ثلاث وقائع عن رجل يستحق الإطراء..

ثلاث وقائع عن رجل يستحق الإطراء..

العدد 739 صدر بتاريخ 25أكتوبر2021

 هذه الشهادة كتبتها في حياة2 الدكتور فوزي فهمي، وقرأها على صفحتي بالفيسبوك، وكان سعيدا جدا بها، ولم أكن أعلم بأنني سأنشرها بعد رحيله، لكن الموت أقوى منا جميعا.     

 هذه الشهادة كتبتها في حياة2 الدكتور فوزي فهمي، وقرأها على صفحتي بالفيسبوك، وكان سعيدا جدا بها، ولم أكن أعلم بأنني سأنشرها بعد رحيله، لكن الموت أقوى منا جميعا.     
لم أكن أعرف عن الدكتور فوزي فهمي شيئا إلا ما قدمه من كتابات في مجالي النقد، والإبداع المسرحي، حين قرأت كتابه المهم (المفهوم التراجيدي والدراما الحديثة) الذي أصدره في عام 1986، ومسرحياته (عودة الغائب - لعبة السلطان - الفارس والأسيرة)، وكنت أعلم أن غياب قلمه الإبداعي كان سببه انشغاله بالعمل العام الذي أخذ كل وقته تقريبا، وهذا العمل هو الذي أتاح لي فرصة التعرف عليه عن قرب. حين جاء مشرفا على الهيئة العامة لقصور الثقافة، في الفترة الانتقالية التي جاءت عقب إحالة رئيسها حسين مهران إلى المعاش في عام 1997ـ إلى أن تسلم رئاستها الدكتور مصطفى الرزاز بعد حوالي أربعة أشهر، هي مدة الفترة الانتقالية التي رأيت فيها الدكتور فوزي فهمي عن قرب، وكنت يومها مديرا لتحرير مجلة (الثقافة الجديدة) –التي عملت فيها منذ عام 1990- وكنت -كذلك- مسئولا مع الصديق الشاعر (محمد كشيك) مدير إدارة النشر -وقتها- عن بعض السلاسل الأدبية التي تصدرها الهيئة.. وأود أن أذكر بعض الوقائع -من خلال شهادتي تلك– مبينا بها إلى أي حد كان د. فوزي فهمي متفهما، وديمقراطيا، ومتواضعا. وأشهد أنني لم أستفد منه أي شيء على المستوى الشخصي، يجعلني أقدم شهادتي تلك.                                       
     وأود في شهادتي أن أذكر ثلاث وقائع مختلفة، كل واقعة منها تكشف بُعدا من أبعاد شخصيته.

الواقعة الأولى:
  في تلك الفترة -التي أشرت إليها-  شعرنا -أنا وكشيك- أن ثمة أشياء تدور في الخفاء –هكذا كنا نظن- هدفها تصفية إدارة النشر، وأن الدكتور فوزي فهمي جاء، لتنفيذ تلك المهمة، وما أكد هذا الإحساس لدينا، هو تجاهله لنا تماما، فلم يطلب مقابلتنا، أو الحديث معنا، في الوقت الذي رأيناه يقابل الكل، ويحيل بعض قيادات الهيئة إلى التحقيق، ويحول بعضهم للنيابة الإدارية، ويقوم بعضهم الآخر بتقديم استقالته، خشية الزج بهم للمساءلة، في وسط هذا الجو المضبب. تساءلنا: لماذا يمارس الدكتور صمته تجاهنا هكذا، وتلك الإدارة من الإدارات المهمة، التي أثبتت بالإصدارات العديدة، أنها أهم من هيئة الكتاب نفسها!! إذن، هو يبحث عن أسباب ومبررات لتنفيذ خطته –هكذا قلنا– وعلى الرغم من هذا، لم نتوقف عن إصدار الكتب، أو إصدار المجلة، إيمانا منا بدورهما، وفجأة وجدناه يستدعي كشيك إلى مكتبه –بوصفه مسئولا عن النشر- ليسأله عن سر تلك الأخبار اليومية التي تنشرها الصحف وتتحدث عن نية فوزي فهمي المبيتة ضد النشر وإصدار السلاسل، قائلا: ظللت لسنوات أعمل رئيسا لأكاديمية الفنون، ولم أرَ صورتي أو أخبار الأكاديمية تنشر هكذا -يوميا- بتلك الكثافة في الصحف. ما الذي يحدث بالضبط؟ وحين صارحناه بحقيقة الأمر، وأبدينا مخاوفنا، واعترفنا بأننا قمنا بتلك الحملة حفاظا على ذلك المنجز الذي لا نشك أبدا أنه سيقف ضده، ويقلصه، أو يقوم بإلغائه، وجدناه ينفي ذلك تماما، مؤكدا حرصه على المحافظة عليه، بل وتطويره، وتنظيم آلياته، وطلب منا تقديم بيان بالسلاسل التي تصدرها الإدارة، مع استبعاد بعضها المتشابه، من حيث الموضوعات المنشورة، وبالفعل تم استبعاد أربع سلاسل فقط، عن طريقنا –نحن– وليس بقرار منه، بعدها طلب اجتماعا لرؤساء تحرير السلاسل، تم في مكتبه، وفيه استعرض كل النقاط المتعلقة بتنظيم عمل النشر، وتحديد الاختصاصات، ووضع لائحة لتنفيذ ما توصل إليه رؤساء تحرير السلاسل، حضر الاجتماع يومها (علي أبو شادي، وكان مشرفا على النشر أثناء عمله مسئولا عن الرقابة – إبراهيم أصلان – جمال الغيطاني – محمد البساطي – طلعت الشايب - محمد السيد عيد – خيري شلبي – وكشيك وأنا). وأذكر أن فوزي فهمي حاول في هذا الاجتماع أن يطرح تصوره حول مجلة (آفاق المسرح) في محاولة منه لتجديد توجهاتها، فظننت أنه يريد إغلاقها، فدافعت عنها دفاعا مستميتا، فقال لي: أنا رجل مسرح، ولن تستطيع التأثير عليّ، فقلت له، هذه مجلة وحيدة تعبر بصدق عن حياتنا المسرحية، فقال: عاجباك كده؟! فقلت نعم.. قال: إذن تستمر هكذا. أنت حر!! واستمرت، وبعدها وفي العهود التالية، أغلقت بالضبة والمفتاح، تحت زعم تطويرها!! إذن، التخوفات كان لها أساس من الصحة، لكن ديمقراطية الرجل، جاءت في صالح العمل الثقافي، الذي لا يحكمه غرض.. في هذا الاجتماع تم إقرار السلاسل التي أصبحت 12 إصدارا بدلا من 16 إصدارا، ووضعت لائحة لتنظيم عمل النشر، اعتمدت من وزير الثقافة في نفس العام، وأصدر فوزي فهمي قرارا بتشكيل اللجنة العليا للنشر في 28 أكتوبر 1997، وأصدر قرارا آخر، بأن يكون للنشر أمين عام، من مهامه دعوة رؤساء تحرير السلاسل إلى الاجتماع المنتظم لمناقشة كل ما يتعلق بأمور النشر داخل الهيئة، وبعدها بيومين في 30 أكتوبر 1997 أصدر قرارا يحدد فيه سياسات النشر، ويحدد اختصاصات رؤساء التحرير، وظلت تلك القرارات معمولا بها حتى اليوم.. وبرغم الأزمات التي تعرض لها النشر داخل الهيئة بدءا من أزمة “وليمة لأعشاب البحر” في عام 1999، ومرورا بأزمة الروايات الثلاث: العاصفة في عام 2001، وانتهاء ببعض المشكلات الصغيرة التي واجهتها بعض الإصدارات خلال الفترة القليلة الماضية، إلا أن أحدا لا يستطيع القضاء على هذا المشروع، بسبب القرارات المنظمة لعمله، ويعود الفضل أولا: لحسين مهران صاحب قرار إنشاء إدارة النشر، وثانيا: لفوزي فهمي صاحب القرارات المنظمة لعمل الإدارة بوصفها كيانا ثقافيا مهما وحقيقيا.

  الواقعة الثانية:
  منذ عملت مديرا لتحرير مجلة الثقافة الجديدة في عام 1990، وأنا أحافظ على موعد صدورها الشهري -أول كل شهر- وبشكل منتظم، لا يؤخره أي سبب مهما كان، حتى إنني أذكر أنه أثناء زلزال أكتوبر 92 وبعد منتصف الليل، وكل الناس تسكن في الشوارع خوفا من توابع الزلزال، التي قيل إنها ستكون قاتلة، كنت والصديق الفنان (محمد بغدادي) مدير المجلة الفني، نسهر لإنهاء العدد، ومكتبه في الدور الثالث يهتز بنا، ولا نهتم، ولذلك حين جاء د. فوزي فهمي إلى الهيئة، رأيناه لم يهتم بالمجلة، هكذا -حسبنا- لأنه كان يقاطعنا، ولذلك اتصلت به طالبا منه افتتاحية العدد الجديد، لكي يصدر في موعده، فوافق، وأبلغني بأنه سيعدّه، ولما تأخر وعده، نتيجة مشاغله العديدة، والمشكلات التي أخذت كل وقته، طالبته من جديد، فأخبرني ألا أصدر العدد إلا بعد أن يكتب افتتاحيته، وكان التقليد المعمول به منذ حسين مهران هو أن رئيس مجلس إدارة الهيئة هو رئيس التحرير، والمجلس الأعلى للصحافة وافق على هذا الإجراء، باعتبار المجلة مجلة أدبية متخصصة، ولذلك فإن فوزي فهمي هو رئيس التحرير الجديد لتلك المجلة التي جاءته فجأة!! ولما رأيت الوقت يقترب، والمجلة ستتأخر، خشيت أن تكون النية مبيته لإيقافها، فقمت بإعطاء أمر طبعها، بدون افتتاحية رئيس التحرير، وصدر العدد في موعده، ولم يتحدث الدكتور فوزي فهمي في هذا الشأن، وفي العدد التالي اتصلت به لتجهيز افتتاحية العدد الجديد، فقال لي: لقد أصدرته الشهر الماضي بدون افتتاحية، أصدره الآن بدون افتتاحية أيضا، ولا تضع اسمي رئيسا للتحرير، وظننت أنه يتحدث غاضبا، فأخبرته بأن هذا الأمر لن يحدث، ولما تأخر -كالعادة- أصدرت العدد في موعده أيضا، وقلت في نفسي  لو أراد الدكتور فوزي فهمي إقالتي من المجلة، بسبب تلك المواقف، فهذا حقه، لكنني لن أجعل المجلة تتأخر عن موعدها مهما كان الثمن، وكل مرة أصدر فيه العدد يخبرني بأن أرفع اسمه، ولا أفعل، وصدرت أربعة أعداد منها حتى ترك الهيئة، ولم يكتب افتتاحيتها، ولم يفعل تجاهي أي شيء، ولم يتخذ موقفا، برغم أن هذا حقه تماما، لأني خالفت تعليماته كرئيس للهيئة، علما بأن العادة قد جرت على أن افتتاحية رئيس التحرير يمكن أن يكتبها نائب رئيس التحرير أو مدير التحرير كما كان يحدث من قبل، لكنها تنشر باسم رئيس التحرير، وكان من الممكن أن أفعل هذا، إلا أنني لم أفعله، لعلمي أن الدكتور فوزي فهمي لن يقبل أن يكتب له أحد شيئا يخصه، ويخص قلمه. وهذه النقطة تكشف بعدا في شخصيته، هو فطنته، ووعيه بالأسباب التي دفعتني لفعل هذا، ولم يتذمر، لأنه كان في قرار نفسه يريد للمجلة أن تصدر، كما أخبرني فيما بعد. ولو كان أحد غيره، لفعل الكثير والكثير وربما أكثر من الإزاحة!!

الواقعة الثالثة:
   بعد أن ترك د. فوزي فهمي الهيئة، وسلمها سليمة مائة في المائة للدكتور مصطفى الرزاز، اتصل بعدها -بأيام- بمحمد كشيك، طالبا منه أن يذهب لمقابلته في أكاديمية الفنون، وأخبره بأن يصطحبني معه، في تلك الزيارة، وذهبنا، لنجد الرجل في استقبالنا، بوجه بشوش، وابتسامة وقورة، وفاجأنا حين أخبرنا، بأنه فعل هذا معنا، لأنه اكتشف مدى طهارتنا، ونظافة أيدينا، برغم أنه جاء، وكان متشككا في كل ما يتعلق بالنشر، والعاملين فيه، واستطاع أن يجعل المطبعة المسئولة عن طباعة الكتب، والمتعاقدة مع الهيئة، أن تخفض أسعار الطباعة  بنسبة 20% في المائة، ووافقت، علما بأن تلك النسبة، تشير إلى رقم كبير جدا، بالنسبة لمجموع قيمة ما يطبع، وأشار إلى أنه دائما يعمل بنفس الروح، روح المحافظة على المال العام، وليس إهداره، يعمل مع هذا المال كأنه ماله وليس مال الحكومة، نفرط فيه كيفما نشاء، وكان حديثه صادقا، وكاشفا عن إنسان بسيط طاهر اليد، يعرف كيف يدير منشأة بحجم الهيئة، وبحجم الأكاديمية، بشكل بسيط، وسهل -وبدون تعقيدات- مع المحافظة على المال الذي يوجه إلى دعم الأنشطة، وأمر أحد رجاله بالتجول معنا لنرى حجم الإنجازات التي حققتها الأكاديمية، خاصة فيما يتعلق بأعمال البنية الأساسية، والتقنيات الحديثة، وذهلت بالفعل، بما رأيته، وقلت إنني لم أره إلا حين زرت أمريكا، ورأيت كل هذا في المراكز الثقافية المخصصة.
  تلك الوقائع التي عشتها بنفسي معه، تكشف أن الرجل عمل  للصالح العام، وليس للصالح الخاص، وهذا هو الفرق بين القيادات، وهذا هو المعيار الذي يفرق بين قيادة حقيقية وقيادة زائفة، تفرح بالمنصب، أكثر من فرحها بالعمل العام الذي يصب من أجل خدمة الجميع، بدون بهرجة، وبدون سعي نحو الإعلام، أو سعي لتحقيق البروباجندا الزائفة، والمُهلكة للقيادة المزيفة، ود. فوزي فهمي قيادة واعية، بدورها، وواعية، بأن كل عمل تحكمه استراتيجية، وسياسة محددة، رجل نظيف اليد، وطاهر، ومتسامح، ومخلص، لا يسعى للتواجد الإعلامي برغم سهولة تحقيقه، عمل في صمت، وبلا ضجيج، واستطاع -اعتمادا على هذه الخصال- أن يكون متميزا، وحقيقيا، وإنسانا قبل كل شيء.                                                                                                                                           


أحمد عبدالرازق أبو العلا