العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (1) اللقاء الأول في باريس عام 1889

العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (1) اللقاء الأول في باريس عام 1889

العدد 732 صدر بتاريخ 6سبتمبر2021

منذ فترة كبيرة وأنا أفكر جدياً في كتابة هذا الموضوع، وما جعلني أتحمس له الآن الإعلان الرئاسي بأن عام 2021 – 2022 هو عام الثقافة المصرية التونسية. ووفقاً لأسلوبي ومنهجي في التأريخ – المعتمد على الجديد والمكتشف – سأحاول عدم تكرار ما هو معروف ومنشور في الكتابات السابقة، إلا في حالة وجود تفاصيل مجهولة أو غير معروفة لأغلبنا، والهدف من ذلك هو تكوين قاعدة معرفية لتفاصيل كثيرة في العلاقات المسرحية الفنية المصرية التونسية، ليبني عليها الباحثون مستقبلاً كتابات جديدة، توضح ما استغلق على البعض فهمه أو توضيحه أو تفسيره أو تأريخه. وربما تفتح هذه المعلومات والأفكار آفاقاً جديدة في البحوث المسرحية والفنية، بغية إعادة كتابة تاريخ العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس بصورة دقيقة وفقاً لما سأورده في هذه المقالات من تفاصيل ومعلومات.
معرض باريس
في عام 1889 أرسل البريطاني «سيمور واد Seymour Wade» خطاباً إلى «سليمان القرداحي» صاحب الفرقة المسرحية، يطلب منه تجهيز فرقة فنية والحضور بها إلى باريس لتقديم عروضها إلى أهالي باريس وزوار المعرض العالمي «إكسبو»، بمناسبة افتتاح «برج إيفيل» للجمهور ولأول مرة. وهذا المتعهد عندما اختار سليمان القرداحي، اختاره لأنه مدير فرقة الأوبرا الخديوية، ولفظة «الخديوية» مهمة جداً في الإعلانات والدعاية، لأن الجمهور الفرنسي سيهرع لرؤية فرقة الخديوي حاكم مصر!! وبناءً على ذلك جمع القرداحي فرقته المسرحية، وبدأ في تدريبها وتجهيزها لتكون واجهة مشرفة لمصر وسط جماهير العالم في باريس التي ستأتي لرؤيتها.
كانت المفاجأة صادمة بعد أن جهزّ القرداحي فرقته المسرحية واستعد للسفر! فقد أرسل القرداحي للمتعهد أسماء أعضاء فرقته وعمل كل واحد فيها.. إلخ، فردّ المتعهد على القرداحي بأنه لا يريد فرقة مسرحية بل يريد فرقة شعبية تعرض التراث المصري وفنونه الشعبية!! وبناءً على ذلك تخلى القرداحي عن فرقته، أو بمعنى أوضح تهرّب منها، وبدأ يبحث في الحواري والأزقة والموالد والساحات عن أصحاب الفنون الشعبية، مثل: الرقص الشرقي، والتحطيب، والمبارزة بالسيف، والمصارعة، والعزف على العود والرق والطبال، والقرداتي، وأصحاب خيال الظل، والقرداتية .. إلخ! وسافرت الفرقة المتكونة من ثلاثين فرداً إلى باريس.
ولأول مرة شاهد أهالي باريس ملصقاً إعلانياً ملوناً معلقاً على الجدران عن فرقة فنية مصرية؛ مرسوم عليه امرأة شرقية ترقص بالسيف العربي، وترتدي ملابس شرقية فاتنة، وشعرها يتطاير، وكأنها إحدى بطلات ألف ليلة وليلة. وفي أسفل الإعلان صورة صغيرة لرجلين يتبارزان بالسيف والدرع. وفي أعلى الإعلان صورة صغيرة لأبي الهول والأهرامات. أما العبارات المكتوبة، فهي اسم الفرقة المصرية المتكونة من: الراقصين والمغنيين والمصارعين والمبارزين بقيادة سليمان القرداحي. أما أهم عبارة مكتوبة وبالخط الكبير - إن الفرقة - هي فرقة الأوبرا الخديوية!
وبدأت الصحف الفرنسية تتحدث عن الفرقة، ومنها جريدة «LE MENESTREL»، التي نشرت – في سبتمبر 1889 – وصفاً مسهباً، أبانت فيه إن فرقة الأوبرا الخديوية تشتمل على أربعة عازفين من النوبة في صعيد مصر، وثلاث فتيات مطربات، وأربع عازفات سودانيات، وثلاثة موسيقيين من القاهرة. كما تشتمل الفرقة على ست راقصات جميلات مصريات، مثل شوق أفندي، وهانم أفندي. وثلاثة مصارعين، والمغنية الشهيرة زينب، والمغني الشهير الشيخ علي عثمان. وجاء في أحد الكتب المنشورة بالفرنسية وقتذاك أن الإقبال الجماهيري على رؤية الفنون المصرية الشعبية كان كبيراً جداً، وسعر تذكرة الجلوس خمسة فرنكات، وسعر تذكرة الجلوس على الأرض فرنكين، أما سعر الوقوف على الأطراف فكان بفرنك واحد! وكانت الفرقة تُقدم أربعة عروض في اليوم الواحد، على فترتين – نهاراً ومساءً - لمدة ثماني ساعات.
هذه إطلالة سريعة عن أول فرقة فنية شعبية مصرية تعرض فنونها في باريس عام 1889، حيث سيصدر كتاب خاص عن هذه الرحلة قريباً! ولعل القارئ الآن سيسألني: ما علاقة هذه الفرقة المصرية بالعلاقات التونسية؟ وأين تونس في هذا الموضوع؟! هنا يأتي دوري في كشف النقاب عن أول عروض فنية شعبية تونسية يتم عرضها في باريس عام 1889، وفي المناسبة نفسها وفي المعرض نفسه المتواجدة فيه الفرقة المصرية!! ومن المؤكد أن حدث امتزاج أو تبادل ثقافي وفني بين الفرقتين، أو على الأقل حدثت مشاهدات متبادلة بين فنون كل فرقة وأخرى، لأن أغلب العروض كانت تُقام في شارع القاهرة، وهو شارع تم بناؤه في المعرض ليكون خاصاً بالعروض الفنية من جميع الدول الإفريقية لزوار المعرض!! وهذا الاكتشاف لم يتطرق إليه أحد من قبل – حسب ظني – لا سيما وجود فرقة جزائرية وأخرى مغربية ضمن الفرق الفنية الشعبية المشاركة في هذا المعرض وفي هذه المناسبة، التي جمعت جميع الفرق الشعبية في أغلب – إن لم يكن في جميع – دول أفريقيا في هذا العام! وأظن أن هذا التجمع كان مقصوداً من قبل علماء الأنثربولوجيا لدراسة الأجناس الأفريقية وفنونهم الشعبية التراثية لأغراض علمية أو استعمارية أو سياسية!
وعلى الرغم من أن اهتمامي سابقاً، كان متجهاً نحو الفرقة المصرية – حيث كتبت عنها من قبل - إلا أنني رجعت إلى مصادري في هذا الموضوع مرة أخرى لاستخرج منه فحوى العروض والمعلومات المتعلقة بالفرق التونسية والجزائرية والمغربية، لأن الكلام عنهم كان متداخلاً ومختلطاً، وإليك ما توصلت إليه في هذا الموضوع الخاص بالعروض الفنية الشعبية لبلاد المغرب العربي عام 1889 في باريس.
الحفلة التونسية
من خلال الكتاب المنشور بالفرنسية والوحيد الذي تناول جميع الأخبار حول معرض إكسبو بباريس عام 1889، وتحدث عن العروض الفنية، أقول: إنني وجدت عنوناً جانبياً يقول «حفلة التونسية فاطمة الجميلة»! وفهمت من الموضوع أن المعرض لم يوفر مكاناً متسعاً للعروض الفنية الغريبة، ورغم ذلك وجد المؤلف مسرحاً تونسياً صغيراً، وكان متفرداً في نوعه! ومن وجهة نظري أرى أنه يقصد مكاناً لتقديم الفنون، ولم يقصد مسرحاً بالمفهوم الحديث؛ لأنه عندما وصفه من الداخل قال: 
«وكان الأوركسترا الذي يعزف فيه فقيراً جداً، يقوده رجل جزائري ضخم، وله ابنة جميلة ولطيفة، على عكس والدها المشهور بـ«مارد سوسة». ويوم أراد المارد أن يضفي نوعاً من التجديد على عرضه، فكر في استغلال ابنته التي أدت رقصة عشوائية وبدائية مقلدة رقصة البطن التي رأتها في الجزائر. ولكنها مع ذلك لاقت نجاحاً فائقاً. وأمطرها الجمهور بالنقود والقبلات. فاستمرت حتى آخر المعرض في عرضها هذا أكثر من مرة في اليوم. وكان اسمها وهي طفلة «راشيل بنت عيني»، وأصبحت عندما شبت «فاطمة الجميلة»! وفاطمة الجميلة لم يكن بوسعها أن تتخلف عن معرض 1889، حيث كان نجاحها مؤكداً مسبقاً. وكانت فاطمة تقدم رقصاتها في أكثر من مكان في اليوم الواحد، وهذا دليل على أن رقصاتها تطورت ولم تعد عشوائية كما في السابق. ولقد رأيناها منذ الأيام الأول من شهر يونيو على المسرح الكبير في المعرض، تعرض رقصاتها قبل عرض غجريات غرناطة ممن تأتين لتقدمن استعراضاتهن الصاخبة. وكانت فاطمة تنتقل من هناك إلى إحدى الخيمتين المغربيتين في شارع القاهرة، ثم تستقر بجانب الغجر في ركن من البازار الذي يتوسطه المسرح الكبير. فهناك رأيتها في ذلك المبنى الصغير المسمى بالحفلة التونسية. وعلى الرغم من أن قاعته مفروشة كلها بالسجاد إلا أنها ظلت متواضعة لا تتسع إلا بالكاد لخمسين متفرج، يجلس بعضهم على مقاعد غير مريحة. والدخول إليها عن طريق باب ضيق يؤدي مباشرة إلى الخشبة التي كانت عبارة عن منصة خشبية مفروشة بالسجاد، تتسع لكل أفراد الفرقة. وفي الآخر يوجد شيء على هيئة عرش يرتفع على درجتين ومرايا كبيرة تقف خلفها فاطمة حاملة دربكة، تخبط عليها بيديها الرقيقتين. وعلى شمالها ترى والدها جالسا القرفصاء تحتها يعزف بعنف على آلة تشبه الفيولونسيل. ويجلس بجانبه زنجي يضرب على طبلة وسيدة أخرى بيديها دربكة. وعلى يمين فاطمة تجلس عجوز بيدها طبلة وثلاث راقصات تمسكن كل واحدة بدربكة. وأخيراً يوجد أسفل المنصة بيانو تعزف عليه امرأة تونسية من ضاحية «الباتينيول» يفصح عن ذلك لهجتها التي تدل على طول مخالطتها للباريسيين. أما الأسعار فهي: فرنك واحد للمدنيين والعسكريين وجليسات الأطفال، والعرض يستغرق اثنتي عشرة دقيقة، ويتكون من: «رقصة جزائرية» التي كانت عبارة عن رقصة بطن رديئة، و«رقصة شركسية»، و«رقصة بالسيف»، أخيراً «رقصة تونسية» تؤديها «فاطمة الجميلة».
مسرح السوق التونسي
وتحت عنوان «حفلة السوق التونسية»، وجدت المؤلف يصف مسرحاً أو مكاناً في السوق التونسي بالمعرض، يقدم فنوناً غنائية ورقصات البطن المبتذلة المقدمة من العوالم! وتعجب المؤلف عندما وجد هذه الرقصات تُقدم بمصاحبة موسيقى بيانو أوروبي تُعزف عليه موسيقى عربية لتفقد طابعها وهويتها. والعازف الذي يعزف اسمه «ينيني سمامة» وهو يهودي عربي وصاحب المكان! وأثناء إقامة المعرض أصيب هذا العازف بمرض ومات!! ومن الواضح أن المؤلف كان شامتاً في موته، الذي برره بأنه انتقام السماء من عزفه الرديء، وما تقدمة الراقصات من رقصة البطن المبتذلة، فوجدناه يتتبع أخبار هذا المكان، وأخبرنا بأن جميع مقتنياته الخاصة بيعت في المزاد العلني! وأخذ المؤلف يصف هذه المقتنيات، وهي: ستة دواوين، ويقصد بها الكنبات كبيرة الحجم أو مجموعة صالونات للجلوس مغطاة بالقماش التركي ومزودة بوسائد عديدة، وثلاثون فانوساً ملوناً للإضاءة، وخيم باهتة الألوان، ومجموعة أعلام، ومناضد ومقاعد ومرايا .. إلخ، وبيعت هذه المقتنيات جميعها بثمن بخس 1350 فرنكاً.
الفرسان العرب
كما وجدت في الكتاب وصفاً مهماً حول فانتازيا الفرسان العرب، قال عنه المؤلف: هو استعراض مبهر يؤديه الفرسان كل يوم في ميدان مكون من واجهات أول مبان جزائرية نقابلها من ناحية باب المرسى داخل المعرض. فهناك يقوم تسعة فرسان من الشباب التونسي باستعراض رائع، ولكنه لم يستمر طويلا للأسف. فقد كاد الحنين الى الوطن يعصف بهؤلاء الشباب الذين أصروا على العودة إلى الوطن. وفي هذا الميدان أيضاً في بعض ساعات من النهار وفي كل المساء تقريباً، كانت تجتمع فرقة النوبة الجزائرية، أي موسيقى القناصة الجزائريين بآلاتهم ذات الصوت الصاخب. ويرجع نجاح هذه الفرقة إلى فضول الجمهور وليس للفن البدائي الذي يقدمونه. ولكن كان هناك عرض متفرد من حيث الطرافة والتجديد والفخامة الشرقية. فقد كان موكب تنين فيتنام الذي عرض يوم الثلاثاء من كل أسبوع على مدى أربعة أسابيع، ولا أعلم من الذي نظم هذا الموكب المدهش والذي يصعب أن يتكرر. وأيا كان فهو فنان ماهر يستحق كل الثناء الذي أحاط به. فلنتخيل أن كل الساحة بأرضياتها ونافورتها ومبانيها كانت مضاءة ويتكون ذلك الموكب من موسيقى عربية يليها تسعة فرسان على الأحصنة، أربعة منهم من شمال أفريقيا، وخمسة من السنغال، وفرقة من التونسيين والجزائريين من حملة الرايات، ومشاة الإنكشارية، ثم نوبة القناصة الجزائريين في عربة ويليهم ممثلو المسرح الفيتنامي في ملابسهم الفاخرة، ثم العوالم من كل الفرق التونسية والجزائرية والمغربية، ثم السنغاليات وأخيرا الراقصات الجاويات باسمات الثغر دائماً. ثم تمر بعد ذلك بعض النساء محمولات في هودج، ثم نساء كاليدونيا الجديدة يرتدين أقنعة الحرب المخيفة والبشعة، وزنوج الجابون والكونغو بموسيقاهم، وأخيراً يختتم الموكب بالتنين الفيتنامي الكبير محاط بكهنته وخدامه. ويمر هذا الموكب الكبير بين صفين من حملة الكشافات والفوانيس وتعزف كل أنواع الموسيقي في آن واحد محدثة شيئاً من النشاز المنغم. كل ذلك في يم لجيني من الأضواء والألعاب النارية التي تبدو وكأنها تشعل الأشجار والغابات. لقد كان هذا المشهد فريداً من نوعه وساحراً وغير مسبوق.
ترجمة الكتاب
وبناء على ما سبق يتضح لنا أن علاقات فنية تمت بين مصر وتونس – بالإضافة إلى الجزائر والمغرب – عام 1889، حيث قدم الجميع فنونهم الشعبية في شارع القاهرة داخل معرض إكسبو في باريس. ولعل الأصدقاء في بلاد المغرب العربي، لاحظوا أهمية وقيمة ما عرضته في هذه المقالة معتمداً فيها على مصدر مهم ونادر وهو الكتاب المنشور بالفرنسية عن تفاصيل هذا المعرض! ولأنني اعتمدت على ترجمة أجزاء من هذا الكتاب، قام بها أحد الزملاء، فمن المؤكد أن الأصدقاء في تونس والجزائر والمغرب، من المتخصصين ستكون ترجمتهم أفضل وأهم، ومن المؤكد أنهم سيصلون إلى أمور لم أصل إليها!! ولهذا أقدم لهم من الآن اسم هذا الكتاب الذي لم يُترجم إلى العربية حتى الآن!! فهنيئاً لمن سيترجمه ويكون له فضل السبق في اكتشاف الفنانين الأوائل في تونس والمغرب والجزائر ومعرفة أسمائهم وأعمالهم وأنشطتهم الموثقة في شارع القاهرة بمعرض إكسبو بباريس عام 1889، واسم الكتاب هو: « LE THÉATRE A L’EXPOSITION UNIVERSELLE DE 1889»


سيد علي إسماعيل