«فـــــــــــريــــــــــــــــــــدة».. مونودراما إنسانية تطرح تساؤلات وجودية

«فـــــــــــريــــــــــــــــــــدة».. مونودراما إنسانية تطرح تساؤلات وجودية

العدد 732 صدر بتاريخ 6سبتمبر2021

عدة خطوط متوازية ومتقاطعة في ذات الوقت أمسك بها ببراعة الكاتب والمخرج أكرم مصطفى الذي أعد نصه «فريدة» عن رائعة «أغنية البجعة» لتشيكوف، الذي يُقدم بقاعة صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة، بطولة الفنانة عايدة فهمي، بداية من اشتغاله على نص لتشيكوف الطبيب الذي غاص في النفس البشرية وقضاياها الإنسانية، وعبر عنها ببراعة في كتاباته المختلفة سواء القصص القصيرة أو المسرحيات، وقد انحاز في أعماله للبسطاء والمهمشين، وقد اختار سيدة –على الرغم من أن شخصية النص لرجل ربما لأن المرأة ما زالت مهمشة في بعض المجتمعات أو الثقافات أو أكثر قدرة على تجسيد الشعور بالوحدة أو أكثر تأثرًا بها من الرجل أو أن عاطفتها جياشة أكثر- هذه المرأة أصبحت مهمشة بعد أن كانت ملكة متوجة على عرش الفن وخاصة المسرح أبو الفنون، وكان يستقبلها الوزراء والسفراء في كل مكان تزوره، ليعرض لنا ما آلت إليه حياة تلك السيدة في زمن بسيط لا يتعدى الساعة، فهي إنسانة تعاني الوحدة وتدفع ثمن اختيارها تتجرع مع مرارة معاناتها الخمر الذي يجلب لها الهلاوس، ويختار لنا ليلة من لياليها الطويلة لنقضيها معها في المسرح الذي تسللت بين كواليسه بعد انتهاء البروفة التي ألحت على المخرج كي تحضرها، فيغلبها النعاس على شازلونج مهمل، وحين تستيقظ تجد المسرح فارغًا من كل الناس باستثناء عمال الأمن الذين يطالبونها بالرحيل فور معرفتهم بوجودها، مستعينًا بأصوات أخرى دخيلة منها ما هو حقيقي «الصديقة إلهام» التي نستمع لصوتها عبر الهاتف المحمول، عمال الأمن الذين يطالبونها بالرحيل، وما هو متخيل «المخرج» الذي يقوم بتوجيهها. 
وما بين بداية هذه الليلة ونهايتها تستعيد ذكرياتها على خشبة المسرح فتجسد أهم الشخصيات التي قدمتها وهي ست شخصيات ثلاثة منهم من تراث المسرح هي: «ميديا» وهي الشخصية الرئيسية للمسرحية اليونانية التي تحمل الاسم نفسه تأليف يوروبيدس المأخوذة عن أسطورة «ياسون وميديا»، وميديا هي الأميرة السابقة لمملكة كولشيس «البربرية» التي تعاني بسبب ترك زوجها لها ليتزوج من أميرة كورنث اليونانية. فتقوم بقتل عروسته في ليلة الزفاف بواسطة فستان مسموم ترسله إليها ثم قتل أطفالها والهروب إلى أثينا، «ليدي ماكبث» لشكسبير التي حرضت زوجها على قتل الملك من أجل الاستيلاء على الحكم، «الماسة» في طقوس الإشارات والتحولات لسعد الله ونوس، وثلاث شخصيات من تأليفه هي: المتهمة بقتل زوجها وأبيها انتقاما من عنفهما الذكورى، المجنونة حبيسة مستشفى الأمراض العقلية، نعمة الفلاحة المشتاقة لحبيبها، وجميعها شخصيات مركبة وتتطلب ممثلة ذات مواصفات خاصة لتأديتها، بجانب شخصية فريدة السيدة المسنة محنية الظهر بطيئة الحركة والتي لا تجيد استخدام الهاتف المحمول كدليل على كونه اختراع جديد بالنسبة لها.
الخط الثاني هو اختيار الفنانة عايدة فهمي وهي الممثلة الأنسب والأقدر على القيام بتجسيد سبعة شخصيات في وقت واحد ببراعة فائقة، فتتنقل من شخصية إلى أخرى يفصل بينهما الشخصية الحقيقية «فريدة»، التي تتحول بفعل سحر المسرح الذي نعييه جيدًا من امرأة مسنة محنية الظهر بطيئة الخطوات إلى فتاة في قمة الشباب والحيوية، حين تقوم بفعل التمثيل الذي عشقته واختارت أن تحيا له من دون غيره من متع الحياة فلم تعش قصة حب ولم تتزوج وبالتالي لم تعرف الأمومة وانتهت حياتها التي كانت مليئة بالصخب إلى هذه الوحدة المميتة.
بدراستها وخبرتها الطويلة مع علم الصوتيات وتوظيفه وقدرتها على تنوع الآداء الصوتي الذي يجعل من يستمع فقط لها يؤكد أنه استمع لسبعة شخصيات مختلفة، بين فتاة صغيرة تعيش قصة حب، وسيدة ناضجة تتحدث العربية الفصحى، ومجنونة في حالة هياج، و.و.و.و.الخ الشخصيات.
ممثلة تمثل بكل كيانها: ملامح الوجه التي تتبدل لترى فتاة صغيرة وسيدة مسنة وامرأة يملؤها الحقد والغيرة وقاتلة تنتقم ممن أفسدوا حياتها بالعنف والقسوة......، تعبيرات العيون، حركة الجسد، تنوع الصوت، فمن من الممثلات غير القديرة عايدة فهمي تمتلك كل هذه المقومات معًا لتؤدي هذه الأدوار.
الخط الثالث هو استخدام بعض الجمل التي تشير إلى مدى عمق هذه التجربة  الإنسانية منها: ( كل حاجة في حياتي مكنتش بجد الحاجة الوحيدة اللي بجد هي التمثيل)، (ثمن الاختيار) فكل منا يدفع ثمن اختياراته، وهنا نجد سؤالاً يطرح نفسه بقوة هل لو كانت اختارت الحياة الأسرية كان المصير اختلف أم كانت ستصل إلى المصير نفسه بعد زواج الأبناء وانصرافهم إلى حياتهم ورحيل الزوج إلى انصرافه عنها إلى امرأة أخرى؟ أعتقد أن كل الحضور يطرحون هذا السؤال على أنفسهم، كذلك الاكتشاف المتأخر جدَا لخطابات المُحب التي كانت بداخل الصندوق مع كم خطابات المعجبين التي قامت بقراءتها بعد سنوات، هذه الخطابات هي الأخرى ربما لو جاء اكتشافها مبكرًا لربما اختلفت النهاية، كذلك النهاية التي اختارها للعرض فشخصية البطل في نص أغنية البجعة تموت في النهاية، لكنه فضل الموت المعنوي وهو الأصعب من الموت الجسدي، فالفن حياة وخروج الممثل من المسرح يمثل بالنسبة له خروج الروح من الجسد، كما أن هذا الخروج جاء طردًا من قبل عمال الأمن، 
كذلك الاستعانة بكشاف الموبايل لإلقاء الضوء على الوجه في بداية العرض وكأنه يقول سندخل معًا إلى عمق هذه الشخصية ونتعرف عليها.
 تصميم الديكور والإضاءة للفنان عمرو عبد الله اللذين توحدا معًا ليقولا نحن من صنع الشخص نفسه، فالإضاءة المنخفضة والصفراء تتشابك مع المرايا المغبرة والأشياء القديمة قدم زمن الشخصية التي جاءت من الماضي للحظات وذاهبة لمجهول.
الملابس أيضًا التي صممتها شيماء عبد العزيز -التي قامت بتنفيذ الديكور أيضًا- عبرت عن موديلات قديمة لم تعد موجودة الآن، موسيقى محمد حمدي رءوف جاءت متنوعة تمشيًا مع تنوع الشخصيات والمواقف.
في النهاية «فريدة» لم يكن مجرد عرض مسرحي بل تجربة إنسانية فلسفية تجعلنا 
نطرح تساؤلات وجودية عدة عن الحياة، الموت، الاختيارات، الماضي، الحاضر والمستقبل، مما دفعني لطرح سؤالاً قاسيًا على بطلته: ألم تخش نفس المصير؟ فقالت طبعًا ولذلك فأنا توحدت مع الشخصية وتعايشت معها فخرجت بهذا الشكل.


نور الهدى عبد المنعم