيم حفلات في القاهرة وفي سائر مدن القطر المصري، لأنها فرقة «قومية»! والقومية المصرية تسير حيث مراكز القومية «العربية»، لأن القومية المصرية عربية في أصولها وفي مراميها، فليس عجباً أن تشد الفرقة رحلتها إلى شعوب شمال أفريقيا وهم إخوان لنا في القومية والدين. كما سبق أن شدت رحالها إلى فلسطين ولبنان وسوريا. وقد نشأت هذه الفكرة منذ أربع سنوات وقبل أن يأتي يوسف بك وهبي مديراً لها. وقد قطعنا مرحلة حاسمة في اتخاذ الأهبة نحو السفر لشمال أفريقيا ولكن حال دون التنفيذ أن الفرقة كانت مشتغلة بمواسمها وبرواياتها الجديدة في القاهرة والإسكندرية. س: هل اختيرت الروايات التي قدمتموها بشمال أفريقيا طبقاً لرسالة فرقة مصرية ثقافية؟ ج: الواقع أقول «لا» ويا للأسف! وقد سبق أن رددت الصحف المصرية رأيي في هذا الموضوع إذ اختلفت مع المدير العام للفرقة في هذا الصدد. وكان موضع الاختلاف بيني وبينه أن هذه الرحلة يراد بها تعريف شعوب شمال أفريقيا ليس فقط بمهارة الممثل المصري والمخرج المصري بل تتجاوز هذا إلى الدعاية إلى الأقلام المصرية النابغة في تأليف المسرحية العربية. كنت أود أن تتعرف شعوب أفريقيا الشمالية إلى ما كتبه «عزيز أباظة باشا» وهو خليفة أمير الشعراء شوقي بك في كتابة المسرحية الشعرية، وله تحف فنية أخرجتها الفرقة المصرية بنجاح، وله مسرحيات ترجمت إلى اللغة الفرنسية، وأن يتعرفوا إلى «محمود تيمور» الذي شق بروايتيه «حواء الخالدة» و«اليوم خمر» أفقاً جديدة في المسرحية التاريخية العربية، ولكن شيئاً من هذا لم يتم واقتصرت رواياتنا التي قدمناها على تأليفات ومقتبسات من قلم يوسف بك وهبي! ولم تمثل رواية «الناصر» ورواية «سر الحاكم بأمر الله» الأولى لعزيز أباظة والثانية لعلي أحمد باكثير في مدينة تونس وفي ظروف غير مواتية. ولكن الروايات التي هي من قلم يوسف بك وهبي نالت - والحق يقال - نجاحاً من جانب الجمهور. س: إذن كيف تعلل نجاح هذه الروايات؟ ج: إن الجمهور التونسي والجزائري قد ملأ حفلاتنا لا ليطالع رواياتنا لأن أكثرها سبق أن مثلته الفرقة المصرية في تونس والجزائر! فليس لعامل الجدة دخل في الإقبال وإنما العامل الرئيسي لإقبال الجمهور علينا هو شغف تلك الجماهير العربية برؤية كل ما يرد من مصر أو يجئ محمولاً من مصر على أفواه الممثلين أو المطربين، لقد كان الجمهور هناك ينظر إلينا كما لو أننا هبطنا عليهم من القمر، وكثيراً ما كنت أتساءل والجماهير تسير خلفنا في شبه مظاهرة ما الذي فينا يشد هذه الجماهير إلينا! وهذه ظاهرة جديرة بالتأمل من جانب الحكومة المصرية، وأول واجب على الحكومة في هذا الصدد، أن تنظم العلاقات الثقافية والفنية بين مصر وهذه الشعوب وأن تعمل على توثيقها وأن تنظر إلى هذا الجانب العربي الواقع في غرب القطر كما سبق أن نظرت إلى الأقطار العربية التي تقع في شرقه. س: هل أعجبكم ما كتبه النقد في جرائد تلك البلاد؟ ج: في الحق أننا لاقينا لطفاً وتجاوزاً من جانب أكثر النقاد. ولكن هذا اللطف وذاك التجاوز لم يحجز أكثرهم من مصارحتنا بالشيء الكثير مما كنا نعتقد أنهم لم يفطنوا إليه وذلك من حيث بعض المسرحيات التي قدمناها ولا عجب في هذا فإن الأدباء والمتأدبين في تلك البلاد مشبعون بالثقافة الفرنسية الخالصة هذا فضلاً عن أن الفرق الفرنسية التمثيلية لا تنقطع عن إقامة حفلات في تونس والجزائر طوال العام فهم يعرفون حق المعرفة مصادر بعض الروايات التي قدمناها ولم يحجزوا تهامسهم عنها كتابة أو حديثاً ولا أزيد على هذا وإنما أقرر أنه على الرغم من هذا لاقت هذه الروايات النجاح المطلوب. س: هل قابلتم سمو باي تونس؟ ج: نعم تشرفنا بمقابلته في قصره الشتوي إذ تفضل بدعوة أكثر أفراد الفرقة وحيانا بعطفه كما تفضل فمنحني ويوسف بك وهبي وسام الافتخار المرصع من درجة كوماندور، وهي الدرجة العالية كما منح بعض الممثلين أوسمة دون هذه وقد شرف حفلة أقمناها لعظمته في مسرح البلدية قدمنا فيها رواية «أولاد الفقراء»، لأنه سبق أن شاهدها في السينما وكان عظمته يذكر أسماء الممثلين بأدوارهم في هذا الفيلم كما ذكر الغائبين منهم. س: هل تلقى الأفلام المصرية رواجاً في تلك البلاد؟ ج: نعم تلقى رواجاً كبيراً لا يقل عن رواجها في لبنان وسوريا والعراق ويوجد بتونس دار للسينما لا تقدم إلا أفلاماً مصرية وفي الجزائر دار أخرى لا تقدم إلا أفلاماً مصرية هذا عدا الدور الأخرى التي تقدم أفلاماً مصرية من آن لآخر. وقد اغتنم أصحاب دور السينما وجود الفرقة فقدموا أفلاماً ليوسف بك وهبي كما دعونا إلى حضور تلك الحفلات.

خطة النهوض بالمسرح
وفي منتصف مارس 1950 نشرت مجلة «الأستوديو» حواراً مع طليمات عنوانه «زكي طليمات يتحدث عن رحلة الفرقة المصرية إلى شمال أفريقيا». وهو حوار فيه تكرار لأمور تمّ نشرها في الحوار السابق، ولكن الجديد تمثل في سؤال مهم وجهته المجلة إلى طليمات، قالت فيه: ما مدى ما بذلته من مجهودات في سبيل إنهاض المسرح التونسي؟ فأجاب قائلاً: مجهوداتي التي بذلتها، هي مجهودات شكرتني عليها جميع الهيئات المعنية بالتمثيل في تونس، إذ اجتمعت بمدير عام التعليم هناك، وهو فرنسي من المستشرقين، وتحدثت معه في هذا فتفضل وعقد اجتماعاً خاصاً من رؤساء الفرق التمثيلية الأربع القائمة في تونس، ومن كبار رجال التعليم والصحافة، وتباحثنا على مدى ساعتين في الوسائل التي قد تكون أصولاً لمسرح تونسي قوي. وقد انتهى قرار هذه اللجنة على ما يأتي: أولاً، اختيار العناصر الصالحة في هذه الفرق الأربع وإنشاء فرقة قومية تونسية منهم على غرار الفرقة المصرية. ثانياً، إنشاء مسرح مدرسي في المدارس الثانوية وذلك للعمل في إيجاد جمهور يتذوق المسرح. ثالثاً، ترجمة بعض روائع الروايات المسرحية العالمية، ترجمة أنموذجية، وذلك لنشر ثقافة التأليف المسرحي بين مختلف الأدباء التونسيين. رابعاً، إرسال بعثات إلى معاهد باريس ولندن والقاهرة. ومن هذا يتضح أن ما قمت به في سبيل تدعيم المسرح التونسي هي نفس الوسائل التي سبق أن قمت بها في سبيل تدعيم المسرح المصري إذ لا سبيل غير هذه الخطة، وهي كما ترى ترمي إلى إعانة وتنشيط الممثلين القائمين، بأن تجري عليهم بلدية تونس إعانة مالية تحفظ عليهم كيانهم وتيسر لهم العمل، كما أن هذه الخطة ترسم سياسة إنشائية للمستقبل.
وطرحت المجلة سؤالاً جديداً، قالت فيه: ما هو أهم ما لفت نظرك في هذه الرحلة؟ فأجاب طليمات قائلاً: لفت نظري شيء كثير في تونس والجزائر من حيث المسرح! لفت نظري أولاً، كثرة عدد المسارح في جميع المدن بتونس والجزائر ويبدو أن الفرنسيين يعنون بإنشاء دور التمثيل كما يعنون بإنشاء الكنائس ودور الحكومة. ولفت نظري أن الجمهور في تلك البلاد على يقظة مثقفة ورفاهة في الذوق وحسن استماع وتقدير لما يلقيه الممثلون ولا عجب، فهو جمهور قد ثقفته الفرق الفرنسية التي لا ينقطع لها ورود بين تونس والجزائر، كما أن للثقافة الفرنسية أثراً كبيراً في هذا لأنها ثقافة يؤلف المسرح فيها ناحية هامة، ولفت نظري أيضاً النقد المسرحي. فقد قرأت ألواناً من النقد الجيد الدقيق، المنزه عن الأغراض، وعن المحاباة! قرأت نقداً يضع النقاط على الحروف من غير إسهاب ولا مبالغة، وقد أفادني هذا النقد أنا شخصياً، بحيث أنه إذا قدر لي أن أذهب إلى تلك البلاد على رأس فرقة تمثيلية فسيكون لي رأي جديد في اختيار الروايات التي سأقدمها.
وأشارت المجلة في عدد آخر إلى نقطة خاصة تتعلق بالمقارنة بين إعانة المسرح في تونس ومصر، قائلة: «من أحاديث الأستاذ زكي طليمات بعد عودته من شمال أفريقيا أنه لا يوجد هناك فرق من المحترفين، وإنما توجد فرق من الهواة والهاويات، ولا تعمل في الشهر الواحد أكثر من أسبوعين! ومع ذلك فإن مثل هذه الفرق تأخذ إعانة قدرها 6 مليون فرنك، وهي تعادل ستة آلاف جنيه مصري. ومعنى هذا إنها تأخذ 50% من الإعانة التي تقدمها حكومتنا للفرقة المصرية التي تبلغ نفقاتها في العام الواحد ما يعادل 36 ألفاً من الجنيهات. وإذا كنا نسجل هذه الحقائق فنحن لا نسجلها للترفيه، إنما نسجلها لكي يقف المسئولون في الحكومة على مبلغ تشجيع المسرح في مصر وتشجيعه في العالم!
زيارة مسئول
بدأت جهود طليمات في تونس تؤتي ثمارها سريعاً، ففي إبريل 1950 نشرت مجلة «الأستوديو» خبراً عنوانه «وكيل وزارة معارف تونس يزور معهد التمثيل»! قالت في تفاصيله: زار سعادة السيد «محمد عابد الميزالي» وكيل وزارة المعارف التونسية المعهد العالي لفن التمثيل العربي يوم الأربعاء الماضي، وذلك أثناء وجوده في مصر أخيراً لزيارة المعاهد العلمية والفنية. وقد استقبله الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد وشاهد بعض حصص التدريس النظرية في قسمي النقد والتمثيل. كما شاهد طلبة قسم التمثيل وهم يقومون بالتدريبات لمسرحية «المنقذة» التي سيقدمها الطلبة يوم 10 الجاري على مسرح دار الأوبرا الملكية. وقد أبدى سعادة وكيل وزارة المعارف التونسية إعجاباً بما شاهده في المعهد وقال: «لقد سمعت عن المعهد في الجرائد والمجلات. ولكن بزيارتي له زاد إعجابي به وإيماني بأنه يؤدي رسالة فنية عظيمة ليس لمصر فقط ولكن للأقطار الشقيقة كافة. ويسرني أن أرى بين طلاب المعهد المصريين طلاباً من فلسطين وسوريا ولبنان ومراكش الإسبانية والسودان والحجاز». هذا وقد أعجب بنشاط المرأة المصرية عامة حينما علم أن طالبات المعهد كلهن مصريات مسلمات وأن بعضهن يحملن شهادات تعليمية. وأبدى أسفه أن تونس ما زالت متأخرة في هذه الناحية لأن السفور لم يتغلل كما هو قائم في مصر. وقد ألقى خطبة بين الطلاب نوه فيها بمجهود المعهد وباغتباطه لهذه الشركة الفنية العلمية وقال: «سنستعير منكم الأستاذ زكي طليمات في الشتاء القادم لينشئ لنا نواة لمعهد تمثيلي تونسي، لأن زكي طليمات الرجل الفنان لا نعده ملكاً لمصر وإنما ملكاً للأقطار العربية».


سيد علي إسماعيل