لماذا اختفى المسرح من خارطة الإذاعة المصرية؟

لماذا اختفى المسرح من خارطة الإذاعة المصرية؟

العدد 735 صدر بتاريخ 27سبتمبر2021

بدأت الدراما الإذاعية في مصر بداية مسرحية خالصة حيث شهدت دار الإذاعة في القاهرة حضور فرق مسرحية كاملة لتقديم العرض المسرحي على الهواء مباشرة وعند تأسيس البرنامج الثقافي فى 1957 قدمت العديد من المسرحيات العالمية لكبار الكتاب العالميين وكان يشارك فى هذه المسرحيات كبار عمالقة المسرح والسينما فى ذلك الوقت وكان الفنان الراحل محمود مرسى من أوائل الفنانين الذين قدموا مسرحيات إذاعية ، وكذلك الكاتب بهاء طاهر الذي كتب وأخرج العديد منها ، وبمراجعة سريعة لأرشيف العروض المسرحية بالبرنامج الثقافي  نتذكر عددا من المسرحيات التى قدمت عند انطلاق إذاعة البرنامج الثقافي فسنجد فى 1957 قدمت مسرحية «الحرب « تأليف عبد الرحمن فهمى إخراج صلاح عز الدين ، «الراكبون إلى البحر « إخراج محمود مرسى ، «تذكر قيصر « تأليف جورد وان دافيوت إخراج صلاح عز الدين ، «القاعدة و الاستثناء» تأليف بريخت إخراج صلاح عز الدين ، «مسئولية طبيب» تأليف بيراندالو إخراج محمود مرسى ، «المعمل « تأليف دافيد كامبتون إخراج محمود مرسى ، وغيرها من المسرحيات التى شارك بها عديد من نجوم المسرح ، وكانت إذاعة البرنامج الثقافي معنية بشكل كبير بتوصيل الثقافة إلى المواطن العادي ، ومع بداية عصر الانفتاح تراجع الدور الذي قامت به الإذاعة.. خلال هذه المساحة  نسعى لتوضيح  بداية المسرح الاذاعى وأسباب تراجعه ونذكر مجموعة من التجارب الإذاعية المسرحية لمجموعة من المخرجين.                                          

في دراسة خاصة عن «التأذيع المسرحى» قال الكاتب عماد مطاوع ::لقد تم الاهتداء للإذاعة كوسيلة فاعلة للتغلب على “الإعتام” الذي صاحب الحرب؛ وذلك باستخدامها في توصيل وسائل الترفيه إلى المستمعين، بعدما حيل بينهم وبين الذهاب لقاعات العرض المسرحي ولدور السينما ولغيرها من وسائل الترفيه الأخرى..
وإلى جانب ذلك، كان لزامًا أن تستفيد الإذاعة من فن المسرح، وبدأ ذلك بنقل العروض المسرحية عبر الأثير، وفيه كان يتم إذاعة العرض المسرحي كما هو – كما يقدم على الخشبة – من خلال الميكروفون كي تتلقاه أذن المستمع، لكن المشكلة التي واجهت المستمع وحالت دون تفاعله التام مع العرض هي عدم رؤيته للتفاصيل الكاملة للعمل الفني، من ديكور وإضاءة وحركة ممثلين وغير ذلك من بقية عناصر العرض المسرحي، فضلا عن إصابة المستمع بالحيرة والارتباك، مثلا حين يستمع إلى ضحكات جمهور الحاضرين بسبب حركة أو إيماءة قام بها أحد أبطال العرض، وبالطبع المستمع لم ير ذلك ولا يعرف سببا للضحك!! ومن هنا بدأ التفكير في وسيلة تمكن هؤلاء البعيدين عن قاعة العرض من المشاهدة بآذانهم والاندماج في إيقاع العرض المسرحي، ولقد حدث ذلك عبر مرحلتين مهمتين للغاية: المرحلة الأولى: تم فيها الاستعانة بمذيع/ راوٍ، يقوم بالتعليق على ما يحدث فوق خشبة المسرح ويصف للمستمعين كل عناصر العرض المسرحي، ولقد أسهم هذا الأمر بدرجة كبيرة في تفاعل المستمع مع العرض المسرحي وشعوره بأنه يشاهد ما يحدث من خلال أذنه أو من خلال “الراوي”، لكن في نفس الوقت الذي كان فيه الراوي يقوم بهذا الدور المهم، كان يمثل عقبة كبيرة أمام أولئك الذين يمتلكون خيالا خصبًا يتوق للتحليق وللتأمل ويسعى للمشاركة في العملية الإبداعية التي يستمع إليها، وهذا ما أدى للتفكير في وسيلة أخرى للتغلب على هذه العقبة فكانت المرحلة الثانية التي تعد من أنضج مراحل عملية “التأذيع المسرحي” ففيها كان يتم عمل إعداد إذاعي للنص المسرحي بحيث يحتفظ بروحه وبعالمه مع إضافة عناصر الإذاعة المختلفة إليه، وذلك بالطبع لخلق حالة درامية مميزة، فكان الحوار المناسب المكثف، والإيقاع السريع، والموسيقى، والمؤثرات الصوتية التي تساعد في عملية الإيهام لبلوغ أعلى مراحل المحاكاة، هذا بالإضافة لتخير ممثلين يمتلكون أصواتًا تلائم الإذاعة، ولقد وجد المستمع نفسه هنا مشاركًا في العملية الإبداعية، وأصبح يشاهد العرض المسرحي بأذنيه بعدما تم صبه في قالب يلائم الوسيط الإذاعي، وكانت هذه المرحلة هي اللبنة الأولى لمولد “فن الدراما الإذاعية” الذي يعد عالما فنيا قائما بذاته من حيث أدواته وعناصره ومقوماته الإبداعية والتقنية.
وتابع: «جذبت الإذاعة الكثيرين فكتبوا لها نصوصا معدة عن أصول مسرحية “تأذيع” وآخرون كتبوا للإذاعة نصوصًا مسرحية تلائمها وتتوافق مع طبيعتها وأدواتها الفنية، ومن أبرز أمثلة هؤلاء الكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت (1906 – 1986) كاتب العبث الشهير وصاحب الإسهامات الفنية المهمة، والحاصل على جائزة نوبل في الآداب،  لقد كتب بيكيت لإذاعة البرنامج الثالث بالإذاعة البريطانية 
مجموعة من النصوص منها «الساقطون»، «الجمرات»، «الأغنية القديمة»، «كلمات وأغانٍ»، «مشروع المسرحية الإذاعية».. ومن لا يعرف فإن هذه الأعمال قد كتبت خصيصا للإذاعة، ولن يلحظ أي اختلافات في تكنيك كتابة “بيكيت”، وهذا بالطبع يرجع لطبيعة وروح إبداعه، فحواره مكثف إلى حد التقطير، ولغته محددة وواضحة، وجمله قصيرة، وهو معني بوصف الحالة النفسية لشخوص أعماله، وغيرها الكثير والكثير من الأدوات التي تعين المخرج الإذاعي في مهمة التصدي لإخراج عمل فني مسرحي عبر الإذاعة لبيكيت. أيضًا، ممن كتبوا نصوصًا مسرحية خصيصًا للإذاعة، الكاتب السويسري فردريش دورينمات (1921- 1990) وأشهر هذه الأعمال «قضية ظل الحمار»، وكتب للإذاعة أيضًا الكاتب النرويجي هنريك إبسن (1828- 1906) والكاتب الأيرلندي برنارد شو (1856 – 1950) 
و في مصر، خرج من عالم الدراما الإذاعية أساطين العمل الدرامي؛ أمثال: المخرج أحمد كامل مرسي، والمخرج والمؤلف والممثل سيد بدير، والناقد علي الراعي الذي عمل لفترة في الإخراج الإذاعي. كما شهد البرنامج الثاني (إذاعة البرنامج الثقافي الآن) بالإذاعة المصرية مرحلة مهمة للغاية كان فيها قلعة من قلاع الدراما والإنتاج المسرحي المؤذع، وعمل به نجوم أمثال: الفنان محمود مرسي الذي ترك ميراثا كبيرا من المسرحيات الإذاعية، والكاتب بهاء طاهر الذي عمل مخرجًا إذاعيا ومؤلفًا في العديد من المحطات الإذاعية في الستينيات من القرن العشرين، وأيضا المترجم والمخرج الشريف خاطر، وما زال “البرنامج الثقافي” محطة مهمة من محطات الإنتاج الدرامي المتخصص والمميز، ويأتي علي رأس ذلك الدراما الإذاعية المسرحية.
 أضاف مطاوع: «ساعد التأذيع المسرحي على تنمية الخيال الذي هو أهم وأثمن من المعرفة، حيث يسهل تكوين قاعدة معرفية من خلال التزود بشتى مقومات التثقيف والنهل من منابع العلوم المختلفة، بينما الخيال هبة إلهية عظيمة علينا أن ننميها ونعظم من شأنها لأننا بالخيال وحده سنتمكن من العبور فوق قبح وحماقة الواقع الأليم الذي نعيشه، والذي يشهد على ضمور منابع الخيال لدى إنسان هذا العصر الذي أصبح مستعبدا من قبل “الصورة” التي أحالته إلى مجرد متلق سلبي لا دخل له بأي إبداع ولا أي خلق، مع أن الإنسان بطبعه جبل على المحاكاة والتخيل منذ بداية وجوده علي ظهر الأرض.

استلهام الفكرة
وقال محمد إسماعيل مدير عام إذاعة البرنامج الثقافي: «بدأ البرنامج عام 1957 باسم إذاعة البرنامج الثاني، وقدم هذه الفكرة الإذاعي الرائد سعد لبيب بعد بزيارته لانجلترا، وكان عام 1957 عاما مميزا بالنسبة لمصر، كان هناك زخم تعليمي وثقافي وحملة تنويرية لها صدى فى الوسط الثقافي، فكانت هناك مجلات متعددة وافتتحت العديد من الجامعات، وعندما بدأت إذاعة البرنامج الثاني كان لها جمهور من المثقفين خاصة أنها كانت على نطاق الموجه المتوسطة وهي أوسع من موجة الإف إم الحالية 
وأضاف: «تعامل البرنامج الثقافي مع الدراما مبكرا وكانت أول مسرحية قدمت فى إذاعة البرنامج الثاني هى «الخروج من الجنة» لتوفيق الحكيم إعداد وإخراج المخرج الإذاعي يوسف الحطاب وأصبحت إذاعة البرنامج الثقافي منصة مهمة لتقديم الأعمال المسرحية والدرامية وخاصة المسرحيات الكلاسيكية من المسرح اليوناني والعالمي وكانت هذه الأعمال تلقى استحسان وقبول الجماهير والطلبة في الكليات والمعاهد التى تتعامل مع المسرح . 
واستطرد: «كانت حركة المسرح المصري فى هذا الوقت وطوال فترة الستينيات مزدهرة للغاية وكانت مسارح مصر تفتتح بشكل متوازي وعلى رأسها المسرح القومي وكان البرنامج الثقافى أحد المنصات الهامة لتقديم المسرحيات العالمية فى ذلك الوقت، وتطور الأمر فى أواخر الستينيات وأصبحت هناك سهرات درامية تكتب خصيصا للبرنامج الثقافى وكان القائمون عليها أسماء بارزة فى عالم المسرح والسينما آنذاك ومنهم الفنان القدير محمود مرسى والفنان محمد توفيق والفنان عزت العلايلى 
وتابع: «الدراما الإذاعية يتم إخراجها فى استوديوهات الإذاعة، والتمثيل كان أمام الميكروفون وكان يسبق ذلك أحيانا بروفات قراءة وكانت هناك أشكال مختلفة لتقديم الدراما الإذاعية، المسرحيات الطويلة والكلاسيكية مدتها تتجاوز الثلاث ساعات، وشكل من أشكال الدراما كان تقديم الدراما ممزوجة ببعض الفقرات الأخرى بالإضافة إلى السهرات الدرامية التي تكتب خصيصا للبرنامج الثقافي فيما لا تزيد مدتها عن ساعة. .
البرنامج الثقافي 
فيما أشار معتز العجمي مقدم برامج بإذاعة البرنامج الثقافي إن الدراما الإذاعية أقدم ما قدمه البرنامج الثقافي، حيث كانت تبث الأوبريتات الغنائية والمسلسلات والسباعيات قبل المسرح الإذاعي الذي خصص فى البرنامج الثاني الذي أنشئ عام 1957، وأوضح أن تراجع تقديم المسرحيات الإذاعية مرتبط ارتباطا وثيقا بتطور الوسيلة التكنولوجية فكل وسيلة تظهر تحدث تراجعا للوسيلة التي تسبقها. أضاف: المسرح الإذاعي كان هدفه تقديم الأعمال العالمية بشكل أكثر سهولة ويسر للمستمع العربي فى هذه الفترة، لرجل الشارع العادي والإنسان البسيط، فالمناحي الثقافية والعلمية لم تعد مقصورة على النخبة وأساتذة الجامعات، وكان هناك اهتمام كبير بأعمال شكسبير وموليير والمسرح الإيطالي وغيرها . 
تابع: «وعقب فترة الستينيات وبعد الانفتاح أصبح الفن فى طريقة للانحدار لتعاملنا مع قيم أكثر مادية بعيدا عن فكرة الثقافة الحقيقية، والإذاعة غير مسئولة عن هذا الأمر». 

إشكالية التمويل 
فيما قالت الإذاعية والمؤلفة د. ناهد: «انتشرت المسرحية الإذاعية انتشارا واسعا فترة ازدهار المسرح المصري، وتصارع الممثلين الكبار على تقديم المسرحيات الإذاعية أمثال صلاح منصور، محمود مرسى، سناء جميل، وذلك منذ بداية إذاعة البرنامج الثاني، ثم تراجعت الدراما الإذاعية بسبب تراجع التمويل الخاص بهذه الأعمال مع تراجع الأجور الخاصة بالمخرجين والمؤلفين والممثلين، ولا نستطيع أن نقول أن تراجع المسرح الإذاعي بسبب عدم الإقبال عليه وهناك صفحات مخصصة على مواقع التواصل الاجتماعي تعيد تقديم ما كان يقدمه البرنامج الثاني من أعمال مسرحية وهناك إقبال كبير من الجماهير، وقد قدمت تجربة بعنوان «الثعلب» لبيل جونسون وحققت ما يقرب من 71 ألف مشاهدة على اليوتيوب وقام اتحاد الإذاعة والتلفزيون بتسجيلها ورفعها مع روائع الأعمال العالمية الأخرى وهناك إقبال شديد عليها .
اللعبة الإذاعية
وذكر المخرج الإذاعي ياسر زهدي أن البرنامج الثقافي أعطى اهتماما كبيرا للمسرح فكانت المسرحيات تنقل وتبث وتقرأ الإرشادات المسرحية عن طريق «راوي»، وكانت الإذاعة لها السبق فى تقديم المسرحيات المترجمة وكان للإذاعة ترجمتها الخاصة، بخلاف سلسلة المسرح العالمي التى تصدر من الكويت، وهو ما حقق حراكا ثقافيا ومسرحيا كبيرا فى هذه الفترة، وقد تراجع تقديم الإنتاج المسرحى والدرامي بالإذاعة بسبب ظروف الإنتاج، وعن تجربته بالمسرح الإذاعي قال: قدمنا سلسلة مسرحيات عالمية معدة للإذاعة وقد قمت بتحويل النص المسرحى لشكل إذاعي وذلك على طريقة بيراندالو أوما يعرف بطريقة كشف اللعبة المسرحية، حيث يقوم اثنان من المذيعين بتذكر مسرحية فى إطار تمثيلي.

ثلاث مفردات أساسية 
و قال المخرج الإذاعي هشام محب تختلف مفردات المسرح الإذاعي عن العرض المسرحى، فالمخرج المسرحى يعتمد على الإضاءة والديكور والحركة والإكسسوارات، ولكن المسرح الإذاعي يعتمد على ثلاثة مفردات أساسية وهى الممثل، والمؤثرات الصوتية، والموسيقى وحركة المسرح الإذاعي التي تعتمد على قرب أو بعد الممثل عن الميكروفون. 

مشروع مسرحه المناهج 
وتحدث المخرج والمؤلف الإذاعي محمد توفيق عن تجربته فى الإذاعة التعليمية فقال: «قدمت للإذاعة التعليمية برنامج المسرح للجميع وكنا نقوم بتسجيل العروض المسرحية من المسرح نفسه، كنا نقوم بجولات متعددة لجميع الإدارات التعليمية وقمنا بتسجيل ما يقرب من 370 عرضا مسرحيا فى جميع المناطق التعليمية بالقاهرة الكبرى، ثم انتقلنا الى القرى والمحافظات ورغم ضيق الإمكانيات المادية والتقنية إلا أننا استطعنا تطوير البرنامج ليصبح خاصا بتبسيط المناهج التعلمية للشهادات المختلفة، وقد بدأنا هذا البرنامج منذ 1993 حتى عام 2010 وعند خروج المذيعة للامعه نبيلة جمال كبير مقدمي البرامج الإذاعية توقف البرنامج، واتجهت بعدها لتقديم المسلسلات الإذاعية والسهرات

كبار الكتاب العالميين 
وبنظرة تاريخية سريعة قال د.عصام أبو العلا: قدمت دراسة تحمل عنوان «الدراما الإذاعية العالمية» وفيها أن ال بى بى سى تقدم  من 2000 وحتى 3000 مسرحية سنويا وتستقطب كبار كتاب الدراما أمثال بينتر، وبكيت، وبريخت» وهناك نماذج مسرحية لكبار الكتاب الغربيين قدموا دراما مخصصة للإذاعة. وأن أهمية الدراما الإذاعية تكمن فى أن المسرح يحدد بعدد معين من الجمهور، ولكن بمجرد إذاعة مسرحية عبر أثير يتاح لـ  500 مليون مواطن الاستماع لها، وخير دليل على ذلك إذاعة صوت العرب التى من خلالها استطعنا تصدير الكثير من الفكر والثقافة للشعوب العربية، وتابع قائلا: «المسرحية الإذاعية تكلفتها قليلة، فالممثل يستطيع من خلال المسرحية الإذاعية أن يقدم أكثر من شخصية،وكان لى تجربة في الدراما الإذاعية بعنوان « فردوس الشرق» حيث  كانت تكلفتها الإنتاجية عبر التلفزيون باهظة، وهو ما شجعني على أن أقدمها في الإذاعة.


رنا رأفت