الأداء في المسرح بعد الدرامي(1-2)

الأداء في المسرح   بعد الدرامي(1-2)

العدد 738 صدر بتاريخ 18أكتوبر2021

المسرح والأداء : المجال بينهما 
يؤدي الاستخدام المتغير لعلامات المسرح الى حدود ضبابية بين أشكال الممارسة مثل فن الأداء والأشكال التي تسعى تجربة الواقع . واستنادا الي فكرة « فن المفهوم concept art « ( كما ازدهر في السبعينيات خصوصا) فمن الممكن اعتبار المسرح بعد الدرامي محاولة لتقديم تصور للفن بمعنى أنه لا يقدم تمثيلا بل تجربة غير وسيطة للحقيقة بشكل قصدي ( الزمان والمكان والجسم ) : مسرح المفهوم . ونظرا لأن فورية التجربة بين الفنانين والجمهور تقع في صميم فن الأداء , فمن الواضح أن المسرح كلما اقترب من الوصول الى مكانة الحدث واقترب فنانو الأداء من تقديم الذات , ازداد تطور الحدود المشتركة بين المسرح وفن الأداء – ولا سيما أنه يمكننا ملاحظة اتجاه مضاد باتجاه المسرحانية منذ ظهور فن الأداء في الثمانينيات من القرن الماضي . وفي هذا السياق تستشهد روزليجولدبرجبفنانين مثل جيسورنوفابرولوكومت ( من فرقة ووستر جروب ) و روبرت ويلسون , وتبعه لي بريور في عرضه « الانجيل في كولونوسThe Gospel in Colonus) عام 1984 . بالاضافة الى ذلك , ظهر اندماج جديد للأوبرا والأداء والمسرح . ويذكر جولدبرج أيضا الفرقتان الايطاليتان « فالصوموفمينتوFalsoMovimento” و “ لاجاياشينزاLa Gaia Scienza « , والفرقة الأسبانية «لافيوراديل باوسLa FuradelsBaus , وأريان منوشكين وآخرين . 
     يتناول الأداء المسرح في بحثه عن بنيات سمعية وبصرية متقنة , وامتداده من خلال تقنيات الوسائط , واستخدامه لمساحة زمنية أطول . وعلي العكس من ذلك يصبح المسرح التجريبي أقصر تحت تأثير ايقاعات الادراك المتسارعة عدم توجيه الأعمال نحو الفعل النفسي المتكشف والشخصية , اذ يمكن أن تكون مدد الأداء لمدة ساعة أو أقل كافية في أغل الأحوال . ومن وجهة نظر الفنون البصرية , يقدم فن الأداء نفسه كامتداد للتقديم المصور للواقع أو المشابه للشيء من خلال اضافة بعد الزمن . وتصبح المدة واللحظة وعدم التكرار تجارب للزمن في شكل من أشكال الفن لم يعد يقيد نفسه بتقديم النتيجة النهائية للعملية الابداعية السرية ولكنه بدلا من ذلك يفسد العملية الزمنية لكي تصبح صورة مثل العملية المسرحية . ولم تعد مهمة المتفرجين اعادة البناء المحايد واعادة الابداع والمتابعة المتأنية للصور الثابتة ولكن بالأحرى تحريك قدرتها علي رد الفعل والخبرة , من أجل تحقيق مشاركتهم في العملية المقدمة لهم . 
 ولم يعد الممثل في المسرح بعد الحداثي هو ممثل يؤدي دور , بل هو مؤدي يمنح حضوره علي خشبة المسرح من أجل التأمل . وقد صاغ مايكل كيربي مصطلحي «التمثيل « و «اللا تمثيل « لهذا السبب , بما في ذلك تمييز ممتع للانتقال من « التمثيل المقولب بالكامل Full Matrixed acting” الي “ التمثيل غير المقولب بالكامل Non Matrixed Acting “ . وبعيدا عن التمايز التقني , فان تحليله ذو قيمة لأنه يسلط الضوء علي  التضاريس الشاسعة فيما وراء التمثيل الكلاسيكي . فاللا تمثيل في طرف , يشير الى حضور لا يقوم فيه المؤدي بأي شيء لتضخيم الناتجة عن حضوره ( علي سبيل المثال خشبة المسرح في المسرح الياباني) . وعندما لا يتم دمج المؤدي في سياق مسرحي , فانه يكون هنا في حالة تمثيل غير مقولب . وفي المرحلة التالية , يشير كيربي الى القالب الرمزي بأنه الممثل الذي يعاني من العرج مثل أوديب . فهو لا يمثل العرج , لأنه قد تم دفع عصى أسفل سرواله تجبره علي العرج . ولذلك لا يمثل العرج ولكنه ينفذ الفعل . وعندما يزيد سياق العلامات المضافة من الخارج دون أن ينتجها المؤدون أنفسهم , ويمكننا التحدث عن « التمثيل المتلقى the received Acting « ( مثل مشهد البار , اذ يلعب بعض الرجال الورق في ركن ولا يفعلون شيء الا أنهم ممثلون , ويبدون وكأنهم يمثلون ) . عند اضافة مشاركة واضحة , ورغبة في الاتصال , نصل الي مرحلة التمثيل البسيط simple acting  . وعندما سار المؤدون في المسرح الحي بين الجمهور وهم يقولون « لا يمكنك السفر بدون جواز سفر , وليس مسموحا لي أن أخلع ملابسي « وما الى ذلك , فان الكلمات حقيقية وليست خيالية ولكن التمثيل البسيط موجود . عندما تضاف القصة فقط يمكننا أن نتحدث عن التمثيل المركب , التمثيل بالمعنى الطبيعي للكلمة . وينطبق هذا الأخير علي الممثل , بينما يتحرك المؤدي بشكل رئيسي بين «اللاتمثيل « و» التمثيل البسيط» . وبالنسبة للأداء , كما هو الحال بالنسبة للمسرح بعد الدرامي , تأتي الحيوية في المقدمة , وتبرز الحضور المثير للانسان فضلا عن تجسيد الشخصية . ( ولتحليل كيف تغيرت صورة المتطلبات من المؤدين في أشكال المسرح الجديد بالمقارنة الى اشكال المسرح الدرامي هو أمر جدير بدراسة منفصلة . وفي سياق الدراسة الحالية ذكرنا عددا من صور المشكلة , مثل أسلوب الحضور أو ثنائية التجسيد والاتصال , ولكن يمكن متابعة هذا في نطاق هذا الكتاب . 
اعداد الأداء 
يوصف الأداء بالمعنى الواسع بأنه جماليات الحي التكاملية . وفي قلب ممارسة الأداء  ( الذي لا يضم الأشكال الفنية فقط ) أنه انتاج الحضور , وكثافة الاتصال المباشر , الذي لا يمكن استبداله ولو حتى بأكثر عمليات اتصال السطح المشترك الوسيط تقدما . وكما هو الحال في فن الأداء , لم تعد معايير العمل قابلة للتطبيق في المسرح الجديد أيضا : الحق في فرض الفعل الأدائي كحقيقة بدون مسوغ لشيء يتم تمثيله . ولا تنبثق أهمية المسرح من عمل أدبي رئيسي حتى لو كان يتوافق بالفعل معه . وقد أدى هذا الى اضطراب كبير في الدراسات الأدبية . وربما نستخدم فولفجانجموسات كتصوير لهذا : فهو يتحدث باهتمام كبير عن « المسرح المسرحي theatrical theaterحيث يكون للعب المسرحي الأسبقية علي عملية التمثيل الدرامي لأن المنظور المسرحي هنا يهيمن , ولكنه بعيدا عن الفارص والكوميديا دي لارتي لا يقدم مزيدا من الأسئلة مغايرة لمسرح العبث (المكتوب عام 1982 في النهاية ). علاوة علي ذلك , فقد شخص بالفعل الخطر المتمثل في أن « التزكيز الشديد علي التقديم المسرحي يجعل المرح يبدو فارغا بشكل غريب : تصبح الأفعال المقدمة دوال بدون مدلولات , ورموز بدون معنى لأنه لا يمكن ملئها بمادة عاطفية. فلماذا لا يعرض الأداء في حقيقته الخاصة أي مادة عاطفية تبقى في الظل . ومع ذلك فان سوء التقدير هذا يستدعي المزيد من الاهتمام بضرورة تحليل ازاحة مواقع وبنيات الاتصال في المسرح بعد الدرامي بدقة . 
 من المؤكد أن الاتقسام بين الحضور والتمثيل , والتمثيل وأسلوب التمثيل المقدم في الأشكال الملحمية والمضادة للايهام في المسرح , قد تضمن بالتأكيد اقتراحات جديدة للادراك , ولكن وضع المشاهد (في واجهة خشبة المسرح) ظل في جوهره بدون تغيير – حتى عندما كان من المفترض أن يحدث استثارة للجمهور وايقاظه وتحريكه اجتماعيا وسياسيا . ففي نظر الحداثيين , لم تكن درجة الواقعية كافية في مسرح الايهام الدرامي القديم , وبالتالي ظهرت استراتيجيات التحرر من الايهام . ومع ذلك , فان حجة الافتقار الى الواقعية هذه يمكن أن تعود بنيويا لتتحول ضد المسرح الحديث . ففي الوقت الذي ربما يستقبله الجمهور بوعي أكبر , فان هذا المسرح لم يركز علي واقع موقف المسرح نفسه ؛ أي العملية بين خشبة المسرح والجمهور . ومع ذلك , يصبح هذا بالضبط جوهر مفهوم الأداء . وهذا يعني خطوة أخرى نحو فقدان المعايير الفنية التي يمكن فرضها والسيطرة عليها بسهولة أكبر من خلال الاشارة الى العمل . وعندما لا يكون العمل القابل للتقييم الموضوعي هو الذي يشكل القيمة الفنية بين المؤدين والجمهور , فان هذا الأخير يعتمد علي تجربة المشاركين أنفسهم , أي علي واقع ذاتي وعابر للغاية مقارنة بالعمل الثابت الدائم . فتعريف ما يمكن الاصطلاح علي أنه أداء وحيث , علي سبيل المثال , يمكن رسم الخط الفاصل لسلوك استعراضي , يمكن أن يصبح مستحيلا أيضا . ولا يمكن أن تكون المعلومات النهائية سوى التصور الذاتي لأداء الفنان : الأداء الذي يتم الاعلان عنه علي هذا النحو من جانب أولئك الذين يقومون به . ولا يمكن قياس الوضع الأدائي بالمعايير المحددة مسبقا ولكن قبل كل شيء النجاح التواصلي . وبهذه الطريقة , حدث تقارب ل مفر منه مع معايير الاتصال الجماهيري . وهذا هو الجانب السلبي لتحرير المسرح نحو الأداء , الذي يفتح في نفس الوقت مجالا واسعا لأنماط تمثيل جديدة . وبوضعه منهجيا بين مرحلة ما قبل النص والتلقي , ينقل الأداء تركيزه نحو الأخير . وباعتباره سابقا عملا تمثيليا , ومنتجا موحدا , (حتى لو تم تأليفه كعملية ) فلا بد أن المسرح فعل/لحظة اتصال . اذ لا بد أن يصبح التبادل الاتصالي الذي لا يخضع فقط الى آنيته ( زواله الذي يعد تقليديا عجزا مقارنة بالعمل الدائم ) ولكنه يؤكد عنصرا تأسيسيا لا غنى عنه في ممارسة الكثافة الاتصالية . 
................................................................................................
هذا المقال يمثل الفصل الثالث من كتاب هانز سيز ليمان « المسرح بعد الدرامي Postdramatic theater” الذي صدر عن روتليدج عام 2006.
سبق لمجلة مسرحنا تقديم عدة مقالات لنفس المؤلف في أعدادها السابقة تضمنت تعريفا مختصر لهذا المنظر المسرحي الألماني الكبير . 
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح