مكانة الدراما في فكر ما بعد الحداثة

مكانة الدراما في فكر ما بعد الحداثة

العدد 726 صدر بتاريخ 26يوليو2021

  يلعب المسرح والدراما  دورا محوريا في كثير من التعليقات النقدية علي ما بعد الحداثة Postmodernism (كتاب جان فرنسوا ليوتار Jean-Francois Lyotard« حالة ما بعد الحداثة The postmodern condition “، أو كتاب ديفيد هارفي David Harvey «وضع ما بعد الحداثة The condition of postmodernism“، أو كتاب جان بودريار Jean Baudrillard “المحاكاة Simulation“) . ويقدم ( إيهاب حسن ) قائمة طويلة من الفنانين في مختلف الفروع العلمية، والذين تلخص أسماؤهم ما بعد الحداثة في رأيه، ومنهم، رغم ذلك، بضعة أسماء من كتاب المسرح في هذه القائمة :بيكيت  Beckett، ويونسكو Ionesco، وبنتر Pinter و هاندكهHandke ، وبرنارت Bernhardt، وشيبرد ٍShepard، وولسونWilson، ككتاب مسرح أمريكيين. ولم تقدم التفكيكية وما بعد البنيوية الفرنسية نتائج مختلفة. إذ أشار ( جاك دريدا Jacques Derrida) باختصار إلى مسرح القسوة و أنطونين أرتوAntonin Artaud، وناقش ( رولان بارثRoland Barthe ) مسرح البونراكو (أو مسرح العرائس الياباني) ومسرح بريخت بشكل رئيس . وبشكل عام، كما يؤكد كريستوفر بيجسبيChristopher Bigsby  أن «المسرح نال اهتماما قليلا من المنظرين الكبار أو من أولئك الذين تبنوا نظريات“. 
     وفي دراسته الحديثة «كتاب المسرح الأمريكي المعاصر Contemporary American Playwrights” يضع بيجسبي  فقدان الاهتمام النقدي الممنوح للدراما عموما في الصدارة، ولاسيما فقدان الاهتمام بالمسرح الأمريكي إذ يقول : “هناك ميل، ربما تغير الآن، أن تجد الدراما الأمريكية نفسها مهمشة في الدراسات الأكاديمية “. ورغم ذلك، يزعم  بيجسبي  أن تهميش الدراما ليس محصورا في الجامعة وحدها، ومخازن الكتب الملحقة بها، بل يجب أن يُفهم في إطار ثقافي أوسع : فالمسرح، كما يزعم لا يبدو أنه في مركز الثقافة بالمقارنة إلى الرواية الأمريكية التي ساهمت باعتزاز وطني. وتزعُم ( سوزان هاريس سميثSuzan Harris Smith) أنه بين عامي 1954 وتاريخ إصدار مقالتها في عام 1989، لم تظهر أي دراسة عن الدراما الأمريكية في مجلة PMLA . ويغطي (جوناس باريش Jonas Barish) هذا الإهمال المزعج في دراسته المطولة بحجم كتاب « التحيز المسرحي المضاد Antitheatrical Prejudice” . وقد أصبح التقليل من شأن الدراما ولاسيما دراما ما بعد الحداثة أكثر اقتحاما عند مقارنته بالدراسات الوفيرة عن « ما بعد الحداثة Postmodernity “ عموما، أو عن الشعر وفن القص بعد الحداثي بشكل خاص . 
     ولكن لماذا حدث هذا ؟ . يقول بيجسبي لقد أصابت حقيقة أن المسرح مادي ملموس وثلاثي الأبعاد وفوري النقاد بالرعب  . ويقدم سببا آخر هو المفهوم الضمني للتأليف في الدراما . وبذلك يصبح التأليف الدرامي مشكلة علي نحو مزعج، لأنه الجهد المشترك لكثير من المشاركين، وقد ترك كل منهم ملاحظاته علي المسرحية . إذ يساهم المخرج والممثل ومصمم الديكور ومهندس الإضاءة، وآخرين ارتبطوا بالعمل المسرحي، في العملية التفسيرية . وقد نتج عن هذا النشر الواسع للنص بواسطة قوى خارجية و تعقد مفهوم شخص المبدع الفرد، عدم استقرار مزعج ونقصان ضروري في أي عمل درامي  . مع أنها كذلك  بسبب خصوصية مفهوم التأليف في الدراما الذي يعبر عن اهتمامات ما بعد الحداثة بشكل جيد . إذ يدعو التأليف والسمات التأسيسية الأخرى إلى دراما بعد حداثية . وبالإضافة إلى مفهوم التأليف غير المستقر، يعبر المفهوم الدرامي للذات بيسر عن اهتمامات ما بعد الحداثة . وتشظي الذات مثل التأليف الدرامي غير المستقر هو المعطي الذي يقدمه الممثلون في الدراما من خلال انقسام الممثل – الشخصية . إذ يزيد سياق أداء بعينه والفراغ المادي علي خشبة المسرح من تعقيد الأمر . فالمسرح والدراما ملائمان بوجه خاص لإثارة الأسئلة عن العلاقة بين النص والخطاب والأداء فيما يتعلق  بتحويل كلمات مكتوبة علي الصفحة الثابتة الي تعبير مادي علي خشبة المسرح، وما يتعلق بحضور الذات والتمثيل، وبالذات الموحدةPluralized  والذات المتشظية، ودور المكان، وشروط الدراما نفسها، وعمليات الوجود – وكلها اهتمامات بعد حداثية أساسية . علاوة علي ذلك، كما يذكرنا ( بيجسبي) “ المسرح فريد في صمته” . فالمشاهدون يجب أن يجلسوا ويتحملوا الصمت أثناء الأداء . اذ يحتاج الصمت الدرامي لمكان وزمان مسرحي يمكن أن يمتلئ بالمعنى . وفي المقابل يمكن طي صفحة النص بسرعة . 
     تبحث الدراسة الحالية الأشكال والوظائف التي يتم من خلالها تلقي ما بعد الحداثة من كتاب المسرح الأمريكي، وكيف تؤثر ما بعد الحداثة في الكتابة الدرامية وتشكلها . وسوف أتناول التقليل من شأن الدراما في النظرية المعاصرة كنقطة انطلاق، وأبرهن أن الدراما تحديدا هي التي تهب نفسها لمصطلحات التحليل بعد الحداثي . فكيف يستجيب المسرح إلى نقلة ما بعد الحداثة النموذجية ومشكلات التمثيل التي يثيرها خطاب ما بعد الحداثة ؟ . وسوف أبرهن أن هناك تعريف لدراما ما بعد الحداثة، أناقش نماذج ما بعد الحداثة النظرية، كما اقتبسها وعدلها كتاب مسرح ما بعد الحداثة . وفي برهاني، سوف أرسخ التحول المعروف بأنه التدريب الرئيس علي التمثيل في المسرح المفتوح باعتباره الأسلوب والمجاز الرئيس لدراما ما بعد الحداثة الأمريكية . وفي نقاشي لمغزى العمليات التحويلية في دراما ما بعد الحداثة سوف أوضح أنها في الأساس مسرح تحولات . 
     والممارسات التحولية، كما أعرفها في هذه الدراسة، تؤكد أن مسرحيات ما بعد الحداثة لا ترتكز علي تفكيك المقومات الدرامية، أو هدم التوجه الجماعي للمسرح . إنها توضح بالأحرى هذه المقومات ومفهوم الطقس الجماعي، بينما في نفس الوقت تتحدي وتثير إشكالية إمكانياتهم : تزعج دراما ما بعد الحداثة هذه الملامح والمقومات عن طريق تغييرهم . وسوف ينشأ أسلوب تعبير ما بعد الحداثة باعتباره حركة أساسية في دراما بعد الحداثة. إذ يفترض التحول دورا للرابط في دراما ما بعد الحداثة عند استدعاء الأساليب التقليدية لكتابة المسرحيات للسؤال . وفي إطار النقد، يعبر التحول أيضا عن الاهتمام الرئيس لدراما ما بعد الحداثة بتحدي الانغلاق . فالتغير هو إجابة دراما ما بعد الحداثة علي أسئلة ما بعد الحداثة، وهو أسلوب أساسي في تطوير لغة ما بعد الحداثة من أجل خشبة المسرح . 
     وقد مورس التحول باعتباره أسلوبا في التمثيل بشكل بارز في المسرح المفتوح عند ( جوزيف تشاكين)  . وفد عني التبني الحاد لمختلف الأدوار أو إسقاطها دون أي تغيرات مصاحبة في المشاهد والملابس والإضاءة . ويقال إن الأسلوب نفسه يرجع إلى ورش شيكاجو التي كانت تديرها ( فيولا سبولين Viola Spolin) أستاذة المسرح الشهيرة والتي كان يعد كتابها في التدريس والإخراج « الارتجال للمسرح : كراسة في أساليب التدريس والإخراج Improvisation for theater: A Handbook of teaching and Directing techniques” في مكانة الكتاب المقدس بالنسبة للفرق المسرحية آنذاك  . وقد شارك كتاب مسرح مثل ( جان كلود فان ايتاليJean –claude Van Italie  ) و ( ميجان تيريMegan Terry) بشكل مكثف مع المسرح المفتوح، وأصبحا من المتخصصين البارزين في التحول في مسرحياتهما . إذ تدرس مسرحيات ( فان ايتالي) حالة الذات في الثقافة الوسائطية بعد الحداثية، كما سوف أوضح في نقاشي للأجزاء الثلاثة المتتابعة لمسرحيته « مرحبا أمريكا ِAmerica Hurrah” – « مقابلة Interview” 1965، “ تليفزيون T.V.” 1966، “ و“فندق صغير Motel “ 1965 . ونتيجة لمشاركة (فان ايتالي) الحميمة مع المسرح المفتوح أستخدم هذا العمل لشرح آليات التحول باعتبارها أسلوب التمثيل في المسرح المفتوح . كما تستجيب مسرحية ( ميجان تيري ) التحولية « ابق آمنا في مكان بارد وجاف Keep tightly closed in a cool dry place “ عام 1965 إلى ما بعد الحداثة بطريقة مختلفة . فبينما تؤكد المسرحية علي صور التحول وتضميناتها لمعنى الذات بعد الحداثي، تتبنى أيضا الثقافة الشعبية وتبحث دورها في تأسيس الذات . والأهم ربما أن (ميجان تيري ) و(روشيل أوينز Rochelle Owens) تستخدمان استراتيجيات تحولية لكي تقدما مسرح ما بعد الحداثة باعتباره دراما نسوية . إذ تقدم الممارسات التحولية إمكانية متحدية لتمثيل الحالة النسوية بعد الحداثية دراميا . ويلي مناقشة مسرحية (تيري) تحليلا للسيرة الذاتية الدرامية لـ(روشيل أوينز) “حرضتني ايما Emma Instigated me « عام 1976 . وكما سنرى، فان تفسيرها لحياة (إيما جولدمان) يهتم بشكل شامل أكثر بالمفهوم وحياة اللعب أكثر من الاهتمام بحياة (إيما جولدمان ) التاريخية . ولذلك، ربما يقال إنها تلعب بالدرامي الشارح Metadramatic، وتثير مسألة التأليف بعد الحداثي والسلطة النصية (سلطة النص) . وفي النهاية، أناقش مسرحيتين للكاتبة الأمريكية الأفريقية (سوزان لوري باركس Suzan-Lori Parks) “تحولات غير مفهومة في المملكة الثالثة Imperceptible Mutabilities in The Third Kingdom” 1989، ومسرحية “ لعبة أمريكا The America Play” التي فازت عنها بجائزة عام 1993. ويستولي أسلوب كتابة ( باركس ) الذي يتميز بالتكرار والمراجعة علي أساليب الكتابة علي مختلف المستويات، وهو أسلوب وسائلي في تقديم التاريخ من منظور أفريقي-أمريكي، ويكتشف مفهوم ما بعد الحداثة للذات باعتبارها ذات هجينة. ويجب أن يكون اختياري لمسرحيات وكتاب المسرح في أواخر الستينيات وحتى التسعينيات دليلا علي المعنى المستمر لملامح ما بعد الحداثة في الدراما الأمريكية . 
     ولقد تبنى كل من (تيري) و(أوينز ) و(فان ايتالي)، وشكلوا الاهتمامات بعد الحداثية في الدراما الأمريكية، عن طريق خلق أشكال درامية يمكن أن نسميها «بعد حداثية». إذ يبدو أنهم في مسرحهم الذي يتميز بالتحولات يركزون علي ثلاثة أمور أوسع يمكن أن تنتزع بشكل أفضل صورة المسرح بعد الحداثي ذا التحولات: المعنى بعد الحداثي للذات، وجعل النص الدرامي والتأليف والأداء مثيرين للإشكاليات في نزعة ما بعد الحداثة، وأيضا صور الفراغ(المكان) المسرحي وعلاقته بثقافة ما بعد الحداثة ذات الوسائطية . ويبدو أن التحذير في مكانه الملائم هنا، لأن مجال استراتيجيات ما بعد الحداثة في فنون الأداء المعاصرة واسعة جدا . وبعيدا عن إعلان مسرح التحولات باعتباره معيارا لدراما ما بعد الحداثة، فإنني أفهمه باعتباره مثالا لهذه الدراما .
  نزعة ما بعد الحداثة وتقويم المسرح :
     تقترب دراما ما بعد الحداثة، كما يبرهن ( ستيفن وات Stephen Watt)، من كونها تسمية مغلوطة : عندما تكون مسبوقة كلمة دراما مسبوقة بصفات مثل “ما بعد الحداثة”، فانه يتم تعريفها بأغلب ملامحها التقليدية المعروفة، مثل الشخصية والحبكة والصراع . وكما يوضح ( وات ) “ لا تحتفظ الدراما داخل ما بعد الحداثة بقيمة فعلية  . ومن الصعب أن نصدق أن (وات) ليس مدركا للمحاولات المسرحية السابقة حتى يذهب  إلى ما وراء مفهوم الشخصية والسرد المتنبأ بهما . ومع ذلك يشير بشكل ملائم إلى إشكاليات عبارة « دراما ما بعد الحداثة « . ووسيلته في فهمها أن دراما/ ما بعد الحداثة لن تحل، رغم ذلك، مثل هذه الخلافات . 
     ويمكن أن نسلم بسهولة أن ما بعد الحداثة تتحدي الدراما والمسرح بعد طرق . وفي نفس الوقت، كما أبرهن، فان نزعة ما بعد الحداثة لها ملمح حاسمة فيما يسمى دراما ما بعد الحداثة . فالدراما استخدمت بشكل موسع الملامح بعد الحداثية التي تعبر بدرجات متفاوتة عن ممارسات تحولية، ومع ذلك، فان الأمر بالنسبة لنزعة ما بعد الحداثة لا يكاد يمر دون مشاكل. فعلي مدار العقود السابقة، كانت نزعة ما بعد الحداثة هي المفهوم الذي نتصارع معه ، إذ تشكلت من خلال آراء وبراهين متصارعة، تعبر أحيانا عن الرفض . حتى  إيهاب حسن، أبرز المدافعين عن ما بعد الحداثة، سأل في لحظة من لحظات النقاش “ ما إذا كان يمكننا أن ندرك ظاهرة جديدة في الثقافة المعاصرة عموما، وفي الأدب المعاصر خصوصا، ظاهرة تستحق أن يكون لها اسم ؟ . بينما يدعي البعض عدم وجود هذه الظاهرة، وآخرون يتأملونها كتيار عام في التعبير الأدبي المعاصر . ومن المبالغ فيه أن نتأمل ما بعد الحداثة باعتبارها نقلة نموذجية ناضجة، ولعل التقويم الأكثر حذر هو الملائم هنا . إذ يعرفها  أندرياس هايزين Andreas Huyssen هكذا :
 ما يظهر على أحد المستويات بأنه أحدث بدعة ولوحة إعلانات ضخمة واستعراض ضحـل، هو جــزء مــن ظهور تحول ثقافي بطئ في المجتمعات الغربية، وتغير في الحساسية التي يتلاءم معها مصطلح ما بعد الحداثة فعلا، فهو ملائم تماما الآن علي الأقل . ذلك أن طبيعة وعمق هذا التحول مثار جدل، ولكن هذا هو التحول» 
وإذا كانت نزعة ما بعد الحداثة هي هذا التغير الملحوظ في الحساسية، وبشكل بارز التحول الثقافي في المجتمعات الغربية الذي أثر في الثقافة عموما، فلابد أن تترك بصمتها علي الدراما المعاصرة أيضا . ولهدف هذه الدراسة سوف أركز علي صور نزعة ما بعد الحداثة تلك التي تؤسس نقاش دراما ما بعد الحداثة: غموضها المفاهيمي وتضمينات شخصيتها المتناقضة والمتشظية. وسوف أوضح أن نزعة ما بعد الحداثة تقدم عموما النماذج التحولية إلي يتم تلقيها بواسطة الدراما، كما سوف أبرهن في الفصول التالية، وبالتناغم مع التحولات الدرامية سوف أنشئ ما أسميه مسرح ما بعد الحداثة ذي التحولات .
     ولن أسعي إلى إضافة تعريف آخر لما بعد الحداثة لتحديد المحاولات الموجودة فعلا . وبعيدا عن المقاومة الشاملة لنزعة ما بعد الحداثة لمثل هذا الجمود، تشكل هذه التعريفات، مثل أغلب التعريفات الأخرى، صورة متكررة مرفوضة، أو طبقا لكلمات إيهاب حسن “ إنها تخبرنا بما نعرفه فعلا « . ومع ذلك يظل هناك شيء يمكن فهمه فيما يتعلق بالثقافة المعاصرة لهذه المفاهيم المؤقتة، التي ربما لا تنفذ عبر سطور التفكير الموضوعي . وكما توضح التعريفات القابلة للتساؤل وقوائم السمات، تصبح قائمة ( إيهاب حسن) لملامح ما بعد الحداثة العنصر الرئيس في نظرية ما بعد الحداثة، وتتضمن العديد من الملامح المتعلقة بمناقشة دراما ما بعد الحداثة . وفي مجاورة الملامح الحداثية وبعد الحداثية تشكل القوائم كتالوج ما بعد الحداثة، بين أشياء أخرى، شكلا مضادا ولعبا ومصادفة وفوضوية، واستهلاك/صمت، وفناء / تفكيك، وغياب، ونص/ تناص، وترادف، وجذر/سطح، وغموض  .وتضيف ليندا هاتشون Linda Hutcheon المعارضات الأدبية والسخرية، ويضيف  جون بارثJohn Barth   النزعة الاستهلاكية ثم سد النقص، ويضيف  أمبرتو ايكو Umberto Eco جماليات التكرار، ويضيف بعض النقاد اليساريون مثل ( بودريارBaudrillard )، (هارفي Harvey) أو (هابرماسHabermas ) جانبا من تركيبية الواقع . ومن منظور مختلف، يبرز فريدريك جيمسون Fredric Jameson  تحول الثقافة إلى سلعة، واصطناعية الفوتوغرافيا، وتضاؤل التأثير في ثقافة ما بعد الحداثة  . فنزعة ما بعد الحداثة ودراما ما بعد الحداثة يضمان بشكل واضح تنويعة من الملامح البنيوية والأسلوبية، وتتضمن أشكال الفن الثقافي الشعبي الذي استبعد سابقا من التخصص الأدبي . وفي محاولتها لخلق جماليات جديدة تتباين مع أشكال الثقافة الرفيعة، تنغمس ما بعد الحداثة بشكل صارم، عند كثير من النقاد، في الثقافة الشعبية ذات المستوى الأدنى. فأصبحت طرز الموضة والفن الشعبي والتليفزيون وصور وسائل الاتصال جزءا من حزمة ثقافة ما بعد الحداثة التي غيرت فكرة الإبداع الجمالي والتجريب . وبالمقارنة إلى الدراما، مارست الفنون البصرية التجريب في أشكال الفن الشعبية الثقافية . واكتشفت أيضا مفاهيم نظرية أخرى لخطاب ما بعد الحداثة، مثل ذاتية الإشارة واستقلال المدلولات والتسلسلية والمخاطرة والنزعة المضادة للتمثيل، قبل أن يعرفهم كتاب الدراما . ومع ذلك، فان الدرجة التي تحتضن بها ما بعد الحداثة الثقافة الشعبية هي فعلا موضوع مثير للجدل . ففي أغلب الأحوال، تظل ما بعد الحداثة، رغم ذلك، استثمارا فكريا يشجع علي تبني الثقافة الشعبية . إذ يستمد فن ما بعد الحداثة من الثقافة الشعبية، لكنه لن يصبح بالضرورة هو نفسه منتج ثقافي شعبي . ويمكن أن يؤكد التقدير الاقتصادي للمسرح المعاصر وعدد جمهور المسرح، والجدال الدائر حول المعونات والسعي المستمر للحصول علي الهبات والتبرعات، أن الجزء الأفضل في مسرحيات ما بعد الحداثة لم يكن قادرا علي جذب جماهير غفيرة . 
     يبدو أن دراما ما بعد الحداثة هي بالأحرى تجربة حول حدود الدراما والمسرح، وتقدم نزعة ما بعد الحداثة المعدات والأدوات النظرية لهذه المحاولة . ويبدو أن الوصف التالي لتناقضات ما بعد الحداثة وتقلباتها يستولي بشكل ملائم علي إلحاح نزعة ما بعد الحداثة علي الدراما : 
            “ تنحرف ما بعد الحداثة نحو أشكال مراوغــة مغرية بالأمنيــات، تناقضية، شاردة، أو غامضة، وخطاب الأجزاء، وأيديولوجيا الأشـــلاء، وإرادة التحطيــم، وتعويــذة الصـمـت – إذ تنحــرف كلها ومع ذلك تتضمن مقابلاتها الفعلية وحقائقها النقيضة.”
فنزعة ما بعد الحداثة غامضة، فوضوية و متمزقة، بينما تحاول في نفس الوقت أن تكتشف حساسية متكاملة ( وفقا لسوزان سونتاج Suzan Sontag) أو أن تعبر الحدود وتغلق الفجوة (وفقا لليزلي فيدلر Leslie Fiedler).فنزعة ما بعد الحداثة ليست جامدة، لكنها تحدد الحركة بين البناء والهدم . وهذا التأرجح يتضمن ممارسات تحولية لأنها لا تؤمن بملمح بعينه، لكنها تغير هذه الملامح في عملية البناء والهدم . بمعني آخر، تتوافق هذه النقلات مع فارق . فنزعة ما بعد الحاثة هي فعالية نقدية، ولذلك تتميز في النهاية بقدرتها التحولية  .
     وبرغم هذه التغيرات المفاهيمية وعدم الاستقرار العام لمصطلح ما بعد الحداثة، تتبنى دراما ما بعد الحداثة ميلا بعد حداثي لاكتشاف وتعزيز التجارب الدرامية علي هوامش الاحتمال. وكما يقول ( جان فرانسوا ليوتار) : 
 “  اختبرت قوى الإحساس والتعبير علي حدود ما هو ممكن، ولذلك يمتد مجال الإحسـاس المدرك والكلام القابــل للوصف . وتجــري التجارب. فهذه هي كل دعوتنا الباطنية لما بعد الحداثة والتعليـق عليها له حدود مفتوحة « .
يبرز ( ليوتار ) جدول الأعمال التجريبي لنزعة ما بعد الحداثة بتسميتها العملية التحولية المكرسة لتطوير أشكال جديدة دائما . وهنا، لا تهتم نزعة ما بعد الحداثة بافتراض مفهوم جديد بدلا من مفهوم قديم، فالشيء المهم هو البحث عن أشكال جديدة والقدرة المصاحبة لإعادة تفعيل الفن . وتبعا لذلك، لا يري (ليوتار) نزعة ما بعد الحداثة باعتبارها مفهوم مرتب زمنيا، بل باعتبارها حالة للعقل . فنزعة ما بعد الحداثة بالنسبة له هي كلمة بدون معنى ثابت، فهي « كلمة غير مستقرة Un mot sans consistence “ . ويضيف أن هذه الكلمة غير المستقرة ليس لها قيمة أخرى سوى الإعلان، وبذلك يربط ما بعد الحداثة بالثقافة الشعبية، أو بدقة أكثر بالإعلانات والصورة المصغرة للنزعة الاستهلاكية  . 
     ويدعو الانفتاح الأصيل لهذه الكلمة غير المستقرة إلى تأمل المفارقات والتناقضات، بينما يمكن أن تعوق المفاهيم الثابتة والتطابقات مثل هذه المحاولات . ويظهر هذا التضارب عندما ينتقد فن ما بعد الحداثة، باعتباره من ناحية لهو يصرفنا عن الواقع، ومن الناحية الأخرى، يقرأ  كشكل جديد للواقعية باعتبارها انعكاس ملائم لعالم الرأسمالية متعددة القوميات (23) . وإذا كان ( جيمسون ) علي صواب في تسمية ما بعد الحداثة « المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة «(24)، فان ذلك المنطق ينشئ مجموعة من الخطابات والتجليات الثقافية . فإذا كانت نزعة ما بعد الحداثة هي مفهوم نظري وتاريخي في نفس الوقت ومجموعة من الممارسات الثقافية المركبة والمتناقضة وأسيرة عمليات تحولية مستمرة .
     تتصدر نزعة ما بعد الحداثة التوجه الدرامي الشارحmetadramatic  لدراما ما بعد الحداثة  باعتبارها فعالية في حدود ما هو ممكن، وتأمل مفاهيم الواقع وتأمل مكانتها في الواقع . وكذلك، توجه دراما ما بعد الحداثة إلى تكسر وبنائية كل صيغة للواقع . وتهدف دراما ما بعد الحداثة إلى فتح المجال التقليدي للدراما والمسرح، وبرغم كل الاختلافات، تقترب من الأفكار التي تتضمن فن الأداء ومسرح الوقائع Happenings، علاوة علي أن المحاولات الحداثية المبكرة لأخذ شريحة من حدود الواقع . ولكن بينما يفهم الحداثيون الواقع بشكل رئيس باعتباره معقدا جدا، مع أنه فردي، يهتم بعد الحداثيون أكثر بكيفية بناء الواقع وتشكيله ومناقضته  . ولتصوير الفرق، يميز ( ديك هيجنز Dick Higgins) نوعين من الأسئلة التي تحدد ما يسمي رؤية عالمية إدراكية وبعد إدراكية :
“ الأسئلة الإدراكية ( التي سألها فنانو القــرن العشــرين حتى عام 1958هي : كيف يمكنني أن أفسر العالم الذي أنا جزء جزء منه ؟ ومن أكون بداخله ؟ 
والأسئلة بعد الإدراكية (التي يسألها أغلب الفنانين منذ ذلـك الحين) أي عالم هذا؟ وما الذي يجب أن نفعله فيه ؟ وأي ذات من ذواتي سوف تفعل ذلك ؟ «  .
وبروح أكثر نقدية، يسلم ( ديفيد هارفي) أن العواطف الحداثية ربما تتهدم وتتفكك وتقمع، أو يتم تجاوزها، ولكن هناك قليل من التأكيد علي التماسك أو معنى انساق الفكر التي يمكن أن تحل محلها  . ويصبح التشظي ( التكسر) ملمح دراما ما بعد الحداثة ويتبنى دورا قياديا في عمليات دراما ما بعد الحداثة التحولية . فالتشظي بالطبع ليس الخاصية الفكرية الحصرية لما بعد الحداثة . وربما تؤكد أن تشظي الوجود ومعنى الذات كان شأنا سائدا في الحداثة أيضا . فأين إذن الفرق بين تشظي الحداثة وتشظي ما بعد الحداثة . ويؤكد ( هورنانج Hornung، وهوفمان Hoffmann، وكونو Kunow) أن الفجوة بين الحداثة وما بعد الحداثة تنعكس في التعارض بين مجالين معرفيين، هما الذاتية مقابل فقدان الذاتية  . وطبقا ل(هارفي) لا يمكن أن يوجد الفرق في سؤال الكلية أو التشظي، ولكن في الكيفية التي يفهم بها الجزء ( الكسرة) . فمن وجهة نظر حداثية يؤكد ( هارفي ) أن التشظي يستخدم لإنشاء كل أفضل، ورغم ذلك يدعي وجود واقع ضمني كلي، رغم أنه مركب ،، ومن منظور بعد حداثي، فان المتلاشي والمتشظي والمتقطع والفوضوي مقبولون تماما  . إذ يمكن رؤية ما بعد الحداثة، كذلك، باعتبارها امتداد منطقي للحداثة ورد فعل تناقضي تجاهها في نفس الوقت. 
     تثير ألغاز مفاهيم ما بعد الحداثة تحذيرين نهائيين عامين يتعلقان بالكتابة عن ما بعد الحداثة والدراما . ودرجة التقلب الشامل هذه تجعلها صعبة ولاسيما في تقييم وتفسير أعمال أدب ما بعد الحداثة، ومن ضمنها دراما ما بعد الحداثة . إذ تثير نزعة ما بعد الحداثة إشكالية في التأويل، أو كما يقول ( إيهاب حسن )، يصبح التفسير متحيزا أو مشكوكا فيه ومتهما  . وقد دفعت هذه الظروف (جاك دريدا) إلى التمييز بين نوعين من التفسيرات، يسعي الأول إلى اكتشاف حقيقة وأصل الأشياء، بينما يؤكد الآخر علي الميل إلى اللعب :
 « هناك إذن تفسيرين، يسعي أحدهما إلى حلــم فــك لغز الحقيقة أو الهروب من اللعب، والآخر الذي لم يتحول أصلا، ويؤكد اللعب .»
تجتذب ما بعد الحداثة باعتبارها فعالية مراوغة مختلف مصادر التاريخ الأدبي، ولذلك يتم تحديها بانتحال منهجي أو فقدان لصيغ وإشكال التعبير ذات الخصوصية . وتتبنى دراما ما بعد الحداثة هذا الميل إلى اللعب في إشكال التعبير الفني المتعددة وتتحد معها . فالدراما، مرة أخرى ملائمة ولاسيما للتعبير عن تلك الأفكار، لأنها فيما يتعلق بالنص وتحويله علي خشبة المسرح، هو بالتعريف « شكلا فنيا غير نقي» . وتعبر تقاليد ما بعد الحداثة الجديدة عن هذا العيب بطريقة أكثر تأكيدا. إذ تجذب دراما ما بعد الحداثة مجموعة متنوعة الرواد الثقافيين لكي تضمهم الي مشروعها الجديد، أو القديم إن أردت ذلك . وتنقل هذه الظروف إلى دراما ما بعد الحداثة أي توحد بملامح مميزة مؤقتة، فان لم تكن هذه الملامح مشكوكا فيها، فإنها ترتبط دائما بتيار مبكر في الكتابة والأداء . ولذلك يجب أن نناقش هذه الملامح باعتبارها توجه مشهود أو صورة أو عدم ثقة في اللغة باعتبارها حالات مستهدفة في إطار مغزاها بالنسبة لدراما ما بعد الحداثة، بينما في نفس الوقت، لأننا نعي أنها يمكن أن ترتبط أيضا بصيغ وأساليب الكتابة المسرحية السابقة .
     يشير هذا الأمر إلى أكثر من مشكلة عامة في التاريخ الأدبي للكتابة . فما بعد الحداثة تقدم روادها الأدبيين، وبذلك تفهم تقسيم كليهما إلى فترتين في إطار الاستمرارية والانقطاع، ومحاولة اكتشاف أسلافها المؤسسين وتأثيرهم المستمر. بمعنى آخر، تفهم دراما ما بعد الحداثة التاريخ الأدبي في إطار طمس بعد حداثي لأثار الماضي والحاضر والمستقبل . وبالمثل، تواجه المشاكل بواسطة مزج ما بعد الحداثة للنظرية والتطبيق . لأن نظرية ما بعد الحداثة لن يتم تعزيزها بممارسة قبلية، بل توّلد الممارسة بالأحرى، ويتحدث بعض النقاد عن معاداة النظرية للتطبيق. فقد عادت دراما ما بعد الحداثة الشكل الفني عموما، ولاسيما بما يلاءم هذه السمة بعد الحداثية . ويمزج تأكيدها علي وجود اللعب، واستبطان الأساليب التي تأتي باللعب، الاهتمامات النظرية والممارسات المسرحية، في النهاية يحول دراما ما بعد الحداثة مسرح ذي نظرية . 
     ودراما ما بعد الحداثة باعتبارها مسرحا ذا نظرية، هي مع ذلك مسرحا سياسيا بشكل حاسم، كما سوف توضح ضمنا مناقشة المسرحيات وكتاب الدراما فيما بعد . وقد اكتشف عدد قليل من كتاب الدراما العرقية والنسوية الأساليب بعد الحداثية، وشكلوا صياغاتهم  لدراما ما بعد الحداثة . ومع ذلك، فان التلاشي وعدم الاستقرار المفاهيمي لنزعة ما بعد الحداثة وغموضها وميلها إلى اللعب يؤدي، وفقا لبعض النقاد، إلى التخلي عن المنطلق السياسي. إذ يقدم غموض ما بعد الحداثة ولعبها، من ناحية، إمكانيات نقل التأكيد إلى السياسة الثقافية وإحياء الخطاب المهمل . ومن الناحية الأخرى، يتعلق الاثنان بمخاطرة تحييد جدول الأعمال السياسي، أو ما هو أكثر، الحفاظ علي المحافظ ثقافيا . وتساوي المجموعة الرئيسية من النقاد ما بعد الحداثة بدبلوماسية الفن والثقافة عموما، ويرونها كنقيض لأفكار التنوير . ويحذرون من مخاطر التخلي عن مثاليات التنوير التي أعدت لتطوير المجتمع، ويتحسرون علي العودة إلى ما يسمى « القوى المحافظة الجديدة « . ويفهم (يورجن هابرماس)، وهو الممثل الرئيس لهذا النقد، مخاطر الانهيار الوشيك لقيم التنوير : 
 “ يرحب المحافظون الجدد بتطور العلم الحديث ما دام يذهب فقط إلى ما وراء مجال نقل التقدم التقني والنمو الرأسمالــي والإدارة المنطقية . علاوة علي ذلك يزكـون سياسة نــزع فتيل مضمون الحداثة الثقافية المتفجــر . وطبقا لاحــدي المقولات، عندما يفهم العلم بشكل ملائم فانه يصبح بشكل نهائي بلا معنى عندما يتوجه إلى الحياة في العالم. والمقولة الثانية هي أن السياسة يجـب أن تبقي بمعزل بأقصـى مــا  عن التبريرات الأخلاقية العملية . والمقولة الثالثة، تؤكــد السيطرة الخالصة للفن والجدليات ذات المضمون المثالـي وتشير إلى الخاصية الإيهامية في تحديد خصوصية التجربة الجمالية . “
طبقا (لهابرماس)، تفرغ ما بعد الحداثة الفن والمجتمع من مضمونهما السياسي، وتعزز توجها غير نقدي تجاه العلم، ويخفف من حدة المضمون المتفجر للحداثة . بينما يميل نقاد آخرون مثل (هابرماس) إلى رؤية الحداثة وما بعد الحداثة باعتبارهما متعارضين، والحداثة ليست مرفوضة تماما من ما بعد الحداثة . ويستنتجها منظرو ما بعد الحداثة من مختلف النظريات الثقافية، والحداثة سائدة فيما بينهم . 
     وسوف أبرهن أن غموض نزعة ما بعد الحداثة ولاسيما مراوغتها هو الذي يزيد من تطوير جدول الأعمال السياسي حتما في دراما ما بعد الحداثة . فهي ملائمة، خصوصا، لرفع الغطاء عن النماذج التمثيلية السائدة، وتهدم التسلسلات والخطاب الموجود . ويعترف انفتاحها المفاهيمي بأولئك المستبعدين من مفاهيم النظرية المقيدة والجامدة . ولذلك تبني كتاب المسرح ما بعد الحداثة مع جدول أعمال سياسي حاسم، وتبنتها في النهاية كاتبات المسرح النسوي والعرقي. وسوف تؤكد هذا الزعم كاتبات مثل ( ميجان تيري) و ( روشيل أوينز ) و(سوزان لوري باركس) . 
     وحتى لو كانت ما بعد الحداثة نظرية من عالم الغرب الرأسمالي، ومن أجله، فإنها أيضا تلفت الانتباه إلى الأشياء المستبعدة أو المهمشة من السائد الثقافي . فميل ما بعد الحداثة إلى الهامش يجبر النقاد أن يكونوا أكثر وعيا بالأساليب التي يتناول بها الفنانون الجنس والعرق . وفي ثنايا أعمال ( فوكوه Foucault ) حول السلطة، وأعمال ( التوسير Althusser ) عن الأيدلوجية، والتأثيرات التي تقول إن السلطة والأيدلوجيا يتم ممارستها مع الذات، أصبحت ما بعد الحداثة ترتبط بالنسوية والتعددية الثقافية Multiculturalism . وقد دفع هذا ( هال فوستر Hal Foster) أن يميز بين ما بعد الحداثة في رد الفعل وما بعد الحداثة في المقاومة (38) . والأخيرة في محاولتها لتغيير موضوعها وسياقها الاجتماعي سياسية، بينما تنشغل الأولي برفض الحداثة . وقد اختارت الدراما ما بعد الحداثة كصيغة للنقد الذي يفكك نظام التمثيل لكي تعيد صياغته، حتى لو كانت إعادة التقديم هذه مؤقتة أو تحولية . ويشير هذا المنطلق السياسي إلى ممارسة متعددة الفروع بالتعريف، وكامنة في التقاليد العامية لأن الأشكال الثقافية هي التي تنكر فكرة سيطرة الثقافة الرفيعة علي اعتبار أنها المجال الجمالي المفضل . وفي نفس السياق، يرى ( كريج أوينزCraig Owens ) ما بعد الحداثة في إطار أنها أزمة في التمثيل الغربي، ولاسيما في ادعاءاتها بامتلاك السلطة والعمومية . وحتى الآن، أعلن الخطاب المكبوت أو الهامشي والنزعة النسوية الأزمة، ومنحوا ما بعد الحداثة حدثا سياسيا ومعرفيا علاوة علي ذلك : حدث سياسي لأنها تتحدى نظام المجتمع البطريركي المعرفي وتستفسر عن بنية تمثيله. 
     بينما يتهم بعض النقاد ما بعد الحداثة بإهمال التاريخ، واهتمامها بفن القص الشارح التأريخي histriographic metafiction، وفقا لـ(ليندا هاتشونLinda Hutcheon ) الذي يضع بنيوية رؤيتنا ومعرفتنا بالماضي في الصدارة. وفضلا عن رفض التاريخ،تنتقد ما بعد الحداثة التأريخ Histriography وتعيد صياغة مشروع التاريخ . وتتناول (سوزان لوري باركس) المسألة بصراحة مع التمثيل السائد للتاريخ وتتحداهما باستخدام ألعاب اللغة بعد الحداثية من بين صيغ أخرى . ولذلك، تضمن تأكيد ما بعد الحداثة علي اللعب وألعاب اللغة إنكارا لجدول الأعمال السياسي. وهي الفعالية التي تتأمل استنتاجات الفكر الجديد وتحولها، وبذلك تولد إمكانيات توظيف منظورات مختلفة للثقافة والمجتمع المعاصرين. ولعب الأسطح والمعارضات الأدبية ليس في ذاته حيادا سياسيا. فهو يشارك، كوسيلة لكشف واقعية المعرفة والوعي، في عملية الاستفسار المستمر عن قوة البنيات والأفكار الأيدلوجية الملازمة لها . وحتى لو مزق  تاريخ العلاقة بين ما بعد الحداثة والخطاب النسوي / العرقي الحدود، فقد غذت دراما ما بعد الحداثة مزاعم واهتمامات هذه الجماعات وزودتهم بأدوات مفاهيمية لتشكيل مسرح تحولات عرقي ونسوي بعد حداثي . 
    وبتأمل الأرضية المشتركة بين الدراما وما بعد الحداثة، ربما يتصادف أن تولد دراما ما بعد الحداثة مقدارا محدودا من الدراسات النقدية . وفي نفس الوقت، ربما نؤكد أن عبارة « دراما ما بعد الحداثة « تظهر في عدد كبير من العناوين الفرعية في الأدب . وفي كثير من الحالات، رغم ذلك، يظهر المصطلح حصريا تقريبا باعتباره شعارا في عناوين الأعمال . وفي حالات أخرى، يستخدم المصطلح بدون حذر منهجي . وبشكل عام، يبدو الاستخدام المتضخم للمصطلح – ما بعد الحداثة – في العناوين الفرعية للدراسات الأدبية يعبر عن حالة سوق الكتاب المتخصص أكثر مما يعبر عن الكتب نفسها . ولذلك يبدو أن ( ايهاب حسن ) علي صواب عندما يبرهن أن إساءة استخدام مصطلح ما بعد الحداثة ينم عن إرادة وإرادة مضادة لقوة فكرية، لأن تبني أو رفض المصطلح مشروط بعلم النفس السياسي في الحياة الأكاديمية  . 
     يبدو أن الأدب النقدي حول فنون الأداء محكوم بالتأكيد المتزايد علي الأداء . وتغطي هذه الدراسات مجموعة واسعة ومتنوعة من الأفكار، بداية من الأداء في الفنون البصرية، مرورا بالبرامج التليفزيونية وكوميديا الموقف Situation Comedy، وصولا الي الكوميديا المرتجلة . ولكنها نادرا ما تتعامل مع مفهوم الأداء كشكل للدراما، فقد استخدم محررا مجموعة الدراسات ( الأداء في ثقافة ما بعد الحداثة)، (ميشيل بينامو Michel Benamou) و (تشارلز كاميللوCharles Carmello ) مصطلح دراما ما بعد الحداثة، لكنهما لم ينظرا له . ففي مقدمتهما يسألان هل من الممكن أن نقدم لنظرية ما بعد الحداثة مجموعة دراسات متكاملة لمصالحة النموذج المسرحي، وهو الحدث الذي ما يزال يسمي مسرح، ولكنهما يتركان السؤال الحقيقي مفتوحا بلا اجابة . وفي الخاتمة يشرح (كارميللو) أساليب كتابة ما بعد الحداثة، مع أنه يهمل مجال المسرح تماما  . بينما تؤكد مجموعة الدراسات الأداء بعد الحداثي، وتتجاوز دور ما بعد الحداثة في الدراما . 
     وأضاف ( فيليب أوسلاندر Phillip Auslamder ) دراستين مهمتين الي كيان الأدب الضخم حول أداء ما بعد الحداثة (44). فبينما تركز دراسة ( أوسلاندر) “من التمثيل الي الأداء From Acting to Performance « علي الأداء وعلم السياسة، فان دراسته « الحضور والمقاومة Presence And Resistance « تستكشف صور الثقافة الوسائطية وتتوجه الي مسائل السياسة الثقافية والاتصال . وبعيدا عن مناقشة عرض (ل.س.د L.S.D) الذي قدمته فرقة (ووستر جروبWooster Group )، فان الكتاب يهمل الدراما . ولعل تاريخ ما بعد الحداثة الشامل الذي يقدمه ( هانز بيرتينزHans Bertens ) لما بعد الحداثة في كتابه « فكرة ما بعد الحداثة The Idea of the postmodern” يقصر نقاشه للدراما علي تفسير فهم ( أوسلاندر ) للعرض المسرحي الذي قدمته فرقة»ووستر جروب” (45) .ولعل المعالجة النقدية التي قدمها ( باتريس بافيس Patrice Pavis) “ التراث الكلاسيكي للدراما الحديثة : حالة ما بعد الحداثةThe Cassical Hiretage of  modern “  drama:the case of the postmodern drama “ تجسيد الأمثلة الفرنسية فقط، وتتجاهل الدراما الأمريكية تماما  . ويختلف تناول ( بافيس) عن التناول المتبع في هذه الدراسة لأنه يهتم أساسا بالأدب الكلاسيكي وتأثيره علي الدراما الفرنسية المعاصرة . إذ يؤكد استنتاجه صحة أي سياق تاريخي حين يقول « من المستحيل علي أي مسرح بعد حداثي أن يعرف نفسه بأنه تمزق متطرف دون أن يلجأ إلى المعايير الكلاسيكية . 
     وفي عام 1989، أضاف ( ستيفن كونور ٍSteven Connor) دراسة موسوعية الي سوق كتب ما بعد الحداثة  بعنوان «الثقافة بعد الحداثية Postmodernist Culture”. ويغطي الكاتب في بحثه مجالات متنوعة في التعبير الثقافي بشكل ملحوظ، بداية من العناوين المألوفة مثل الأدب والأداء والعمارة وصولا إلى مناقشات الموضة والأسلوب وموسيقي الروك باعتبارها تعبر عن خطاب ما بعد الحداثة، ولكن الهدف من تحليله امتنع عن مناقشة دراما ما بعد الحداثة بشكل شامل . وفي الدراسة التي قدمها ( رودني سيمار Rodney Simard) عام 1984 يرجع بنا فيها إلى عام 1950 ويناقش ( بيكيت ) باعتباره نقطة التحول في المفاهيم التقليدية في الدراما والمسرح . ومع ذلك، لم يوضح (سيمار) مغزى ما بعد الحداثة في الدراما كما هو متوقع في العنوان . إذ عرّف في الخاتمة جدول الأعمال المشترك بين كتاب ما بعد الحداثة بقوله: «لقد انتهوا إلى فهم ذلك الواقع المشترك باعتباره أسطورة، وأن الواقع الفردي هو مسألة اختيار وجودي، وهذا هو الشرط الأساسي الذي تسعي دراما ما بعد الحداثة إلي اكتشافه وجعله درامي». ويستخدم (سينار) مصطلحات مدهشة عندما يتنبأ بوحدة الهدف غير المسبوقة منذ هيمنة المسرحية جيدة الصنع The well made play . فهو يفترض اهتمام (ستوبارد) و(شيبرد) و(شافر) و(راب) بالخصائص الباطنية لحياة ما بعد الحداثة، وهو تعريف ما يزال ساريا . 
     وقد جمع ( اينوش براتر Enoch Brater) و ( روبي كوهين Ruby Cohen) دراسات حول الدراما الأمريكية المعاصرة في كتاب يحمل عنوان (مسرح العبث Absurd Theater) ووضعا له عنوانا فرعيا هو ( مقالات في دراما الحداثة وما بعد الحداثة Essays on Modern and Postmodern Drama) . ويعرف مقال (كوهين) التمهيدي تاريخ مصطلح العبث وانبعاث الدراما الحديثة . ويعرف مقال (براتر) الختامي تأثير العبث علي المسرحيات التي جاءت بعده . وللأسف، لم يعلق علي مصطلح ما بعد الحداثة البارز في عنوان الدراسة . ومن المحتمل أن يكون مقال (براتر)  قد ناقش ذلك الشغف عندما انتهي إلى أن العبث مازال موجود من حولنا، ولا يوجد شيء يسمي «ما بعد بعد العبث After after Absurd . 
     وبمتابعة هذا التيار الرئيس في هذا الاهتمام التخصصي، تكتشف ( جانيت مالكينJeanette Malkin ) مسألة الذاكرة وما بعد الحداثة في كتابها “ مسرح الذاكرة ودراما ما بعد الحداثة Memory Theater and Postmodern Drama” . وتبرهن أن كلى المصطلحين مرتبطان بشكل ملغز في مسرحيات (صامويل بيكيت) و( هاينر موللر ) و( سام شيبرد) و ( سوزان لوري باركس ) و(توماس بيرنار ) . ولكنها لم تناقش نظرية ما بعد الحداثة فيما يتعلق بالدراما، ولم تؤسس أي إطار نظري لدراما ما بعد الحداثة، بل بقيت أسيرة الذاكرة كموتيفة مركزية في المسرحيات  .
    ثم نشر حديثا جدا كتابان يغطيان أرضية مشتركة، هما كتاب (ستيفن وات Stephen Watt) “دراما/ ما بعد الحداثة Postmodern/ Drama« وكتاب (هانزHans-ThesLemann)” المسرح بعد الحداثي Postdramatisches Theater” وقد تناولا فنون الأداء في عامي 1998، 1999 علي الترتيب . وللوهلة الأولي يبدو أن الكتابين يعالجان نفس العنوان (وهو دراما ما بعد الحداثة) . إذ لاحظ (وات) و(ليمان) النقص في الدراسات التي تتعلق بالانحياز المفيد بين نظرية ما بعد الحداثة والدراما المعاصرة . ويرى ( ليمان) أن سبب هذا الإهمال يكمن في حقيقة أن أشكال المسرح الجديدة تبدي مقاومة أصيلة للتصنيف . وبعد تأمل نظري مفصل، بأخذ دراسة (وات) اتجاها مختلفا، فهي مهتمة عموما بأشكال ما بعد الحداثة في التعبير الثقافي . إذ يضم البطاقات البريدية والاستعراضات التليفزيونية إلى مناقشته . ويركز كتاب ( ليمان) تقريبا وحصريا علي المسرح الأوروبي باستثناء دراسة متعمقة لمسرح (روبرت ويلسون) وبعض الملاحظات الثانوية علي مسرح (جون جيسورن) . ومثلما فعل (إيهاب حسن) يقدم ( ليمان) قائمة تضم كتاب المسرح الجديرين بأن يكونوا فنانين بعد دراميين، وفي سياق المسرح الأمريكي يذكر اسم ( ريتشارد فورمان Richard Forman) و(روبرت ويلسون) و( ريتشارد شيشنر Richard Schechner) و(فرقة ووستر جروب) . ويدعم ( ليمان) تعريفا شديد الضيق لما بعد الحداثة، وهو تحديدا الفترة التي يتفاعل فيها مع المضاد للحداثة، ويبتكر مصطلح ما بعد الدرامي Postdramatic لكي يشير الي ما يعرف في مكان آخر باسم ما بعد الحداثة . 
.....................................
كريستين شميدت: تعمل حاليا أستاذا للدراسات الأمريكية بجامعة سيمون فريزر في كندا . 
هذا المقال هو الفصل الأول من كتاب «مسرح التحولات : ما بعد الحداثة في الدراما الأمريكية» 2005 .  


ترجمة أحمد عبد الفتاح