«تريفوجا» .. حين يحضر التشويش.. لا يغادر العرض فضاء خشبة المسرح

«تريفوجا» ..  حين يحضر التشويش.. لا يغادر العرض فضاء خشبة المسرح

العدد 745 صدر بتاريخ 6ديسمبر2021

تسعى الفنون جميعا إلى إنتاج صور تتمدد خارج مادتها، فالقصيدة ليست مجموع كلماتها إنما هى الصورة التي تنجح هذه الكلمات في إنتاجها خارج مادة الكلمات والحروف، والتي يستطيع القارئ رؤيتها من وراء الكلمات والحروف، هى تلك الصورة التي تتخارج  من الكلمات، لتحتل مكانها في عالم تصورات وخيال المتلقي، وهكذا في كل فن،  بما في ذلك فن المسرح، على مستوى الكتابة الدرامية كما على مستوى العرض، ولهذا قسم منظرو المسرح ما يعرف  بالفضاء المسرحي  إلى فضائين، الفضاء المادي المنظور؛ وهو فضاء خشبة المسرح ذاته ، وهو الذي يشغله الممثلون وعناصر العرض الأخرى كقطع الديكور والإكسسوارات والإضاءة الخ ، والفضاء المسرحي غير المنظور، وهو الذي يقع خارج خشبة المسرح، يتمدد من الخشبة، إلى خارجها، يتخارج منها بواسطة الحوار أولا ثم غيره من العناصر التمثيلية ثانيا، ليحتل مساحة خيالية في ذهن المتلقي، يتجسد خلالها ما يتحدث عنه العرض، فيرى المشاهد الماضي ماثلا إذا كان العرض يدور في الماضي. يعيش في البلاد التي يحكي عنها العرض، يرى الأحلام ، يمسك بالأزمة التي تعانيها الشخصيات في تنامي تشكلها العاطفي والتصويري،  ويشعر بالألم أو بالسرور، كما يلمس المستقبل الذي يرسم خريطته حلم العرض.  
هذا الفضاء الذي يتخارج من فضاء خشبة المسرح يشترط من أجل تحققه نوعا فائقا من الدقة في صناعة العلامات، وتوجيه النظام الإشارى وتنميته خلال العرض بانضباط شديد وصارم و رهيف؛ بحيث يكون قادرا على تشييد صورة متخيلة منسجمة، يمكن الاحتفاظ بها حية، متوترة، في  ذاكرة المشاهد ، ويمكن استدعائها بأكبر قدر من مكوناتها كلما دعت الحاجة إلى استعادتها.
وفقا  لذلك يمكن القول إن غياب عناصر الدقة، والانضباط، والرهافة عند تشفير النص أو عند بثه خلال العرض الحي، من شأنه أن يوقع الاضطراب في المادة المعروضة على فضاء خشبة المسرح، ويصادر - من ثم – إمكانية تشكل صورة  قادرة على الحياة فيما بعد العرض  في ذاكرة وخيال المشاهد، و يقيم جدارا وهميًا عازلا بين فضاء خشبة المسرح والفضاء المسرحي  ، ويكون من نتيجة ذلك أيضا أن يضيق العرض ويخنق في حيزه المحدود على الخشبة.
ومن أبرز المشكلات التي يمكن أن تؤدى إلى هذا الفصل بين الفضائين، مثلا عدم جودة أجهزة الصوت ما يتسبب في عدم وصول جمل الحوار والمؤثرات إلى الصالة، وكذلك ضعف أداة الصوت لدى الممثل، أو عدم امتلاكه مهارات الإلقاء، وعدم انسجام نبراته الصوتية مع انفعال الشخصية ، كذلك فشله في تشغيل أدواته الإشارية الجسدية أو ارتباكه في أدائها، أو عدم فهمه للدور الذي يؤديه، ما يجعله يصدر إشارات بلا معنى، لا تنسجم مع ما يريد توصيله، كما لا تنسجم مع ما يدور حوله من فعل على الخشبة. كذلك فإن عدم كفاءة أجهزة الإضاءة، وارتباك ما تبثه من إشارات يؤدى إلى هذا الفصل أيضا.
ولسنا بحاجه إلى التذكير بأن صناعة الفضاء المسرحي في صورته الحية خارج الخشبة تبدأ من النص وانضباطه، ثم من قدرة المخرج على ترجمته إلى علامات مسموعة ومرئية منضبطة دلاليا وجماليا .    
على ضوء ذلك يمكن القول إن عرض “ تريفوجا” الذي شاهده جمهور مهرجان الجمعيات الثقافية، مسرح الهواة، أمس، في دورته الثامنة عشرة ، على مسرح  قصر ثقافة بورسعيد، من  تأليف محمد زكي، وإخراج محمد الملكي لم يغادر خشبة المسرح الذي قدم عليها، ووقع سجينا كأبطاله.  وأسباب ذلك تكمن أولا في حضور عنصر التشويش الذي احتل موقعه على الخشبة كواحد من ممثلي العرض، نتيجة ضعف أصوات كثير من الممثلين، وعدم وصول مساحات واسعة من جمل الحوار إلى الجمهور، الأمر الذي أدى إلى تآكل مساحات من الحكاية، كان على المشاهد أن يخمنها، ليس من أجل أن ينفعل بها، إنما من أجل أن يوصل الوقائع بعضها ببعض، فيفهم ما لم يسمعه، وهو ما يفسد من ناحية أخرى – بدرجات- تمدد العرض خارج خشبته.
 ربما تتحمل أجهزة الصوت بعضا من هذا التشويش، ومع ذلك لا يمكننا إعفاء الممثلين تماما من هذا ، وكذلك المخرج الذي اختار نصا مغتربا، بحكاية تخص مكانا آخر، وثقافة أخرى، بأسماء ليست من مألوف أسمائنا،  ما يحتاج إلى الكثير من دقة أدوات التوصيل، حتى يستطيع المتفرج أن يتعايش معه.
من أسباب التشويش أيضا – في نظري- التزام الممثل سكة أداء، لا تتسق مع طبيعة الشخصية، والمعنى التي تمثله – وفي رأيي- لم يكن هناك مبرر لسكة الأداء التي التزمها (علي حسن) وهو يقدم شخصية  (بيتروف) وقد بدا ( متوترا/ لن أقول ملتاثا) منذ بدء ظهوره على الخشبة، على الرغم من كونه الشخصية الأكثر سواء في العرض، هذا السواء الذي تجلى في اتخاذه الموقف الإيجابي الأكثر إنسانية في العرض، وهو الموقف الرافض للتدمير والقتل. كنت أتفهم هذه السكة من الأداء بعد ما مورس عليه من ضغوط ، أصابته بما يشبه اللوثة، ولكن قبل ذلك لا أجد مبررا.
لا أفهم كثيرا حكاية أن يؤلف مصري لبيئة تنتمي لثقافة غريبة، دون أن يكون قد مر شخصيا بتجربة تتصل بها، ولكن من الممكن أن أتفهم فكرة الإطار الإنساني الجامع الذي تشير إليه فكرة العرض، خاصة إذا كانت تعالج فكرة يمكن تجريدها وإنزالها على بيئات وثقافات أخرى، وهو  ما يمكن أن تحققه فكرة العرض، التي تؤكد عبر عدد من الحكايات الفرعية أثر القانون الصارم في تشويه الأفراد الذين ينضوون تحته، ما يؤدي إلى هزيمتهم جميعا، دون أمل للنجاة، وبحسب حكايات العرض فقد حاكم لك القانون و قتل اثنين( مارلو / محمد كامل) و ( بيتروف/ علي حسن) على الرغم من تناقض موقفيهما من القانون نفسه، من أراد أن ينفذ القانون ولكنه خالف قائده، ومن رفض تنفيذ القانون وخالفه، كذلك دفع القانون أحدهم لخيانة زوجته بسبب انشغالها عنه بالقانون أكثر، ما جعلها تهمل زوجها، ثم أحال القانون نفسه إحداهن للتقاعد بعد أن أفنت حياتها في خدمة العمل به، ونسيت  في خضم ذلك أن تقيم لها حياة خارجة، لا زوج لا أولاد ، ولا أسرة ، فماذا تفعل بعد أن لفظها القانون الذي خدمته. القانون فحسب، ثم ضحايا مشوهين، لا أمل لهم.
في حدود الإمكانات التمثيلية والسينوغرافية المتاحة، استطاع العرض أن يصل بفكرته، وكنت أتمنى أن يصل بروحه، على الرغم من وجود مساحات إنسانية كان يمكن أن تحقق قدرا أكبر من التعايش مع العرض، ومع ذلك لا يمكن إلا أن نشكر مجموعة الممثلين الذين تحملوا عبء عرض لم يكن سهلا على مجموعة من الهواة، وإن كانت جيدة ، وقد كان يحتاج إلى  الكثير من الإتقان والدقة في صياغة علاماته والقدرة على توصيلها، شكرا لـ (علي حسن / بيتروف ) الذي وإن كنا نختلف مع سكة أدائه للدور إلا أننا لا نختلف على كونه ممثلا جيدا، ومعه (محمد كامل/ مارلو ) و (منى خالد/ سونيا ) وقد قدمت أداء منضبطا، وكذلك (هاجر إبراهيم/ هيلين)  ومعهم (محمد دويدار / روبرت) و(عزه وجدي / جوليا)  و ( نرفانا الملاح/ روزا) و (أحمد بدوي/ فان) و ( عمرو لبيب/ القائد مارك ) و ( ميرنا الحمامي/ مادلين) وعلى المستوى السينوغرافي فإن: أحمد عزب ومروة المغربي وأحمد هلهول وكريم منصور، ومعهم أمير مشالي ومحمود نوح، قدموا أداء طيبا خاصة في مشهد (حلم العروس) الذي حلمته الطفلة ، وقد كان أكثر مشاهد العرض تميزا.
على الرغم من إن العرض يقدم قاعدة عسكرية للصواريخ، في مناخ حرب وإن كانت باردة، وهو ما يحتاج إلى صورة تتسم بالانضباط  والشدة، فقد شعرت  أن الصورة كانت أخشن مما تحتاجه الوظيفة الجمالية، وإن كانت أدت وظيفتها العملية.
أخيرا، العرض – في تصوري – كان يحتاج إلى عناصر أكثر احترافية، ومع ذلك فقد استطاع مخرجه محمد الملكي، ما لديه من خبرات جيدة، أن يؤديه بقدر من الانضباط، مستفيدا من العناصر التي توفرت له،  و بها عناصر ربما تصعد  المسرح للمرة الأولى ، وإن كان من كلمة يمكن أن نهمس بها إليه، فهي ضرورة مراعاة العناصر المتوفرة عند اختيار النص.      


محمود الحلواني