الفلسفة والدراما الأداء والتفسير والقصدية(1-2)

الفلسفة والدراما الأداء والتفسير والقصدية(1-2)

العدد 572 صدر بتاريخ 13أغسطس2018

 فلسفة المسرح:
هدف هذه المقالة هو اختيار أحد الأسئلة المركزية في فلسفة المسرح، وهو تحديدا “ما هي الدراما؟”. ورغم ذلك، قبل أن نتطرق إلى مسألة طبيعة الدراما، هناك سؤال أكثر أساسية: كيف نفهم المفهوم الحقيقي لفلسفة المسرح؟. وبالتأكيد سوف يتأثر مفهومنا لفلسفة المسرح بتناولنا لإجابة سؤال «ما هي الدراما؟». لذلك دعونا نبدأ بالقول اختصارا من أين نبدأ فلسفيا قبل أن ننغمس في أكثر الموضوعات جوهرية في طبيعة الدراما.
يشار إلى نوع الفلسفة التي تتحرك في هذه الدراسة بأنها فلسفة تحليلية. ولذلك، فإن الخطوة الأولى في توضيح ما يتعلق بهذا النوع من الفلسفة هو القول إنها تلك التي يحلل بها الفلاسفة. ولو كنت فيلسوفا للمسرح، فعلى أي صور للمسرح يجب أن أركز؟
لاحظ أن التسمية – فلسفة المسرح - تذكرنا بنيويا بفلسفات أخرى لأشياء كثيرة. فهي فلسفة شيء ما. ولكن ما الذي يملأ المساحة الخالية في عبارة «فلسفة...»، إنه عادة يكون اسما لممارسة ما – مثل فلسفة القانون. وهذه الممارسات غالبا هي موضوع للاستفسار – مثل فلسفة العلم، أو فلسفة الرياضيات، أو فلسفة التاريخ. ولكن، ربما كانت هناك فلسفة لفعالية عملية أو مجموعة من الفعاليات – مثل فلسفة الرياضة. ولا شك أن فلسفة المسرح هي هذا النوع من الفعالية أو الممارسة – هي مبدئيا مسألة صنع أو فعل، فضلا عن مسألة استفسار محض.
علاوة على ذلك، فإن للممارسات بعدا مفاهيميا، بمعنى أنها تٌنظم بواسطة مفاهيم بعينها تعمقها الممارسة المتاحة، أو بمعنى آخر، ما يؤسس الممارسة باعتبارها كذلك. فمثلا، القانون ممارسة. ومن أجل توصيل الفعاليات القانونية لا بد من افتراض مجموعة من المفاهيم المترابطة. من بينها الجريمة وعالم الفرد والقصدية، وبالطبع فكرة القانون نفسها. وتتناول الفلسفة التحليلية تحليل المفاهيم التي تجعل من ممارسة مثل ممارسة القانون ممكنة باعتبارها مهمتها الأساسية. وقد يسأل فيلسوف القانون ما الذي يؤسس نزعات الفرد السلوكية القانونية، والجريمة، والبراءة، والأهم من ذلك كله، ما الذي يجعل شيئا قانونا. هل هي الأفعال التي تعتبر الشيء قانونا بفضل علاقته ببعض المبادئ الأخلاقية السامية، التي تسمى أحيانا القانون الطبيعي، أم أنها تلك الأفعال التي تعلن بواسطة مجموعة محددة من رجال القانون الذين يطبقون إجراءات معلومة بطريقة صحيحة؟
مثلما تحول فلسفة القانون توضيح طبيعة المفاهيم التي تجعل ممارسة القانون ممكنة، تستفسر فلسفة المسرح أو تحلل المفاهيم الأساسية لفن المسرح. وهذا المفهوم هو مفهوم الدراما. ولعل أحد اكتشافات مفهوم الدراما أنني سوف أحاول أن أوضح مفهوم الدراما. وأحاول في هذه الدراسة أن أدافع عنها لأنها لا تتعلق بمفهوم واحد، بل على الأقل مفهومين. بمعنى أنه يمكن تطبيق مفهوم الدراما على كل من نص المسرحية Play text أو خطة المسرحية play plan من ناحية، أو على أداء المسرحية play performance من الناحية الأخرى. وسوف أمضي في محاولة توضيح الفرق بين هذين التطبيقين في الدراما. والخلاصة التي أستنتجها هي أن الدراما كأداء تختلف لاعتبارات أنطولوجية عميقة عن الأداءات الوسائطية الجماهيرية. ويختلف هذا الاستنتاج عن الوضع الذي دافع عنه فيليب أوسلاندر Philip Auslander، ولذلك سوف يدرس الجزء الأخير من الدراسة الاعتراضات التي أثارها أوسلاندر على نوع التحليل الذي نقدمه للدراما باعتبارها أداء.
 ما هي الدراما:
لعل أحد المفاهيم الأساسية التي تنظم ممارسة المسرح هي الدراما، وطبقا لأرسطو يستمد مفهوم الدراما من الكلمة اليونانية “فعل أو عمل doing or acting”، وقد استخدم أرسطو هذه الكلمة لكي يشير إلى تمثيل الحدث representation of action. ولكن الحدث الذي يعنيه أرسطو، بالطبع، يمكن تمثيله بطريقتين، بواسطة نص المسرحية كما يكتبه المؤلف المسرحي، مثل سوفوكليس، أو عن طريق أداء نص المسرحية بواسطة فرقة مسرحية في اليونان القديمة أو فرقة مسرحية معاصرة. وتنعكس ثنائية مفهوم الدراما هذه في استخدامنا إذا أردنا مثلا أن نجد النصوص في المكتبة، فسوف نذهب إلى قسم الدراما. ومن الناحية الأخرى، إذا أردنا أن نأخذ دروسا في التمثيل أو الإخراج أو الديكور أو الإضاءة في المسرح، فسوف نلتحق بقسم الدراما أو قسم الفنون الدرامية. علاوة على ذلك، قد تقدم هذه الأقسام دروسا في الكتابة للمسرح، رغم أنها عندما تقدم دروسا في فن التمثيل فإنها تعكس حقيقة أن تركيزها هو أداء المسرحيات، فضلا عن تأليفها.
وعلى الرغم من أن الدراما كلمة واحدة، فإن هذه الكلمة الواحدة لأغراض فلسفة فن المسرح تطبق على شكلين قابلين للتمييز: فن كتابة النصوص المسرحية (أو بشكل أكثر توسعا خطط الأداء) وفن أداء هذه النصوص. والدراما في هذا السياق، هي شكل فني ذو مسار مزدوج، أو مزدوج الطبقة. وهذه الثنائية معترف بها بالطبع في عالم المسرح الأكاديمي، وأنها تصنف نفسها تحت عنوان “النص وخشبة المسرح page and stage”. فالدراما كما تمارس في المسرح الغربي المعاصر هي النص الأدبي من ناحية، وهو بناء لفظي يمكن تذوقه وتقييمه من خلال قراءته، مثلما نقرأ الرواية. ومن الناحية الأخرى، هي أيضا فن أدائي؛ إذ تنتمي إلى عائلة الموسيقى والرقص نفسيهما بوصفهما فنَّي أداء، ويمكن تذوقهما وتقييمهما من خلال التجسيد فقط.
يحتاج التمييز السابق إلى التعديل والتأهيل نوعا ما. والطريقة التي يُقدم بها محدودة جدا وضيقة بالنسبة إلى الممارسة الغربية المعاصرة؛ إذ ليس كل ما نميل إلى تسميته «دراما» في المقام الأول يحتاج أن يرتبط بالنص الأدبي أو النص المكتوب، حتى لو أصبح ذلك حالة معيارية اليوم. فنص الأداء، إن جاز لنا التعبير، قد يعيش في ذاكرة المؤدين – الذين ربما هم فرقة ممثلين أو أعضاء في جماعة ثقافية يجسدون طقسا تنتقل تعاليمه شفهيا عبر العصور. وعلى الرغم من أننا لا نفكر أولا في النص المكتوب في هذا السياق، فربما من المفيد أن نفكر في هذا البعد من الدراما باعتباره خطة مسرحية أو خطة أداء. ويمكن مناقشة خطة المسرحية أو خطة الأداء وتقييمهما كل على حدة، أعني بعيدا عن الأداء. وقد يكون هذا أكثر وضوحا في حالة نص المسرحية جيدة الصنع the well made play. ولكن احتفاليات الحصاد غير المدونة لها أيضا خطة أداء، حتى لو كانت غير مكتوبة، فيمكن تحليلها وتذوقها بشكل مستقل عن أدائها، وبالمثل يكون للرقص الفولكلوري تصميم يمكن إتقانه بمعزل عن أي أداء محدد له. وللمسرح المرتجل أيضا خطة أداء يمكن اتباعها بشكل عام – مجموعة من السيناريوهات والاستراتيجيات والمراهنات التي يدعي إليها المؤدون ثم يبذلون غاية جهدهم في المكان.
والخطوة الأولى في تطوير تحليل فلسفي لمفهوم “فن الدراما” عندئذ، هي ملاحظة أننا أمام مصطلحين هنا. ويمكن أن نسميهما “الدراما كتكوين Drama as composition” و”الدراما كأداء Drama as performance”. ولكي نوضح مفهوم الدراما كتكوين، دعونا نستخدم مثال «المسرحية جيدة الصنع» ثم نمضي إلى إضافة الخصائص الضرورية للمسرحيات التي ليس لها نصوص مكتوبة.
المسرحية كعمل أدبي – ومثالنا الدال هنا هو الدراما كتكوين – يخلقها الكاتب المسرحي الذي هو مؤلفها. وهذا الفنان هو المبدع الذي يأتي بنص المسرحية أو خطة الأداء إلى الوجود، رغم أننا في بعض الحالات ربما لا نعرف اسم المؤلف. وبالمقارنة هناك مجموعة أخرى من الوظائف الفنية المتعلقة بتحقيق خطة الأداء. وفي المسرح المعاصر، تتضمن هذه الأدوار الممثلين والمخرجين ومصممي الديكور والموسيقيين... إلخ، وهم الذين يجسدون حرفيا خطة الأداء. وفي حين أن الفنان في ما يتعلق بالدراما كتكوين هو المؤلف، فإن الفنانين في الدراما كأداء هم المنفذون. ولتبسيط الأمور إلى أقصى درجة: لقد ألف إدوارد أولبي Edward Albee مسرحية “من يخاف فرجينيا وولف Who is afraid of Virginia Wolf”، ونفذتها أوتا هاجين Uta Hagen مع آخرين. يشير اختلاف الفنانين هنا إلى اختلاف فنون الدراما: فن التكوين أو الإبداع, وفن الأداء أو التنفيذ.
ولا حاجة بنا إلى أن نقول إن الشخص نفسه يمكن أن يكون مبدع المسرحية ومنفذها – ممثلها أو مخرجها مثلا. فقد كان شكسبير مثلا مؤلفا مبدعا وممثلا منفذا لأعماله الفنية. ورغم ذلك فإن دور كل من المؤلف والمنفذ قابلين للتمييز على نحو الأوركسترا، وكذلك مؤلف المسرحية بالنسبة للمخرج والممثلين ومصممي الديكور.. إلخ. وفي مثل هذه الحالات هناك نوعان من الفن قابلان للتمييز: فن التأليف، وفن الأداء. فإبداع المؤلف – وهو نص المسرحية – معانيه ثابتة، فن الأداء متغير. فمثلما نتوقع من عازف الكمان أن يقدم خصائص مختلفة للنوتة الموسيقية، نتوقع كذلك من الممثلين والمخرجين أن يوضحوا مختلف صور التأليف الضرورية، في المسرح الغربي المعاصر على الأقل. فنحن نكافئ النصوص على تفرد تصميمها، ولكن الأداءات تقيّم على أساس تنوعها وتعددها.
وفي هذا السياق، نحقق الفضيلة بدافع الضرورة، فلا يوجد نص أو خطة أداء، مهما كانت درجة وضوحهما، حاسمان في ما يتعلق بالملامح الضرورية الملائمة لتنفيذهما في أداء؛ إذ هناك دائما أسئلة لا يجيب عليها النص أو خطة الأداء، في ما يتعلق بمسائل مثل: كيف تبدو الشخصية، وكيف تتكلم، وكيف يتشكل فراغ الأداء الذي يحفز قراءة السطور، وما هي الإيماءات الملائمة له.
ونقيم الأداءات في المسرح المعاصر بفضل الاختيارات التي تقدمها في هذا السياق، وملاحظة رؤيتها وعمقها وإبداعها – مقارنة ومفارقة الأداء مع التنويعات الأخرى على نص المسرحية نفسه أو خطة الأداء نفسها. وعلى الرغم من أن هناك جدالا واضحا حول مدى أو درجة خضوع المؤدين لتحقيق غموض النص الذي لا يمكن تفاديه، فلا أحد ينكر أن كل الأداءات تتعلق بتفسير النصوص أو خطط الأداء، بمعنى أن الأداء الدرامي يجب أن يذهب إلى أبعد ما هو معطى في النص. وهذا يعني أن هناك دائما نطاقا للمسرحية – سجل ما للابتكار في أوضاع الجسم وخطة الأداء. فخطة الأداء تحتاج أن تمتلئ بالأداء: ولهذا السبب تسمى الأداءات تفسيرات، إنها تفسيرات لخطط الأداء، أو في الحالة النموذجية اليوم هي تفسيرات لنص المسرحية.
ونصوص المسرحيات باعتبارها فنا أدبيا (المسرحيات كتكوين) هي النماذج التي تُستمد منها الصور. علاوة على ذلك، فإن نسختك من رواية “منتصف مارس Middle March” ونسختي من الرواية نفسها هما علامتان للنوع الذي أبدعته الكاتبة «جورج إيليوت» George Eliot. وهذه العلامات هي الموضوعات المادية التي تمنحنا مدخلا إلى النوع المجرد للعمل الفني “منتصف مارس”. فلو أن نسختي احترقت، فإن رواية إيليوت تظل موجودة رغم ذلك، لأنها شيء مجرد، أو نموذج لا يمكن أن يحترق، علاوة على أنه النموذج الكامل. ومع كل الاحترام لاكتشاف المخطوطة المختفية لرواية جورج إيليوت التي توضح قصدها فيما يتعلق بالموضوع، فلا يمكن إضافة كلمات جديدة للرواية.
صحيح أن القارئ مضطر إلى أن يفترض تفاصيل إجبارية معينة ليست مكتوبة على الورق – مثل أن “كازوبون” له قلب مزود بأربع غرف. ولكن الكتاب مغلق والعمل ثابت من الناحية الأخرى. وبالمثل فإن الدراما كعمل فني – مثل مسرحية «سيد البنائين Master Builder» – ثابتة كنموذج فني، فهي لكل العصور في إطار العناصر الجمالية التي تنشئها كما يحدد قصد مؤلفها هنريك إبسن.
ورغم ذلك، فإن الأداءات الدرامية متغيرة، وهذا لأنها عندما تُرى من منظور الدراما باعتبارها فن أداء، يعد النصوص الدرامية مثل وصفة الإعداد – أو تركيبة يجب أن تمتلئ بواسطة المؤدين في عملية عرض الأعمال الفنية في أداء – فضلا عن أنها أعمال ثابتة في ذاتها، فهي مسودات، فضلا عن كونها صروحا كاملة، لو تحدثنا بشكل مجازي. بمعنى أنها مجموعة من الإرشادات يجب توضيحها بالتفصيل، وتنفيذها بواسطة الممثلين والمخرجين.. إلخ. فنصوص المسرحيات تحدد مكونات الأداء – مثل سطور الحوار والشخصيات وربما بعض الأدوات - علاوة على تنويعة النغمات العاطفية أو النكهات الملائمة للعمل. ولكنها مثل وصفة الطهي تحتاج من الطاهي أن يوضح مقدار الخل في الخلطة، وكذلك منفذو نص المسرحية يجب أن يقدموا أحكامهم للوصول إلى سرعة الإيقاع الملائمة للأداء على سبيل المثال. ورغم ذلك، لا يسمح هذا لمنفذي المسرحية أن يفعلوا كل ما يريدون بالنص، وبالمثل لا يستطيع الطاهي أن يوضح مقدار الخل باعتبار أنه تعليمات لكي يضيف القشدة.
ومع ذلك، يسمح نص المسرحية باعتباره وصفة أداء بمساحة كبيرة من التنوع والابتكار – في اللعب – كما تفعل وصفة الإعداد في الطهي والموسيقى، رغم ذلك في حدود مجموعة من التعليمات المطلقة. وحيثما توجد هذه الحدود، فلا حاجة بنا إلى القول، فهي عرضة لكثير من الجدال، إذ يجب مثلا أن تكون الأداءات مقيدة بنيات مؤلف مثل تشيكوف، أو النيات الافتراضية التي نستنتجها من شخص مثل تشيكوف، لو كان حيا، أم أن القيود التي يفرضها النص أكثر تفككا رغم ذلك؟ فلكي يتجسد كل نص مسرحي كأداء، فإنه يحتاج إلى فعالية تفسيرية من جانب منفذيه الذين يجب أن يستنتجوا ما وراء ما هو مكتوب أو بالأحرى مشروط مسبقا (كما في حالة خطط الأداء المنقولة).
بعض النصوص - مثل مسرحية ميجان تيري Megan Terry «المجيء والذهاب Coming and Going» - تسمح بالارتجال، بينما تحاول مسرحيات أخرى أن تجرب مزيدا من السيطرة التأليفية. ومهما كانت خطة الأداء، فإنها بالضرورة يجب أن تمتزج بالخصائص التي يجب ملؤها بواسطة المنفذين، وكل أداء للعمل الفني الدرامي سوف يكون تفسيرا. علاوة على ذلك، فإن هذا لأن نص المسرحية غامض دائما بشكل لا مفر منه، مثل وصفة الطهي، وأنه من المنطقي أن نتذوق الأداءات المختلفة بنفس الطريقة التي نتذوق بها مختلف الإعدادات من مختلف الطهاة لنفس الصلصة. فكل تنويعة تقدم صورة مختلفة لنفس طريقة الإعداد.
فكل من العمل الفني الدرامي باعتباره تكوينا، والعمل الفني الدرامي باعتباره أداء هما «أنواع types». ورغم ذلك فإن الأسلوب الذي تأتي به علامتا هذين النوعين إلى الوجود، مختلف بشكل ملحوظ. وحيث إن العمل الفني الدرامي في أيامنا هذه هو عمل أدبي، فإنه يأتي إلينا عادة في شكل مادة مطبوعة. وهذه العلامات تنتج بشكل ضخم بواسطة نظام آلي أو إلكتروني تكراري. علاوة على ذلك، إذا كان هناك نسخ يدوية – مكتوبة بالريشة مثل نصوص شكسبير – فأعتقد أن المخطوطات تم إنتاجها آليا، بمعنى أنها كانت من الناحية المثالية نسخا طبق الأصل حيث كانت الخطوط غير مهذبة من الناحية الفنية (إذا كان من ينسخها يعبر عن هذا النوع من المسرحية بشكل خيالي، ربما بإضافات رسوم توضيحية أو إضاءات، فإن الكتابة تصبح عملا فنيا فريدا في ذاته وليس مجرد رمز أو علامة للنوع المتعلق بها).
وتتولد علامات التكوين الدرامي الشكسبيرية بشكل آلي، إما بواسطة كاتب (ناسخ) غير معروف يسعى لإنجاز كربونية، أو في هذه الأيام بواسطة عمليات الآلات، وبمجرد إعداد النوع تطبع نسخ العلامات آليا (أو إلكترونيا). وعند هذه المرحلة تولد العلامات بواسطة سلسلة من العلامات المادية الشفافة، فعلامة مسرحية بعينها من تأليف شكسبير – نسختي منها – تظهر في العالم بواسطة أحداث سببية عمياء.
ورغم ذلك، فإن علامة مسرحية من تأليف شكسبير، من منظور الدراما باعتبارها أداء، هي أمر مختلف تماما. وبسبب ثنائية الدراما، تملك المسرحيات باعتبارها علامات كل من الأشياء والأداءات، فباعتبارها عملا أدبيا، فإن علامة مسرحية “حاملات القرابين libation bearers” هي نص مكتوب له نفس النظام الأنطولوجي لنسختي من رواية “منتصف مارس”. ولكن مع تأملها من منظور الدراما باعتبارها أداء، فإن علامة «حاملات القرابين» شيء مختلف مرة أخرى، إنها حدث فضلا عن أنها مجرد شيء، وهي بالطبع نوع خاص للحدث، فهي فعل إنساني. وعرض مثال لعلامة في مسرحية «حاملات القرابين» بواسطة أداء يحتاج إلى قصدية، فهي ليست نتيجة عملية سببية، بل إنها تتعلق بنشاط ذهني (حيث علامة الذهني هي القصدية، كما يقترح فرانز برينتانو).
ومشكلة نسختي من مسرحية «حاملات القرابين» – التي تمنحني مزيدا من القرب من العمل الفني الدرامي باعتباره تكوينا التي ألفها إسخيلوس – تحتاج إلى قالب (إما نوع جديد أو ملف إلكتروني) وهذا القالب ذاته هو مجرد وجود مادي أو عملية لغلاف «حاملات القرابين» يتم ملاءمتها بشكل خاص، ويمكن تدميرها ماديا. وتقديم علامة «حاملات القرابين» من الناحية الأخرى يحتاج شيئا فوق مجرد أجسام في حركة، تتفاعل سببيا. وكما رأينا، فإنها تحتاج إلى تفسير معين لغموض نص المسرحية، لأن نوع المسرحية، كما ناقشنا آنفا، من تأليف إسخيلوس – عندما نشاهدها من منظور الأداء – أقرب إلى وصفة الإعداد التي يجب تنفيذها بواسطة الممثلين والمخرجين وغيرهم.
علاوة على ذلك، فإن هذا التفسير هو مفهوم لنوع المسرحية، وأنه مفهوم للعرض الذي يحكم الأداء في كل ليلة، وقد تؤدي هذه التفسيرات في مختلف المسارح، وتأمل مثلا الفرق الجوالة، فقد يتم إحياؤها بعد فترة انقطاع. ولذلك، فإن تفسيرات وصفة الإعداد هذه هي في ذاتها أنواع تولد علامات أداء، والعلاقة بين نوع المسرحية وأدائها يتم توسيطها من خلال تفسير واقتراح أن التفسير نوع داخل نوع، فما يصلنا من نوع المسرحية كوصفة لعلامة أدائها هو تفسير أنها نفسها نوع. ومن الناحية الأخرى، ما يصلنا من العمل الفني الدرامي باعتباره تكوين مثال رمزي (نسختي من حاملات القرابين) هو قالب وهو علامة أيضا.
وعمل العلامة المميزة للقالب في عرض العلامة المميزة لنوع الفن الأدبي «حاملات القرابين» هو مسألة سببية مادية. ففعل تفسير النوع في عرض علامة أداء «حاملات القرابين» مختلف تماما، فهي ليست حالة نوع فضلا عن أنها علامة فعل، بل إن النوع موضوع السؤال يتعلق بشكل غير قابل للحذف بمكونات ذهنية أو قصدية. وبالطبع، ليس فقط التفسير الذي يحكم الأداء نفسه هو المتعمد، بل إن تمثيل هذا التفسير وتجسيده في هذه الليلة على خشبة المسرح يتطلب أيضا تفسيرا للتفسير الملائم للظروف الفورية للأداء.
لقد جادلنا حتى الآن بأن الدراما هي فن مزدوج أو ذو مستويين، فهناك الدراما كتكوين والدراما كأداء، وتتعلق الدراما كتكوين بالمؤلف الذي يبدع العمل الفني – نص المسرحية أو خطة الأداء. وتتعلق الدراما كأداء بالمنفذين – المؤدون الذين يعدون خطة الأداء باعتبارها وصفة أداء تتأكد عن طريق التفسير (أو سلسلة من التفسيرات التوضيحية). وأمثلة علامات الأعمال الفنية الدرامية باعتبارها أداءات هي أحداث تتولد قصديا بواسطة أفعال تفسيرية. علاوة على أننا نسمي فنا بأنه أدائي فقط في حالة عرضه لهذه الثنائية.
المثالان المضادان المتاحان لزعمنا في ما يتعلق بثنائية الدراما هي المسرحيات المكتوبة بقصد الأداء (تراجيديات سينيكا على سبيل المثال)، وأعمال الارتجال الخالص، بمعنى الارتجال بدون خطة إعداد مسبقة – وهي مشاركة تدون أي تخطيط سابق أو أبرمت بدون خلفية لاستراتيجيات أو أنماط استجابة مجربة لمواقف أو تحديات. حتى الهزلي المرتجل، المطلوب منه تمثيل مشهد فوري يتوقف للحظة للتفكير في خطة (وأعتقد أنه يفتش أعماله السابقة على عمله الجديد). علاوة على ذلك، على الرغم من أن بعض المسرحيات قد تكون مكتوبة بدون التفكير في أدائها، وهذا لا يستتبع أنه لا يمكن أداؤها صراحة. وفي النهاية، إذا كانت استجابتي إلى هذه الأمثلة المضادة سوف تثيرك بشدة، فمن الملاحظ أيضا لصالح أطروحة الدلالة التي تقول إن فكرة الدراما على هذا النحو قد تظل مزدوجة حتى لو كانت بعض الأعمال الدرامية هي نصوص درامية وأن بغيرها أداءات درامية.
فما هي الدراما؟ الدراما هي شكل ذو مستويين ويضم نوعين من الأعمال الفنية: الإبداعات من ناحية، والأداءات من الناحية الأخرى. فالدراما علاوة على ذلك، هي فن أداء نموذجي، حيث يميز فن الأداء هذا النوع من الازدواجية.

نويل كارول يعمل أستاذا للعلوم الإنسانية بجامعة تمبل بالولايات المتحدة الأمريكية. وأحدث كتبه «فيما وراء علم الجمال واستخدام الصورة المتحركة Beuond Aesthetics and engaging the moving image». وتمثل هذه الدراسة الفصل الخامس من كتاب “فلسفة الأداء المسرحي” الصفحات (104 - 121).


ترجمة أحمد عبد الفتاح