انطباعاتي حول عروض إقليم القاهرة الكبري التميز في عروض بني سويف والفيوم و«قضية أنوف» ظلم

انطباعاتي حول عروض إقليم القاهرة الكبري التميز في عروض بني سويف والفيوم و«قضية أنوف» ظلم

العدد 609 صدر بتاريخ 29أبريل2019

شاهدت 11 عرضا مسرحيا في إقليم القاهرة الكبرى أميزها عروض بني سويف «حكاية سعيد الوزان» تأليف إبراهيم الحسيني وإخراج أسامة محمود، وعرض «رصد خان» تأليف محمد علي إبراهيم وإخراج حمدي طلبة، وعروض الفيوم «قضية أنوف» تأليف ماروشا بلالتا إخراج عزت زين، و»طقوس الإشارات والتحولات» لسعد الله ونوس ومن إخراج سامح الحضري. وأخيرا، الجيزة التي شاركت بعرض «زواج فيجارو» لبومارشيه إخراج عمرو حسان. ومعظم هذه العروض أمتعتني فنا وبعضها فنا وفكرا خاصة عرضي بني سويف فلم أتمكن من مشاهدة عرض الفيوم «طقوس الإشارات والتحولات» لوجودي بجامعة المنصورة ضمن لجنة تحكيم العروض المسرحية الطويلة.
وسأقف طويلا أمام تجربة نوعية متميزة قدمت على شاطئ أعرض مناطق نهر النيل ببني سويف، وهي تنتمي للبيئة ومفردات الثقافة السائدة في مجتمع العرض، فالعرض يقام على مسطبة لم تعد خصيصا للعرض وهي غير ممهدة تعبر تعاريجها عن أنماط الحياة الريفية بما فيها من تلقائية وشدة يلتف حولها الجمهور كما يلتف حول أشكال الأداء الشعبي ليمارس فرجة تتحرر من كل القيود.
والعرض يقدم موضوعا دينيا أخلاقيا نابعا من ثقافة هذا المجتمع كتبه المؤلف الموهوب الذي حصد الكثير من الجوائز المحلية والدولية، فخر قسم الدراما والنقد المسرحي الذي أشرف برئاسته، الكاتب إبراهيم الحسيني الذي عالج بذكاء ووعي قصة دينية نسمعها في خطب الجمعة كثيرا تحكي عن رجل قتل مائة رجل وحين طلب التوبة بصدق وعمق قبلت توبته، ولكن الكاتب هنا يركز على رحلة البطل من الجهل إلى المعرفة من الحياة الأرضية للسمو الصوفي في مقاربة استدعت إلى ذهني حكاية ابن عروس ونص الكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس «طقوس الإشارات والتحولات»، وهذا يؤكد على أن إبراهيم الحسيني قدم تحليلا عميقا لتحولات البطل ورحلته التطهيرية التي بدأت حين قابل رجل المعرفة الذي يمثل خطرا على أصحاب المصلحة في انتشار الجهل، لتنتهي بنص التوبة الذي ينتهي بدوره بعلامة القبول حين يرفع البطل بعد أن لفظ أنفاسه علامة التوحيد.
والمخرج استطاع بعناصره الفنية أن يدمج البيئة في المسرح والمسرح في البيئة في تناسج لافت للنظر، فوظف المنشد ولاعب الأراجوز وراقص التنورة والجوقة المنشدة الراقصة، وسينوغرافيا البيئة تتخللها بعض قطع الديكور محدودة التكاليف والملابس التي تدمج بين الزي الأسطوري والزي المحلي في مناخ بديع وممتع لم يزعجني فيه سوى لسعات الناموس الذي حاول أن يسلبني متعتي دون جدوى.
وإذا انتقلت إلى عرض «قضية أنوف» فسأجد نفسي في فرجة من طراز مسرحي عالمي لا يقطع الصلة بمجتمع الفرجة، فالقضية هنا هي قضية الانقسام وتفتيت المجتمع التي تصاغ في إطار كوميدي خيالي لا معقول يشير للغباء والجهل والتعصب والحرب الأهلية بين أصحاب الأنوف الطويلة وأصحاب الأنوف المفلطحة، مما يتسبب في عداء لا معنى له يعكس صور الفساد الإداري والنفسي والأخلاقي وهي قضية مجتمعات عربية كثيرة سقطت أو كادت تسقط في الوحل.
والجميل في العرض أن المخرج لم يعتمد المباشرة وركز على الإطار الخيالي الكوميدي غير المعقول ونجح في تحريك كم كبير من الممثلين وعالج جغرافية المكان بذكاء، فتنقل بنا من المؤسسة إلى المنزل ثم إلى الشارع ثم المقهى ثم الجسر بخبرة تحسب له، واستطاع أن يوظف عناصر الصورة إضاءة وملابس وإكسسوارا بشكل تعبيري ساخر وربط المتلقي بالدراما ولم يفلته، وكذلك أكد ببساطة على أن الخلاف ساذج بل وغبي وأن هناك من يلعبون على الجانبين من المنافقين الذين يظهرون أحيانا مع أصحاب الأنوف الطويلة وهم أنفسهم في مشاهد أخرى يظهرون مع أصحاب الأنوف المفلطحة. وكم أنا حزين لعدم تصعيد العرض رغم أن ثلثي اللجنة أعطوه تقديرا يضمن له الصعود للمهرجان الختامي. وأتمنى من القائمين على المسرح في الثقافة الجماهيرية أن يحسنوا في السنوات المقبلة اختيار أعضاء لجان المشاهدة وأن يقصروا اختيارتهم على المسرحيين ولا داعي للمدعين والدخلاء وعديمي الخبرة.
وفي بني سويف كان موعد آخر مع المتعة وقد طاردني الناموس فتسلل لمسرح قصر الثقافة ليفسد متعتي مرة أخرى، وفشل أيضا مرة أخرى، فقد كان العرض جميلا ممتعا أخاذا خصوصا أن النص مميز وقوي وهو نص «رصد خان» الذي يدور في عوالم اللغز والجريمة، والذي يحركه الشيطان في اختبار مخيف للنفس الإنسانية وخطايا الجشع والطمع والأنانية والغيرة والزنى والخيانة والسرقة والقتل في لعبة الكراسي الموسيقية التي يقودها اللغز الجداري ويعزف له الشيطان موسيقى لعبة الموت من أجل صعود الكنز من الأراضين السفلى ليطفو على السطح، ولكن هل يجدي كنز الكنوز لمن أصبح طعاما لدود الأرض؟
كان العرض مفعما بجودة الأداء التمثيلي في تجسيد عوالم الشهوة والوقوع في أسر اللغز الذي يجعلك في حالة من الترقب الدائم الذي يتلاعب بأفق التوقع ويأخذك من ذروة إلى ذروة جديدة ومن عقدة إلى عقدة جديدة ببراعة.. نعم الأداء التمثيلي هو البطل فيها، فقد فهم الممثلون طبيعة أدوارهم بعمق فأجادوا في تجسيدها ويرجع الفضل في هذا للمخرج الذي جعل حالة الزلزلة وحضور الشياطين فاصلا أساسيا بين مباريات التمثيل، وأيضا اختار ملابس تنتمي للزمن الأسطوري وخلطه مع زمن الخان غير المحدد بشكل قاطع.
وفي مسرح لم أدخله من قبل بالسادس من أكتوبر توقفت أمام تجربة عمرو حسان لتقديم «زواج فيجارو» في عرض جميل رشيق ممتع للمتخصصين وشباب المسرح، ولكنه وضعني في مأزق شديد وطرح على ذهني سؤالا مربكا: ماذا يعنينا نحن في قضية فرنسية محلية في القرن السابع عشر والثامن عشر وهي قضية حق الليلة الأولى التي كان يتمتع بها الإقطاعي الذي يملك الأرض ومن عليها؟ وإذا كان المخرج قد قام بحذف المونولوج الذي كان سر شهرة النص، وإذا كان قد تنازل في مشهد الأكشاك الشهير عن كوميديا الأخطاء أميز ما فيه، فماذا تبقى غير أخطاء شروبان وهي الأبرز في العرض لخفة دم الممثل الكوميديان الذي انتزع الضحكات من المتلقي ومطاردات الكونت له وحيل فيجارو وجودة الممثلين التي عابها سوء الغناء الذي أدى إلى نشاز واضح فلا هي أصوات جميلة ولا هي قادرة على الغناء بهارمونيات سليمة، وأرى أن فريق التمثيل ظلم الملحن وأفسد عمله والحسنة الحقيقية للعرض وسر جماله وتميزه هو طاقة الضحك للضحك، فالقضية كما قلت لا تعنينا وغير مفهومة في مجتمعنا.
تلك هي العروض التي أمتعتني فيما شاهدت في إقليم القاهرة الكبرى، وقد فاتني عرض «طقوس الإشارات والتحولات» بالفيوم، الذي أثق في تميزه لثقتي في الناقد المخضرم الصديق أحمد خميس. وأوصي بدعم المواقع الأخرى للوصول لمستوى العروض السابقة ودراسة مشكلات هذه المواقع وهي كثيرة على رأسها سوء بعض أماكن العرض وفقر إمكانياتها والتدريب.

 


مصطفى سليم