مسرح «الكاف» التونسية يزهر في أرض الفلاحين وفوق الجبال

مسرح «الكاف» التونسية يزهر في أرض الفلاحين وفوق الجبال

العدد 746 صدر بتاريخ 13ديسمبر2021

 إذا ما تنقلت بين ليالي مسارح العاصمة تونس من “ المسرح البلدي” 1902 إلى القاعات الأحدث كـ  “ الحمراء” و”نجمة الشمال” و” الفن الرابع” و”التياترو” وغيرها و اطلعت على جوانب من هذه الحركة الدرامية وشاهدت عروضا متنوعة المدارس والاتجاهات لابد أن يدفعك الشغف إلى استكمال الرحلة والمعرفة بالتوجه إلى “الكاف”.
  إنها الكاف وإن طال السفر.  فهناك ما يطلق عليه التونسيون “مدينة المسرح”.وإلى هناك يقصد المسرحيون وعشاق الفن الرابع في ثلاث مناسبات على الأقل كل عام. هي مهرجانات “ 24 ساعة مسرح” و” المسرح والفرجة الشعبية” و”دروب ومسارات” المخصص للتجريب والتدريب. وقد اكتسبت هذه الأحداث الثقافية الفنية شهرة تخطت البلاد التونسية إلى الآفاق المغاربية والعربية،وأيضا العالمية. 
 وتقع مدينة “الكاف” على بعد نحو 170 كليو مترا من تونس العاصمة وفوق جبل يسمى “ الدير”. وهي بدورها مركز ولاية ( محافظة )  ـ تحمل الاسم ذاته ـ ريفية فلاحية في أقصى الشمال الغربي للجمهورية التونسية على الحدود مع الجزائر. الجغرافيا هنا جبلية، والتربة عفيه تنبت الأشجار والمحاصيل. و لا يتجاوز عدد سكان الولاية 247 ألف نسمة، من بينهم نحو 75 ألفا بعاصمتها. لكن مقاهي العاصمة تونس تذخر بالعديد من المبدعين والمثقفين الفاعلين في قطاعات الثقافة والفن الذين ينتسبون إلي الولاية. كما منحت “الكاف” تونس وتاريخها الفني الإبداعي نجوما لامعة كالمطربة” صليحة “ في الغناء (14 ـ 1958)، والممثل الكوميديان “الأمين النهدي” المولود بها عام 1950. وفوق كل هذا فقد ارتبط تطور الحركة المسرحية التونسية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات بحلول الفنان المخرج “ المنصف السويسي” ( 1944 ـ 2016) بالكاف، وتأسيسه وقيادته أهم فرقة محترفه بها بين عامي 67 و1975 تتبع وزارة الشئون الثقافية والدولة. و بشهادة العديد من مؤرخي ونقاد الفن الرابع التونسيين، فقد استطاع “السويسي” أن يشق للمسرح في بلاده طريقا مختلفا ومتميزا عن مدرسة الممثل والمخرج “على بن عياد” الأقرب للكلاسيكية، والتي برزت بدورها على خشبة مسرح بلدية تونس العاصمة “مسرح البلدية” بشارع الحبيب بورقيبة عندما تولى مسئوليه إدارته بين عامي 1963 و 1972. 

لماذا الكاف؟
  لا توجد في الكاف آثار لمسارح رومانية باقية بشهرة وضخامة وإبهار “قرطاج” و” الجم” و”دقة” و “بلاريجيا”،وهي بحق معالم على خريطة السياحة الثقافية والفنية بالبلاد التونسية. لكن الكاف لاتخلو من بقايا هذه المسارح في ربوع الولاية، وبخاصة في منطقة “ الدهماني”. ولا يعرف عجائز الكاف مبنا و احدا تخلف عن عهد الاستعمار الفرنسي (1881 ـ 1956) هنا كان مخصصا للعروض المسرحية. وفقط في عام الاستقلال 1956 اتخذت فرقة هواة تمثيل باسم “السنابل” من مقر “اتحاد الشغل” ركحا ( خشبة مسرح) وقاعة عرض لمسرحياتها. وهذا المبنى / المعلم كان يطلق عليه “الأوبرج”، ويقع في منطقة “رأس العين” بوسط الكاف المدينة، وقد تحول منذ سنوات إلى مقهى ومطعم يحملان لافته “فاميليا”. 
 لكن علاقة المكان والناس هنا بالفنون والفرجة والموسيقي والغناء تتنسمها مع الهواء الذي يعبر الجبال والمرتفعات إلى البيوت ومعالم العمارة. وأيضا مع الصمت الذي يلف طرقات الكاف المدينة وتعرجاتها المسكونه بأهل الريف، وفي الثقافة الشعبية”للكافيين”، ومع طقوس حياتهم اليومية ومناسباتهم الاحتفالية. وكأنه صمت مهيأ لاستقبال كل صوت يتحول إلى نغم، وكل حركة تحيل إلى طقس وتمثيل وفرجة.
   من المقاهي والمطاعم تنبعث ألوان من الموسيقات الصوفية و “المالوف” الأندلسي/ “ المتونس” والأهازيج الشعبية. وتغري طبيعة الحياة بين الجبال والغابات والمراعي والأمطار والثلوج والزراعات سكانها منذ القدم شغفا بالغناء والرقص ومختلف اشكال الأداء و التعبيرات الفرجوية. وثمة هنا تراث من الحكايات الشعبية، لعل أشهرها “ فرحات ولد الكاهية” عن تجبر الحاكم المتسلط .هي حكايات ترويها الجدات والعجائز للأطفال في البطاحي ( جمع بطحاء أي ساحة). ويستشهد الباحث في الفنون بالكاف “ محمد التليلي” بما خطه المؤرخ الروماني “فيترويف” في القرن الأول الميلادي “ لا يوجد كافي لا يغني”. ويقول لي أن انشطة الفلاحين وحركة الرعاة هنا تختلط بالغناء، وأنه حتى في رثاء الموتى تشتهر الكاف بأغاني يدعي “تمحزين”.ويشير إلى أن ثقافة ريفية فلاحية من نوع خاص تدفع الناس إلى أن “ يتمسرحوا” ويلعبوا أدوارا درامية في الفضاءات العامة. كما يتذكر وهو الرجل الستيني كيف عاصر في طفولته هنا مشهدا تمثيليا شعبيا تحت تسمية “بو غظوان”، يؤدى بدون موسيقي لمحاكاة هجوم الذئب على الغنم، وعلى نحو فكاهي.
   أبرز وجهات الكاف الدينية والسياحية مقام ومسجد سيدي “بومخلوف”.ويقع في قلب الحاضرة العربية العتيقة على مرتفع تصعد إليه من وسط المدينة الأوروبي الحديث عبر طبقات من المدارج المرهقة. وحول هذا المقام / المسجد تتحرك وتطوف في المواسم مواكب فرق الصوفية وأهمها “ العيساوية”. كما تتجلي المظاهر الفرجوية أيضا في رقصات صوفية تتضمن مشاهد درامية ظلت تحمل هنا تسميات “ النبته “ و” الزرده”. و لاتخلو هذه المشاهد من أكل العقارب و الهندي ( التين الشوكي بالتونسية) والنوم فوق المسامير. وتختلط في هذه المواكب، التي تصبح مركز إهتمام سكان الكاف وزائريها ـ موسيقات “المالوف” الأندلسي بتأثيرات سكان الجبال والصوفية و الأفريقية “للوصفان”  والزنوج و غناء الريف الأمازيغي . وقد منحت هذه المظاهر الفرجوية الموسيقية الغنائية الكاف المشهدية الغنائية”المنسيات”، وقد أصبحت واحدة من أشهر عروض الكاف المسرحية قبل سنوات. وإلي نحو سبعينيات القرن الماضي كان يطوف طرقات الكاف المدينة شخص يغني الأهازيج العربية بأداء تمثيلي درامي يدعى “ بو سعديه”،كما أخبرني العديد من سكانها الأكبر سنا. 
   في مقال نشرته مجلة “ الحياة الثقافية “ بتونس في عدد ماي( مايو) 2018 بتوقيع “جمعية صيانة وإنماء مدينة الكاف” جاءت هذه العبارة :”صلة هذا التجمع الحضاري بفن المسرح هي نتيجة للمفارقة الحاصلة بين طابع الدعابة والمرح لأبنائها وبين الصعوبات الطبيعية والجغرافية التي يعرفها العيش بالجهة”. وثمة كتابات ونقاشات شفوية عديدة حول الكاف تسعى لأن تجيب على السؤال: لماذا عثر أبو الفنون المسرح على تربة ملائمة هنا كي يتميز وتذيع شهرته بين التونسيين ؟ ..بل وإلى خارج تونس ؟. ولعل الإجابة تتلخص كذلك في أن المنطقة مركز حضاري قديم ظل محل “تثاقف” أي امتزاج وتلاقح ثقافات بين تجمعات بشرية متنوعه. وعندما التقيت “ عمار ثليجان” رئيس الجمعية أوضح مشيرا إلى حركة “الهطاية” المتنقلين من الجنوب إلى الشمال التونسي  لتوفير المراعي لأغنامها وماشيتها لنحو ثلاثة أشهر سنويا في أعقاب موسم الحصاد،وإلى هنا بالكاف. وفي أثناء هذا  يجرى التبادل التجاري بين التمور والكروم من الجنوب والقمح والشعير من الشمال. ويقول :” هذا الانتقال والامتزاج البشري والانتفاع والتبادل الاقتصادي التجاري يصحبه تفاعل ثقافي مستمرعلى مدى العصور. يأتي أهل الجنوب بأغانيهم ورقصاتهم وحكاياتهم لتمتزج مع التراث اللامادي لأهل الشمال”.ويضيف:”في الأعراس والأفراح تتنوع ألوان الشعر والغناء والأداء الدرامي والعديد من الألعاب التراثية”.
البدايات وفرق الهواة
  لتاريخ المسرح بمعناه الأوروبي الحديث حكاية مع الكاف. ولحسن الحظ،  فقد اخذت إحدي الباحثات الكافيات على عاتقها جمع وثائقها ورواياتها الشفهية وتمحيصها وكتابتها في دراسة ماجستير أجيزت من جامعة “منوبة” بتونس العاصمة فبراير 2019، و تحمل عنوان “النشاط المسرحي بالكاف ضمن سيرورة الحركة المسرحية بتونس بين 1909 و 1975”.وتؤرخ الباحثة “ ربح العرقوبي” للبدايات بفرقة هواة من أهل المنطقة تحمل تسمية “ النجم الفني للموسيقي والتمثيل” في عام 1918 .  لكنها واستنادا الى التاريخ الشفوي تخلص إلى أنها كانت فرقة للموسيقي التراثية الكافية بما في ذلك المالوف أكثر منها للتمثيل والدراما المسرحية. وتؤكد لي أن الكاف لم تشهد مسرحا للأجانب بها سواء أكانوا إيطاليين أو فرنسيين أوغيرهم ، وإن أشارت إلى أن “ الكشافة الفرنسية” أنشأت فرقة لهواة التمثيل أنجزت عروضا محدودة وعلى نطاق ضيق دون أن تقدمها على ركح ( خشبه مسرح) تجاري أو عام.
   أما الشباب التونسيون من أهل الكاف فقد تدرب على التمثيل أساسا و اعتبارا من عشرينيات القرن الماضي  ـ و أيضا في المدارس ـ على أيدي معلمين فرنسيين وأشهرهم “ المسيو لوزي”ن أو بفضل  اهتمامات محمد بورقيبة ( شقيق الزعيم والرئيس الحبيب) عندما نفاه الاستعمار الفرنسي من العاصمة،  وحيث كان من رواد حركتها المسرحية الناشئة بحضور لافت لفنانين مصريين اعتبارا من مطلع القرن العشرين.وهكذا جاء “محمد بورقيبة” إلى الكاف فعمل فنيا للتخدير بمستشفاها اعتبارا من عام 1921،وجمع في الآن نفسه عددا من شباب الجهة ليدربه على التمثيل. ومن تجارب هذين الرافدين خرج رواد المسرحيين الكافيين الهواة أمثال “محمد بن عثمان” و” عمار بو ثلجة”.وقد ظهر هؤلاء الرواد في إطلالتهم الأولى اعتبارا من عام 1932 مع فرقة “الوداد الكافي” التي قدمت “ محاسن الصدف”.وتعتبرها  الباحثة “ربح” بمثابة أول  مسرحية تقدم إلى جمهور عام بالكاف ، مع التشديد على طابع الهواية وليس الاحتراف. واللافت للنظر هذا الامتزاج بين ماهو موسيقي ودرامي وديني حين تخبرني بأن شيخ الطريقة الصوفية العيساوية حينها “ الشريف بالمشري” كان من بين ممثلي فرقة “الوداد الكافي”.
 وبعد توقف الأنشطة الفنية و المسرحية خلال الحرب العالمية الثانية ظهرت بالكاف أكثر من فرقة مسرحية للهواة. وكان من بينها عودة فرقة “النجم الفني للموسيقى والتمثيل”.وأنتجت هذه الفرقة التي أعيد احياؤها مسرحية “غلطة الآباء يتحملها الأبناء” في أوائل الخمسينيات على الأرجح. ووفق “ربح” فإن هذه “الغلطة” تعد أول نص مسرحي مكتوب من أبناء الكاف، وكان “للشاذلي زغره”. لكن “النجم” سرعان ما تحولت الى محض فرقة موسيقي نحاسية لإحياء الأعراس وما يشبهها من مناسبات اجتماعية بالكاف. وفي الطريق الى فرقة “السنابل” 1956  التي جمعت أبرز هواة الحركة المسرحية بالكاف ـ وقد أشرنا اليها سابقا بالارتباط مع قاعة و ركح “الأوبرج” ـ  صقلت تجارب “ النجم” و فرقة أخرى للهواة باسم “شعبة الصحة” مواهب المسرحيين الكافيين ليقدموا عروضا هنا على مدى عقد كامل. ومع استحداث وزارة الشئون الثقافية بين مكونات جهاز الدولة التونسية عام 1962 تلقت “ السنابل” دعم الوزارة، كما تستخلص الباحثة” ربح”.
المنصف السويسي 

 وفرقة “الكاف القارة”
   بعد خمس سنوات ومع إعلان الوزارة التوجه الى اللامركزية الثقافية ولدت “الفرقة القارة للمسرح بالكاف” ( القارة تعني المستقرة أو الدائمة) وتحديدا في 13 نوفمبر 1967 وبوصفها رابع فرقة محترفة تتبع الدولة بعد “ بلدية تونس” 1953 و بلديتي صفاقس وسوسة 1966، وإن سرعان ما أصبحت الفرقة التالية مباشرة في الأهمية بعد العاصمة. وتكاد تجمع الدراسات والمصادر على اعتبار بيان الإحدي عشر مسرحيا تونسيا الصادر في صحيفة “لابرس” باللغة الفرنسية في أغسطس 1966 مبشرا بحركة جديدة واتجاهات طليعية، وحيث كان هذا البيان من مقدمات نشأة فرقة الكاف هذه،وخصوصا أنه دعا الى إطلاق المبادرات اللامركزية  و لأن من بين  الموقعين عليه الفنان “ المنصف السويسي”  الذي كان قد عاد قبل قليل من دراسته للمسرح في باريس على أيدي أساتذه عالميين فطاحل كـ “ روجيه بلاشون” و”جاك فيلار” و” باترس شيرو”. ومعظمهم  كان متأثرا في الأصل بملحمية الألماني “برتولد بريشت”.
 وبحق كانت الكاف المختبر المسرحي الأول “للسويسي” في الممارسة،ومنها أخرج العديد من أعماله على الركح. ووفق ما رواه لي الفنان الممثل والمخرج الكافي “منجى الورفلي” ـ المولود بالولاية عام 1947  وهو من الرعيل المؤسس للفرقة وتولي إدراتها لنحو العامين ـ فإن ما بين مائة ومائة وخمسين من الكافيين تقدموا للانخراط  في الفرقة وللاختبار أمام “ المنصف السويسي”،ومن بينهم فتاتان فقط. ويضيف “ الورفلي” أن “ المنصف” اختار من بينهم عشرة فقط كان هو أحدهم ، فيما استجلب  معه من تونس العاصمة طاقما فنيا تقنيا والمزيد من الفنانات الممثلات.
  وواقع الحال، فإن محدثنا نفسه كان ممن استهواهم التمثيل المسرحي من خلال المدراس الابتدائية والثانوية والكشافة.  وقدر روى لي أيضا أن السنوات السابقة على إنطلاق فرقة “السويسي” عرفت خلالها الكاف تقديم نصوص مسرحية بالعامية التونسية ولمؤلفين من مواطنيه كحسن الزملي “ حادث مقهى” ومحمد عبد العزيز العقربي “ الخدار”. كما خص بالذكر محاميا بالكاف يدعى “ محمد الحبيب” قال بأنه كان يؤلف النصوص المسرحية ويخرجها، وقال أن الرجل باع داره لانتاج إحدي المسرحيات في عقد الخمسينيات.
 وعلى أي حال، فقد تلقت الفرقة الاحترافية الوليدة وغير المسبوقة بالكاف الدعم المالي من الولاية والبلدية علاوة على وزارة الثقافة. ووضعت الدولة  التونسية على ذمتها مقرا ليس بعيدا عن وسط المدينة الأوروبي والعربي. وهذا مع أنه يبدو في الآن نفسه وحتى اليوم على أطراف العمران. وهو ذاته المقر الذي يشغله حاليا “ مركز الفنون الركحيه والدرامية” وريث الفرقة وأفق تطورها اعتبارا من 1993 . وهذا المقر بالأصل كان معسكرا للإمدادات اللوجستيه الخلفية لجيش التحرير الجزائري وللاجئين جزائريين قبل الاستقلال عام 1962. وفي هذا مالا يدعو للغرابة، فالحدود بين البلدين على مقربة، حيث تفصل أربعين كيلو مترا  أو تزيد بقليل الكاف المدينة عن بلدة  “ساقية سيدي يوسف” التي شهدت امتزاج دماء الشهداء التونسيين والجزائريين عام 1958 في مجزرة حملت هذا الاسم جراء القصف الفرنسي.
   وفق قائمة نشرها مؤرخ المسرح البارز الدكتور “محمد عبازة” في دراسة بعنوان”تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية الى التجريب” وأخرى راجعتها في أرشيفات مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف تبلغ عدد المسرحيات التي انتجتها الفرقة الكافية في عهد “ المنصف السويسي” 24 مسرحية بين عامي 67 و1975 . ويتضح لنا من هذه القائمات أن نصفها بالتمام والكمال (12 عملا) قام الرجل بإخراجها بنفسه. كما كان من نصيب الفنان الأهم في الحركة المسرحية بتونس اليوم ومدير مسرحها الوطني لنحو سبع سنوات بين 14 و 2021 “الفاضل الجعايبي” مسرحيتين إثنتين. ويلفت النظر أيضا عند تحليل هذه القائمات أن 13 من النصوص ألفها بالأصل غير تونسيين. وثمة بينها معالجة نصين لشكسبير “هاملت” و”مكبث”، ناهيك عن اختيارات أخرى من تراث “موليار” و “جوجول”، وصولا إلى “بيتر فايس” وأعلام مسرح اللامعقول كـ”جان جينيه” و “جورج شحاده”. وأيضا من المسرح المصري هناك نصان لألفريد فرج “الزير سالم” الذي زار الفرقة لمشاهدة كيف عالجته ، وآخر مستلهم من كتابات يوسف السباعي جرى تمثيله على الركح تحت عنوان “نساء في خطر”. 
 كما قدمت فرقة الكاف خلال عشرية “ السويسي” مسرحة لنصوص نثرية بعنوان “تحت السور” للرائد الأبرز للقصة القصيرة التونسية خفيف الظل الصعلوك على الدوعاجي (1909 ـ 1904). وهذا النص بالمناسبة عنوان على جماعة  أسسها الدعاجي ورفاقه من الكتاب في العاصمة تونس خلال عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، وكان لها شأن وأي شأن في تاريخ الأدب التونسي. ومسرحية “تحت السور” هذه جاءت بين 10 نصوص لمؤلفين تونسيين محليين  مسرحتها فرقة الكاف. ويبرز من بينها “ ديوان الزنج” و “الحلاج” لعز الدين مدني، وقد أخرجهما “ السويسي” بنفسه، وجرى عرضهما خلال موسمي 71/1972 و 72/1973 على التوالي.
   و كان اختيار “ المنصف السويسي” لضربة البداية في تاريخ نشاط مسرح فرقة الكاف المحترفة على صلة وثيقة بطابع المنطقة وأهلها. وهذا على الرغم  من أنه لم يذهب وعلى الفور إلى استلهام تراثها الشعبي مباشرة. فقد اختار نصا أقل شهرة “لموليار” هو مسرحية “جورج داندان”، وعمل على تونسته تحت عنوان “الهاني بودربالة”. وهو يعالج شخصية فلاح غني ثري يتزوج من طبقة بورجوازية صاعدة في مجتمع ريفي محافظ. ومن يعود إلى الكتابات النقدية حين خروجت مسرحية “ الهاني بو درباله “ للجمهور سيلاحظ ـ كما يؤرخ الدكتور عبازة “ـ جدلا حول توظيف “ السويسي” لمنهجية “بريشت” في معالجة هكذا تراث مسرحي كلاسيكي . وهو لموليار ذاته الذي لم تكن مصادفة أن يخطو  المسرح العربي في المشرق  وبخاصة في بيروت والقاهرة والأسكندرية بنصوصه الأشهر أولى خطواته مع نهاية القرن التاسع عشر. ولكن على أي حال وياللمفارقة،  فإن “البرشتيه “ كانت تجتاح بدورها المسارح الطليعية في موجات عاتيه بمختلف أرجاء العالم العربي بأسره في الستينيات والسبعينيات أيضا، وليس كاف تونس وحدها.
  ومع هذا فالعرض التالي مباشرة لمسرح فرقة الكاف وبإخراج “ السويسي” أيضا كشف عن انفتاح الرجل المؤسس والتجربة على عوالم درامية بعيد. وهكذا جاءت مسرحية “راشمون” للياباني “أكورو أكوتاغاوا”،  وبترجمة المصري عبد الحميد البشلاوي. وهكذا جاءت هذه المسرحية من الشرق الأقصى بعيدا عن المركزية الأوروبية. وكما لفت أنظار النقاد حينها كيف وظف المخرج الأقنعة والإضاءة بإبداع واقتدار في اطار “بريشتي “ لم يتخل عنه.  ومع العرض الثالث للفرقة، التي اخذت ترسخ اقدامها في حركة مسرحية تونسية ناهضة تموج بالتيارات، استدعى “المنصف السويسي” عوالم الموروثات الشعبية للجهة ولبلاده. وفي هذه المسرحية التي اختار لها عنوانا تونسيا شعبيا صميما “حوكي وحرايري” ( على شاكلة سبع صنايع والبخت ضايع مصريا) استهلم نص وريث “الكوميديا دي لارتي” الإيطالية “كارلو غولدوني”،و المعنون بالأصل بـ”أرلكان خادم السيدين”. و صاغ “السويسي” نسيجا دراميا فرجويا فريدا من موسيقي الزنوج التوانسة ورقصاتهم في البيئة المحلية المعروفة بـ” الاصطنبولي”  ومن المأثور الشعبي والشخصية المحلية وأيضا الكوميديا القائمة على الارتجال التي تعود الى عصر النهضة الأوروبي والتيار الملحمي “البرشتي”.
   وتعكس الكتابات النقدية في الصحافة التونسية عند إطلاق هذا العرض خلال موسم 68/1969 الوعي بهذا المزيج الفريد. إلا أن لمؤسس الحركة المسرحية الحديثة في الكاف أثرا أبقى وإلى اليوم عصي على النسيان الذي قد يغيب عنوان مسرحية هنا أو أسماء أبطالها وطاقمها الفني هناك. فكلما التقيت بمن تبقى من جيل رواد “فرقة الكاف القارة” ومن تلاهم إلا واستحضروا أسلوب “ المنصف السويسي” في الاعداد للعمل المسرحي، وكيف تتحول البروفات والعروض المتالية أمام الجمهور إلى حوار مفتوح تفاعلي يطور الفكرة المسرحية ويزيدها تبلورا واكتمالا. وهو كما يقال لم يكن أبدا بـ”المخرج الديكتاتور”. ولعل في هذا تأثير للاتجاهات التي عاصرها دارسا للمسرح في أوروبا النصف الأول من الستينيات.

المركز والمعهد
 بعد “المنصف السويسي” توالى على إدارة فرقة الكاف وما أصبحت عليه اعتبارا من عام 1993  حين أصبحت “ مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف” مسرحيون تونسيون بلغ عددهم 13 مديرا إلى نهاية عام 2019 ( قبل جائحة كورونا حيث اجري هذا التحقيق من الكاف). تطورت جهود تدريب الممثل في المكان، وبلغ إجمالي عدد المسرحيات التي قدمتها الفرقة والمركز حتى 2017 مائة مسرحية. وهذا مع الأخذ في الاعتبار أن  الفنان المؤسس” المنصف السويسي” عاد إلى الكاف ليدير المركز بين عامي 1995 و2000 حيث قدم عشرة مسرحيات كان نصيبه منها إخراجا ثلاث هي : “ميت حي نقز” ( ونقز بالعامية  التونسية تعني اقفز) و”اللي يتقال” مع إعادة “راشمون”. ومن الواضح أن “ السويسي “ عاد إلى تونس والكاف بعد أن اسهم في اثراء  الحركة المسرحية بالكويت في عقد الثمانينيات من القرن العشرين كمدرس بمعهدها العالي ومساهما و فاعلا في الإبداع على خشبة المسرح.و لعل اشهر اسهاماته في الكويت كانت خلال تعاونه مع الفنان الراحل “ عبد الحسين عبد الرضا” في مسرحيتي “ باي باي لندن” و” باي باي عرب”.  
 وإلى عهد إدارة الفنان “ الأسعد بن عبد الله” بين 2000 و 2008 عرفت الكاف زخما في عدد المسرحيات التي قدمها المركز لتبلغ 18 عملا . كما اشتغل “مركز الفنون  الدرامية والركحية” بوضوح أكبر على منهج تكوين ( تدريب) الممثل للبولندي “جروتوفسكي” وتكريس النقاشات والتدريبات مع الممثلين وطاقم العمل بحثا عن لغة جديدة تتجاوز الكلمة والمنطوق ولإنهاء كون الممثل خادما للنص. 
  ولدينا هنا شهادة شفوية قدمها لي الممثل بفرقة الكاف “ عبد الرحمن الشيخاوي”(45 سنة)، وهو أيضا مدرس أكاديمي خريج المعهد العالي للفن المسرحي بتونس العاصمة. قال :”استعان الأسعد بمعلمة فرنسية من تلاميذ جروتوفسكي تدعى ( كريستين دو فيلبو) . استجلبها لتقيم بالكاف. وكنت من بين من كونتهم ودربتهم. وهي أدخلت في برنامجها الاشتغال على أغاني التراث بالجهة ، وبخاصة الأمازيغية التي تروى تفاصيل حوادث واقعية تجري هنا وبخاصة خلال مواسم الحصاد و التزاوج بين قبائل وعروش الشمال والجنوب مع حركة ( الهطايه) .وهذا مع لهجة أهل الشمال الغربي لتونس وخليط  من اللغة العربية “. و يضيف :” أثمر هذا التوجه عرضا فرجويا ضخما باسم ( المنسيات) أخرجه الأسعد بن عبد الله نفسه، وجرى تقديمه للمرة الأولى عام 2002. وحقق العرض نجاحا انتقل بنا من الكاف إلى عموم البلاد التونسية وخارجها”. 
 وإذا ما شاهدت تسجيلا بالفيديو “ للمنسيات” يلفت النظر هذا التوظيف للتقنيات الفرجوية و لحركة الممثلين وتعبيراتهم الثرية بالجسد والغناء وايقاعات الطبول وانسياب الناي. ويمكنني القول بأن “ المنسيات” في مجمله أقرب إلى سلسلة أغاني تراثيه مفعمة بالتعبيرات الفرجوية المسرحية. و في هذا العرض يمثل ويغني “الشيخاوي” موظفا طبقات صوتيه عالية وفسيحه،وإن كان هو يعتبر أن ضربة حظه الأبكر جاءت مع أدائه التمثيلي الأول مع المركز في مسرحية (كاف الهوى) عام 2001 نص و إخراج “الأسعد بن عبد الله” أيضا. ويقول لي :” مع كاف الهوى استعدنا جمهور المسرح هنا بعدما اخذ ينصرف اعتبارا من أوائل التسعينيات مع تضييق الرقابة واختناق المناخ السياسي والعام. بل نافس حضورهذا العرض جمهور أيام قرطاج المسرحية بالعاصمة، وتجاوزه أحيانا. ومن حسن الحظ أن مهرجان (24 ساعة مسرح) انطلق في دورته الأولى من مركز الكاف في العام نفسه “.
   ومن  الواضح لمن يتتبع العروض المسرحية المتوالية التي أنتجها مركز الكاف تنامى وزن موروث الجهة. وعلى سبيل المثال فإن مونودراما تحمل عنوان “الحكواتي” من إخراج الفنان “ عبد الرازق المساهلي” عام 2003 تقوم على أداء متميز للممثل / المغني / العازف/ الحكواتي “ منذر الجبابلي” لخليط من ارتجال وحكاوي و أغنيات الجهة. و” الجبابلي “ بالأصل  من أهالى بلدة “تاجورين” بولاية الكاف،وهو أيضا حكواتي خارج المسرح،كما علمت من رفاقه الفنانين. 

يستقبلك بلوحة شرف
“مروا من هنا”
   أول معلم لافت يستقبل الزائر لمركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف هو لوحة بعنوان “ مروا من هنا “، تجمع صورا فوتوغرافية بالأبيض والأسود لفناني الفرقة يتوسطها بحجم أكبر صورة المنصف السويسي . أما قاعة العرض الرئيسية فهي على طراز ( العلبة الإيطالية)، ومعلق خارجها لافتة نحاسية تحمل أيضا اسمه. وتسع هذه القاعة خمسمائة مقعد باللون الأزرق، وتتوفر على ركح متسع بعمق كبير، فضلا عن تجهيزات الإضاءة وإمكانات حركة المناظر. ويخبرني مدير المركز “ عماد المديوني” أن هذه القاعة هي الأكبر بالمدينة، كما تعد من أفضل القاعات المسرحية بعموم البلاد التونسية من حيث التجهيز التقني. ويشير إلى قاعتين إثنتين أخرتين تسع كل منهما 100 مقعد يجرى إعادة صيانتهما، واحدة تعمل كمسرح جيب والثانية للتدريبات و للرقص. وأسأله عن عدد الممثلين المعينين بالمركز ( أي القارين المرسمين بالتونسية) فيجيب بأنهم فقط أربعة. فأتذكر التقدير الذي اخبرني به “ الورفلي “ بأن عدد من شاركوا في أعمال فرقة الكاف بين 67 و 1993 نحو 156 ممثلا وممثلة.  كما يجول بذهني ملامح المرحوم “ الهادي الزغلامي” أحد رواد الفرقة والفن المسرحي بالكاف في فيديو تكريمي أنتجه المركز ذاته وهو يشكو شظف العيش وقد قارب الثمانين سنة بلا معاش تقاعد (جراية بالتونسية ) يستر من قسوة الأيام.
   استوضح المدير “ المديوني “ أكثر بمزيد من الاسئلة عن حال الطاقة البشرية المبدعة هنا، فيقول :” نستعين بممثلين من خريجي المعهد العالي للمسرح والموسيقي بالكاف وبأساتذة حتى من ولايات أخرى .. والفرقة الآن نصفها من المحترفين والنصف الآخر هواه. وينتج المركز بعد ثورة 2011 حيث توليت إدارته ثلاثة أعمال سنويا بعدما انخفض النشاط إلى متوسط عمل واحد اعتبارا من 2005 جراء تراكم الديون والمشكلات الإدارية”.ويضيف:”متوسط ترويج العمل من 60 إلى 75 عرضا في العام بأنحاء الجمهورية التونسية، وفي الخارج نشارك بمتوسط مشاركتين سنويا. وحصلنا على خمسة جوائز في عامي 18 /2019 آخرها ( قبل جائحة كورونا) عن مونودراما ( تجرأ) للممثل ريان القيرواني و المخرج الأزهرالفرحاني . والمسرحية ذاتها حصدت جائزة في مهرجان (الأغواط) بالجزائر 2018. كما أننا نستقبل على ركح المركزهنا العديد من العروض من مختلف أنحاء العالم. ونقوم بتدريب وتكوين هواة في مدرستنا بمتوسط 20 ممثلا سنويا . ولدينا مشروع لانشاءات أخرى في حيز المركز تتضمن مبيتا صغيرا للممثلين ونواة مكتبه مسرحية متطورة، علاوة على استكمال تهيئة القاعتين”. 
  ويلفت “المديوني” النظر إلى أنه إلى جانب المهرجانات السنوية الثلاثة التي ينظمها المركز وتجتذب عروضا و جمهورا من خارج الكاف فإن مهرجانا رابعا للهواة بعنوان “مهرجان محمد بن عثمان”أحد رواد المسرح بالجهة تعثر وتوقف بعد دورته الأولى عام 2017. واستكمالا لفهم البنية التحتية للحركة المسرحية بالكاف زرت مقر معهدها العالي للموسيقي والمسرح الذي تأسس عام 2005. واتصلت بعميده الدكتور “ أنيس حمدي”، فأبلغني بأن هناك أربعة أقسام لمسرح الطفل ..و لفنون الممثل ..و للعلوم الموسيقية ..و للتنشيط السياحي الثقافي. وقال أن خريجي قسمي مسرح الطفل وفنون الممثل نحو 25 في المتوسط سنويا. وأضاف بأن طلاب هذين القسمين يبدعون مسرحيات كمشروعات تخرج ويشارك بعضهم في مهرجانات الكاف المسرحية. لكن وبعدما غادرت المدينة بأسابيع علمت باحتجاجات من الطلاب و الكافيين عموما خشية اغلاق المعهد بحجة عدم صلاحية  مبانيه. 

البحث عن مسرح
 خارج المركز 
 و اذهب الى “المندوبية الجهوية لوزارة الشئون الثقافية بالكاف”، فتمدني بمطبوعات عن عام 2018. و اتنبه منها إلى أن الأربعة فنانين المعينين ( المرسمين القارين) والمصنفين هنا تحت قائمة “ إطارات” هم بالأصل من بين 17 معينين بالمندوبية. وهكذا فإن هؤلاء الفنانين يشكلون نسبة 7 في المائة من اجمالي العاملين المعينين هناك لاغير. واللافت أيضا وفق المعطيات ذاتها بشأن العاملين بالثقافة لدي الدولة في ولاية الكاف أنهم يتوزعون بالأساس على موظفي المندوبية (عددهم37) و دور الثقافة في عاصمة الولاية ومدنها المراكز و المكتبات. واحصل على قائمة بالجمعيات الثقافية النشيطة بالولاية خلال عام 2019 وعددها 31 جمعية، واتنبه الى تواضع الأموال المرصوده من الوزارة لدعمها ، وبعضها  لا يتجاوز ما قيمته العشرة دولارات في العام. وألمح بين عناوين هذه الجمعيات أسماء أربع فقط تشير إلى المسرح. و أسأل في انحاء مدينة الكاف فلا أجد أثرا لافتا لها.
   وبعدها أتجه للقاء الفنان المسرحي الكافي “رضوان الهنودي” مدير فرقة “ سيرتا نوفا( شركة خاصة تأسست 2016)، وهي تعني “ المدينة الجديدة” بالأمازيغية وبالأصل فإن الاسم تسميه قديمة للكاف. نجلس معا على مقهى المثقفين والفنانين الأشهر في وسط المدينة . ويبلغني بأسف ـ وهو بالأصل من بين آخر تلامذة المنصف السويسي الباقين هنا ـ أن فرقته الخاصة لم تنتج إلى قرب نهاية عام 2019 عملا واحدا بسبب غياب التمويل. قال :” تقدمت إلى وزارة الثقافة بالعاصمة ثلاث مرات لتمويل مشروعات مسرحية، ولم يكلفوا أنفسهم عناء الرد،وحتى بما يعني الرفض”. في رصيد هذا الفنان كممثل عشرة مسرحيات تحت مظلة مركز الفنون الدرامية والركحية، وهو بالأصل دارس بالمعهد العالي للفن المسرحي بالعاصمة. ويقول  :” ثلاث شركات خاصة للمسرح هنا بالكاف، أقدمها نشأ مع الثمانينيات ( سيرتا )،  وتلتها ( يوغرته ) في عقد التسعينيات، ثم شركتي”.ويلخص الحال على النحو التالي :” يوغرته متخصصة في مسرح الأطفال، والأخرى توقف نشاطها تماما لتعثرها ماليا بعدما انتجت مسرحيات نخبوية غير تجاريه وأشهرها ( عين الكلام ) نص واخراج الفنان البحري الرحالي .وهو أهم عمل أنتجه القطاع الخاص هنا بالكاف ويعود إلى أوائل التسعينيات”. كما يشير الى ارتحال فرقة مسرحية أهلية جادة حملت تسمية “الأرض” إلى العاصمة ، بعدما أسسها الفنانان الكافيان  الأخوان”ناجي ونور الدين الورغي”. ويضيف :” هنا بالكاف وكما هو السائد في عموم تونس لا يوجد ولم يوجد مسرح تجاري، كما هو الحال في مصر والمشرق العربي.. فقط الجمعيات الأربع المعنية بالنشاط المسرحي بالكاف يغلب عليها طابع الهواه، ولا تظهر عروضها إلا مع مناسبة المهرجانات التي ينظمها مركز الفنون الدرامية والركحية ليس إلا “.
  وهنا اتذكر ما أبلغني به مدير المركز “المديوني” عن أن تذاكر دخول الجمهور العروض لايمكن الاعتماد عليها، وأن معظم العروض بما فيها تلك التي تقام في الصيف والمهرجانات وعلى مسرح الهواء الطلق بقصبة مدينة الكاف حيث قلعتها الأثرية يجرى الدخول إليها مجانا أو شبه مجاني،وأن تمويل أنشطة المركز تعتمد على دعم وزارة الشئون الثقافية بالأساس،وبأن معظم جمهور المسرح هنا من الموظفين البسطاء والطلبة. كما أتأمل في الأحوال المتواضعة لأهل الكاف حيث تبلغ نسبة البطالة بالولاية 19,1 في المائة بارتفاع نحو خمس نقاط عن المتوسط الوطني،وذلك وفق معطيات التعداد العام للمعهد التونسي للاحصاء لعام 2014. 

قبل وبعد الثورة
 ولأن ثورة 14 يناير جانفي ( يناير ) 2011 حدث كبير متعدد المعاني والأبعاد،  فقد طرحت على المسرحيين الذين التقيتهم بالكاف مدينة المسرح السؤال : ما الذي تغير بالنسبة للعروض وما يحيط بها من سياقات تتصل بالإبداع والتلقي؟. وبخبرته كممثل في مركز الفنون الدرامية والركحية يقول “ الشيخاوي” :” في عهد الدكتاتورية كنا نحاول إيجاد شكل مسرحي بتقنيات غارقة في الترميز. وحقا كانت هذه لعبة جيدة وممتازة على المستوى الجمالي. وبعد الثورة اختفت هذه اللعبة، واصبح الفنان حرا بلا رقابه. لكن السؤال بعد الثورة هو: أي مسرح نريد؟. وثمة فنانون سقطوا في الخطاب المباشر. لكننا  في الأغلب هنا مازالنا نبحث عن إجابه.وهذا البحث مقلق وممتع معا”.ويضيف :” شخصيا أشعر كممثل بحرية أكبر فوق الركح عما كان علية الحال قبل 2011 .ومع هذا أشعر أيضا بمسئولية أضخم. ففي ظل الحريات عليك أن تجد شكلا جديدا لا يفقد المسرح قيمه الجماليه”.
  أما مدير المركز “ المديوني” فأشار الى تعدد الاتجاهات المسرحية بالمركز في السنوات اللاحقة للثورة، وكما انعكست في تنوع العروض. قال :” قدمنا المسرح التاريخي بإهتمام لافت، وكما  في سلسلة أعمال المخرج سامي الناصري على غرار ( هلال ونجمة) 2011 و( النسور) 2013 و( القادمون) 2018 ، وتفتحت أمام المخرجين الشباب فرص أوفر مثل محمد الطاهر خيرات ( قم ) و وليد الداغستي ( ذئاب منفردة) 2019 “. وأضاف: “ بالفعل سقطت الرقابة ما أدى الى انتاجات بهامش أوسع من الحرية، وفي انتظار أن يأتي هذا السقوط بتطور كبير على مسرح الكاف بخاصة، وتونس بصفة عامة”. 
  العلاقة بين ماهو سياسي وبين المسرح في الكاف تبدو مشدودة بخيوط قوية إلى التاريخ والماضي. و الباحثة “ ربح العرقوبي” تؤكد في دراستها أن انشاء فرقة الكاف المسرحية المحترفة ( القارة) بقيادة المنصف السويسي جاء بقرار شفوي غير مكتوب من الرئيس المؤسس للدولة الوطنية التونسية “الحبيب بورقيبة” نفسه. وتستشهد بمذكرات الوالي ( المحافظ ) حينها هنا “عبد السلام القلال” الصادرة بعد الثورة بعنوان “ الحلم والمنعرج الخطأ “،و حيث كتب أن بورقيبة انتحى به جانبا في مأدبة عشاء بالولاية بحضور الفنان منصف السويسي، واسر له بقوله:” هذا الشاب عنده شئ ببطنه ( بداخله) .. هو يذهب بعيدا .. اعتن به “. 
  ولأنه بمثابة ذاكرة حية لفرقة الكاف ومركزها للفنون الدرامية والركيحة فقد جلست بصبر إلى الفنان “ المنجي الورفلي “ كي احثه على أن يفتح جرح الرقابة هنا.وهكذا استطاع أن يحصي  10 مسرحيات تعرضت للمنع والحظر بين عامي 67 و 1993 . وتذكر منها : “ الاستعراض” تأليف نور الدين القصباوي و”كل نور لاهي ( مشغول) في نواره” نص أحمد القشباطي وكلاهما إخراج عبد الله رواشد،  و” سي ميم” من إخراج الفاضل الجعايبي ، و”ديوان الحلاج”إخراج منصف السويسي 1975 ، و”يوميات مجنون”  المقتبسة من “جوجول” إخراج عبد الرؤوف بن يغلان، و”عشتاروت” تأليف عمر بن سالم وإخراج المنصف السويسي، و “ قراقوش” و” مالا ( ياله ) نهار”إخراج الصادق الماجري،  و”الزنج” إخراج المنصف السويسي . وعزا منع كل هذه المسرحيات إلى تدخلات سياية عليا وعبر وبواسطة إدارة الرقابة في “ لجنة  التوجيه المسرحي” التابعة لوزارتي الداخلية والثقافة حينها.
   ويكاد يتفق مسرحيو الكاف الذين التقيتهم على أنه بعد منتصف التسعينيات وإلى 2011  أصحبت الرقابة الأشد والأنجع هي تلك الذاتيه التي تسكن داخل الفنان. أما “الهنودي” الممثل المسرحي المخضرم مدير شركة “سيرتا نوفا “ ـ والتي لم كانت لم تتمكن بعد مضي أكثر من أربع سنوات على التأسيس من إنتاج عرض واحد  ـ فقد قال: “الاختلاف الأهم عما كان قبل الثورة التونسية هو بالقطع اختفاء الرقابة”. وأضاف وهو ينظر شاردا إلى حركة الكافيين خارج المقهى ذات ظهيرة :” لكن هذا أدى الى تحول بأن خرج خطاب الشارع ليظهر فوق الركح .. وكأننا فقدنا خصوصية الخطاب الفني الرمزي للمسرح “.    
وهكذا هي الكاف الريفية الفلاحية ـ الغائبة بعد عن المشروعات الصناعية الحديثة أو جهود التنمية  الناجزة ـ تبدع وتزرع المسرح في فضاءاتها على الرغم من المصاعب وأسئلة اليوم والغد الحائرة. تبدع مسرحية تلو أخرى وخلفها ماضي مسرحي يليق بمكانة حفرتها بأظافرها وبخيالها وموروثها التراثي .تبدع وتزرع المسرح عملا تلو آخر وعاما بعد آخر، فتحصد سمعة تترسخ ومتعة الفنون . 


تحقيق من الكاف / تونس : كارم يحيى