العدد 742 صدر بتاريخ 15نوفمبر2021
في مقال حديث عن المسرح في العقد الأخير، لاحظ الناقد الألماني رالف هامرتلر أنه إذا كانت طفرة في مسرح التسعينيات، فهناك طفرة في دور العرض السينمائي. وباعتباره أحد أهم ممثلي هذا التطور في المسرح الألماني، يستشهد بمخرج مسرح برلين فولكسبوهني فرانك كاستروف، الذي اعترف صراحة في مقابلة مع مجلة Berliner Zeitung أنه يمكن يعثر علي المسرح الذي يحلم به “إذا كان موجودا في السينما في أفلام المخرج كوينتين تارانتينو». بعبارة أخرى، المسرح باعتباره «لب الخيال «، المسرح الذي يستخدم الصيغ السينمائية – الموسيقى التصويرية و والإيقاع والكليبات والتلاشي والاستمرار في اللعب بالاقتباسات والكلاشيهات. ويعد مصطلح «المسرح السينمائي Theatemovie” من أعراض الحاجة الملحة للعثور علي تصنيفات نقدية ومقاييس تقويمية لمنتجات الوسائط التي تتميز بأنها هجينة : فيديو الرقص وأفلام الرقص والصيغ الفيلمية للمسرحيات وما إلى ذلك. من السهل أن نقدم قائمة طويلة للأنواع عبر الوسائطية الجديدة، والكثير منها مألوف تماما. ويطرح تحديدهم مشكلة فعلا. ورغم ذلك فان الإشكالية هي تقويمهم : علي سواء من النقاد الذين يصدرون الأحكام وعلماء المسرح المحايدين. ويعتبر حكم هامرتالر الايجابي إلى حد ما علي هذه المنتجات الهجينة غير معهود في المؤسسة النقدية الألمانية. فالنزعة الهجينية عموما والمسرح السينمائي بوجه خاص هي تصنيفات تثير الشك والرفض في العقل الألماني. والمثال الأكثر تجسيدا لهذا الموقف سوف أقتبس بإيجاز من مراجعة مصطلح كاستورف «المسرح السينمائي» ومعالجته الشهيرة لفيلم داني بويل الشهير ورواية ايرفنج والش. ويشير مايكل لاجز في جريدة Deutsche Buhne إلى استعارة كاستورف الجريئة من السينما بأنه صياد مصاص دماء ومتطفل. وقد وصف كاستروف بأشياء أسوأ من ذلك بكثير في مسيرته المهنية في المسرح الألماني. ورغم ذلك، فقد كان اختيار المصطلح كاشفا. فتعبيرات مثل المتطفل وصياد الجرذان تضع المسرح في سياق عصر الوسائط. والمصطلحات واضحة لأنها تكشف موقفا أساسيا بين الجماعات النقدية والعلمية تجاه المسرح. فالاتهام بالتطفل يتضمن أن خشبة المسرح يجب أن تحافظ علي نفسها من تأثير الوسائط الضار. والأمر الأكثر وضوحا هو تعبير «صائد الفئران» لأن السؤال يطرح نفسه علي الفور «أي مجموعة من المتفرجين هم الأطفال أو الجرذان؟ ومن منظور الناقد فان الإشارة هي بوضوح لمتفرجي كاستروف الصغار الذين لا يوجدون إلا في السينما أو أمام التليفزيون، والمسرح يقدم تنازلات بتلبية احتياجاتهم.
إن ما نتعامل معه هو فصل واضح وتسلسل للوسائط في إطار منتجاتها وأنماط التلقي المرتبطة بها. والمشكلة التي أناقشها تدور حول افتراض أن هناك المزيد من الجرذان بين متفرجي المسرح بشكل أكبر مما نعتقد. وأعني بكلمة الجرذان المتفرجين الذين تشكل أفق توقعاتهم وكفاءة تلقيهم بواسطة المشهد الإعلامي غير المتجانس. وعلاوة علي السينما والتليفزيون، يجب أن نضم الفيديو والكاريكاتير وألعاب الكمبيوتر والإنترنت كتأثيرات وسائطية يجلبها المتفرجون معهم إلى المسرح. وفي حين أن هذه ليست فكرة مذهلة بأي حال، فان القضية التي تثيرها تحتاج بالتأكيد إلى المناقشة بجدية في المجال الأكاديمي للدراسات المسرحية أكبر مما هي عليه حتى الآن. فما هي الآثار المنهجية والنظرية التي تثار عندما نبدأ في تحديد موقع وسيطنا، وهو المسرح، في سياق المشهد المتعدد الوسائط ؟ وسوف أركز علي هذا السؤال الكبير بسؤال أصغر. ويمكن صياغته باختصار بهذه الطريقة : لكي نواجه التحدي الذي يطرحه تعدد الوسائط، تحتاج الدراسات المسرحية إلى أن تخضع إلى مراجعة لأحد نماذجها الأساسية : فبدلا من المنظور الذي يركز علي مبدأ خصوصية الوسائط، يجب أن تأخذ الدراسات المسرحية في اعتبارها القائمة علي المفاهيم بين الوسائطية. ويمكن تحقيق هذه النقلة النموذجية التي هي قيد التنفيذ في المسرح نفسه. ورغم ذلك فلا يوجد كثير من الأدلة بأن نفس التغيير يجري علي قدم وساق. وهذا بالتأكيد نتيجة لحقيقة أن الانتقال إلى منظور بين وسائطي يتضمن توديعا لفكرة أن تعريف المسرح كشكل فني مرتبط علي نحو ما بخصائصه المحددة كوسيط
وسوف أوضح حجتي في الخطوات التالية. وسوف أبدأ بصقل مصطلحي «خصوصية الوسائط media specificity» و«بين الوسائطية intermdiality»، مع الإشارة إلى أعمال المخرج روبرت لبياج Robert Lepage، ولاسيما عرضه الملحمي «المجاري السبعة لنهر أوتا The Seven Streams of River Ota». وسوف أختم المقال بمناقشة هذه النتائج داخل سياق مجال الدراسات المسرحية وبين الوسائطية الأوسع .
من خصوصية الوسائط إلي بين الوسائطية :
يشير مصطلح «خصوصية الوسائط»، وفقا لكلمات المنظر السينمائي نويل كارول، إلى شكل جوهرية الوسيط: إنه المبدأ القائل بأن كل شكل فني له وسيطه المميز، وسيط يميزه عن الأشكال الفنية الأخرى (...) والجوهر الوسيط الذي يملي ما هو ملائم للوسيط. وتشير النتيجة الطبيعية لهذه النظرية، أو تنّص صراحة، علي أن تعريف الوسيط يحدد مفاهيم القيمة الجمالية. وفي حالة السينما، فان الأفلام المفضلة جماليا يمكن أن تكون نلك التي تحقق الاستخدام الأكثر شمولا أو ابتكارا لخصائص الوسيط. وبتطبيق خصوصية الوسائط علي المسرح فإنها يمكن أن تتضمن تركيزا علي الموقف المسرحي الأساسي، الذي يبرز بالضرورة الحضور الفعلي المتفرجين وأسلوب أداء لا يعتمد علي التكنولوجيا الحديثة. ويجادل كارول بأن نظرية الفيلم المبكرة التي أرسها كراكور وأرنهايم تستخدم مبدأ خصوصية الوسيط كوسيلة لتقنين وسيط السينما الجديد كعمل فني .
ورغم ذلك، فان خصوصية الوسائط هي بما لا يدع مجالا للشك ابتكار نظرية السينما برغم ارتباطها الوثيق بذلك المجال. وهي ترجع في الواقع الى النظرية الجمالية الشائعة التي ظهرت صيغتها الشاملة في مقال ليسينج « الشكل اليوناني Laokoon “ الذي نشر عام 1766، حيث قدم تمييزا واضحا بين الفنون الزمنية والفنون المكانية. وبانتقاد الصيغة القديمة « الشعر كالصورة Ut picture poesis” التي مكنت الشكل الفني أن يكون نموذجا لآخر، قدم ليسينج مفهوما جديدا في النظرية الجمالية التي فضلت حجج الاختلاف والتحديد علي مفاهيم التناظر والتبادل. واستمرت نتائج هذا المنظور في الحاضر وقدمت بالتأكيد أحد دعائم الحداثة. وقد كان الناقد الحداثي كليمنت جرينبرج الذي أعلن مسألة الوسيط هو اللحظة المميزة والمحددة للفن، وبالتالي تقلب المبدأ الجمالي للنظرية الجمالية المثالية التي اعتبرت الصورة المادية للفن أقل أهمية. وبالنسبة لجرينبرج كان السعي للنقاء الوسائطي هو الهدف النهائي لكل شكل فني حداثي. وفي مقال بعنوان « النحت الجديد « كتب جرينبرج قائلا :
يجب أن يحاول العمل الفني الحداثي، مبدئيا، أن يتجنب الاعتماد علي أي ترتيب لتجربة ليست معطاة في الطبيعة الأكثر تفسيرا لوسيطها. وهذا يعني من بين أشياء أخرى نبذ الوهــم والصراحــة. فالفنون يجب أن تحقق الماديــة والنقاء، من خلال التصـرف في اطــار انفصال ذواتهــا وعدم اختزالها .
ويرجع نقد جرينبرج الفني إلى الثلاثينيات. ومع ظهور مجموعة مقالاته النقدية الشهيرة « الفن والثقافة Art and Culture ، كان المبدأ الذي يعتنقه قد ترسخ في شيء أقرب إلى الاعتقاد التقليدي. وقد كان متماثلا مع نفس براهين نظرية السينما. فبين عامي 1930و 1970 شرح العديد من منظري السينما ومنظري الفن مثل بيلا بالاش، وسيجفريد كراكور و رودولف أرنهايم، وأندريه بازان واروين بانوفسكي الاعتقاد بأن الطبيعة الفنية للسينما – بالمقارنة إلى المسرح – يمكن تمييزها بالطريقة التي استخدمت بها خصائصها المادية. لقد تحددت ميزة خصوصية الوسيط في السينما باستخدام الكاميرا والمونتاج.
وقد بدأ أن هذا الوضع مثار سؤال في الستينيات. ومن بين النقاد الأوائل سوزان سونتاج – التي في مقالها « السينما والمسرح Film and Theater “ عام 1965 استفسرت عن فكرة الانقسام الذي لا يمكن تجاوزه، والتعارض بين الفنين. واستطردت قائلة : “ لم يعد جزءا من جوهر الأفلام أن الكاميرا يجب أن تجوب مساحة مادية كبيرة، إلا أن الأفلام يجب أن تكون صامتة «. ومع التسليم بأن الوسيطين يظهران اختلافات، فقد استفسرت سونتاج ه هذه الاختلافات لها قيمة جمالية معيارية. وقد كان مقال سونتاج جزءا من الجدال الذي تحدى موقف جرينبرج الأصولي. إذ انطلقت شرارته مع ازدهار فن الأداء من بين أشياء أخرى. وهذا الجدال يشكل أيضا خلفية دفاع مايكل فرايد عن الفن ضد المسرح في مقاله الشهير « الفن والموضوعية Art and Objecthood «الذي نشر عام 1967 .
ما لم تره سونتاج، بشكل أساسي لأن الميل لم يصبح مرئيا بحلول 1965، هو طريقة رد فعل المسرح تجاه موقف جرينبرج، أي وفقا لكلام سونتاج « المحافظة علي الحواجز وتوضيحها بين الفنون .» وبعد فوات الأوان اتضح أن أواسط الستينيات وأواخرها قد شهدت محاولات لإعادة تعريف المسرح وفقا لشروط جرينبرج. وسواء كان ذلك بحث بيتر بروك عن مسرح فوري في مساحة خالية، أو مسرح جروتوفسكي الفقير لعدد مختار من المتفرجين، فيمكن رؤية كليهما كمحاولتين لصياغة المعادل المسرحي لخصوصية الوسيط في النظرية والممارسة علي حد سواء. فكلا المخرجان، علي الأقل في فترة عملهما، كانا يعملان مع مفهوم مسرح مختزل إلى أساسياته الضرورية .
وفي نفس الوقت تقريبا بدأت دراسات المسرح تعيد تعريف نفسها داخل نفس النموذج ( لاسيما وأني أتحدث هنا عن الدراسات المسرحية الألمانية ). ويمكننا أن نلاحظ ميولا بارزة لتعريف هدف الموضوع أو حتى جوهره باعتباره مشكلة في الاتصال بين الثقافي، وأعني بذلك ما يحدث بين خشبة المسرح والمتفرجين. فقد تميز المسرح كشكل خاص للاتصال المباشر وبالتالي المنفصل عن إشكال الفن الأخرى أو الوسائط. والأساس النظري لهذه المناقشة هو النظرية الاجتماعية، ولاسيما مدرسة شيكاجو في التفاعل الرمزي. ولعل أحد أبرز أنصار هذه الحركة في ألمانيا هو أرنو بول الذي كتب يقول في السبعينيات “ من الضروري أن نسأل تحديدا ومنهجيا ما هي اللحظة التأسيسية في المسرح لتحديد الهدف الأساسي لهذا المجال. الهدف الأساسي هو الأداء وتحديدا المواجهة المباشرة بين المؤدين والمتفرجين. هذا الهوس الأصولي كان مدفوعا بثلاث استراتيجيات لتمييز الحدود : لتحرير الموضوع من توجهه التاريخي الوضعي، ثانيا لوضع حد فاصل واضح بينه وبين النقد الأدبي، ثالثا وهذه هي النقطة المهمة هنا، ألا وهي أن إضفاء الطابع الجوهري علي المواجهة المباشرة مقصود به رسم حد فاصل واضح بين المسرح والوسائط التقنية السمعية والبصرية الجديدة. وأن هذا الجدال ميت بما لا يدع مجالا للشك، أو أنه غير مفهوم، ويمكن رؤيته من النقاش المستمر داخل نظرية الأداء حول حيوية المسرح. والمواقف الأساسية - سوف نسميها اختصارا «أوسلاندر في مقابل فيلان « – تعيد تأكد نفس النقاش بعد مرور عشرين سنة من كلام أرنو بول حتى لو كان ذلك بأمثلة مختلفة وإطار مرجعي أوسع .
بين الوسائطية :
وقد تمت صياغة نموذج مضاد للجماليات والمجال الذي يقوم علي خصوصية الوسيط تحت عنوان بين الوسائطية. وقد انطلق هذا المنهج من فرضية أن خصوصية الوسائط كما عرفناها سابقا هي في أفضل الأحوال ظاهرة عرضية تاريخيا، وفي أسوأ الأحوال بناء نقدي وفكري يجعل الكثير من المسرح المثير للاهتمام في العقدين نوعا من الخردة النقدية. ومن وجهة نظر العلم فقد أصل مصطلح بين الوسائطية الكثير من البحوث والدراسات داخل العلوم الإنسانية، ولاسيما في العالمين المتحدثين بالألمانية والفرنسية. وفي العالم الناطق بالانجليزية اكتسب المصطلح رواجه ببطء. إذ بدأت المناقشات في الثمانينيات بالعلاقة المتبادلة بين النص والصور في فن الكولاج السيريالي والدادي. وتلا ذلك ظهور عدد من الدراسات في اقتباس الأدب في السينما كشكل من أشكال تحويل الوسيط. وقد احتضنت دراسات السينما المصطلح في أعمال بيتر جرينواي التي شكلت ربما موضوع البحث الأكثر شهرة. وقد بدأت دراسات المسرح في مناقشة المصطلح بجدية. وبسبب تاريخ المصطلح وبدايته في النقد الأدبي والنقد السينمائي فلا يوجد له تعريف مقبول عموما حتى الآن. وفي أفضل الأحوال يمكننا أن نميز ثلاثة مجالات لتطبيقه، كلها تستخدم المصطلح : يمكن أن تفهم بين الوسائطية كالتالي :
1 – نقل المستوى الصوتي من وسيط إلى آخر .
2 – نوع محدد من التناص .
3 – محاولة فهم التقليد الجمالية وعادات السمع والرؤية لوسيط داخل وسيط آخر .
بالطبع يشير التعريف الأول – انتقال المضمون بين الوسائط – الى أسئلة الاقتباس المألوفة – مثل رواية « الحرب والسلام « والفيلم، ومسرحية « هنري الخامس « والفيلم – اللذان يوجد فيهما عدد من الدراسات. ورغم ذلك، يميل مجال البحث هذا إلى وضع نفسه علي نموذج خصوصية الوسائط، ويطرح سؤال كيف تحتاج الوسائط المختلفة في تعريفها الى تغيير وتبديل معين .
والتعريف الثاني – بين الوسائطية المفهومة كامتداد لمصطلح التناص بالنسبة للعلاقة بين منتجات الوسائط – قد تطور في مجال الأدب المقارن وطبق أساسا علي فئة معينة من النصوص التي ضمت صورا مثل رسوم الشاعر ويليام بليك في قصائده وقصائد الشعراء الآخرين. ومشكلة هذا التعريف هو أنه عرضة لنفس التضخيم المفاهيمي مثل سابقه. لأن النظرية الأدبية ترى أن التناص هو الشرط الأساسي في إنتاج النص – فلا توجد نصوص ليست متناصة مع أخرى، ويمكن تطبيق نفس التعميم علي بين الوسائطية. وإذا ضيقنا مفهوم التناص لكي يعني إستراتيجية معينة للإشارة الواضحة إلى ذرائع معينة، عندئذ يصبح تركيز المصطلح علي مستوى المضمون فضلا عن البعد الشكلي للمفهوم الذي تحدده تقاليد الوسائط .
وهذا الجانب الأخير – ملاحظة تقاليد الوسائط في وسيط آخر - هو الاختيار الثالث الذي يميز بين الوسائطية بمعنى أضيق وأكثر فائدة. وهذا هو المعنى الذي سوف أستخدمه في بقية هذا المقال. فالعبارة الأساسية هنا هي الاصطلاح. وهذا يعني أنه ينظر إلى الوسائط كمجموعة من التقاليد العرضية تاريخيا، والتي يمكن الاستناد إليها في صيغها التقنية. ويمكنني بالتأكيد أن أجادل بأن مفاهيم مثل «سينمائي « و « تليفزيوني» يمكن تمييزها وربما متفق عليها كلية ( علي الأقل لفترات معينة ). ورغم ذلك، فان هذا لا يعني أن مفهوم خصوصية الوسائط يعاد تقديمه بهذه الطريقة من الباب الخلفي، كما يجادل بيتر بونيش علي سبيل المثال .
لم يستمر التبادل بين الوسائط علي مستوى المضمون فقط، ولكن أيضا علي مستوى أعمق من التقاليد والمفاهيم التي لوحظت وتم التعليق عليها في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. وقد اهتم كل من والتر بنيامين وبرتولت بريخت بهذا السؤال: فقد جادل والتر بنيامين في مقاله الأساسي عن الفن وإعادة التقديم الآلي بأن المفهوم مشروط تاريخيا علي أساس التطورات والتغيرات التقنية. وفي عام 1931 نشر بريخت تقريرا عن المحاولة التي أحاطت باقتباس فيلم «أوبرا البنسات الثلاث». وأوضح في قول مأثور قائلا « يقرأ مشاهد السينما القصص بشكل مختلف «. ولكنه كتب أيضا « القصص هي أيضا مشاهد السينما «. فلا رجوع عن تحويل الأدب إلى التقنيات. وبهذه المقولة البليغة نجد فعلا عناصر مفهوم بين الوسائطية. والأهم من ذلك أنها توضح سؤال مؤثرات كل من التقديم والتلقي : مشاهد السينما يقرأ القصة بطريقة مختلفة، ومنتج هذه القصص هو أيضا عرضة لنفس التأثيرات .
إذا عرفنا بين الوسائطية علي أنها محاكاة لتقاليد أو تحقيقها وأنماط سلوك وسيط ما في داخل وسيط آخر، فيجب علينا أن نسأل في الخطوة التالية عن المعايير التي يمكننا التعرف عليها ودراسة مثل هذه الاستراتيجيات. ففي حالة المسرح مثلا لابد لنا أن نسأل إذا كان استخدام السينما أو الفيديو أو حتى عروض الشرائح و العامل المحدد التناول بين الوسائطي: وهنا لدينا إشكالية مصطلح المسرح متعدد الوسائط، علي الرغم من أنه متعدد الوسائط، كما تميل نظرية السيميوطيقا إلى مثل هذا التعريف .
الحدود مختلطة بالطبع، فالمسرح متعدد الوسائط كما هو شائع ربما يتبع إستراتيجية بين وسائطية بالطبع. وعود الأمثلة إلى عشرينيات القرن الماضي مع استخدام اروين بسكاتور للسينما وعروض الشرائح والتي لا تدل فقط علي استخدام الوسائط التقنية لكي يضع الخلفية التاريخية في سياقها بل أيضا لمقارنة مختلف الوظائف علي مستوى شكلي وإدراكي. والأمثلة المعاصرة كثيرة. فمختلف الفرق المسرحية والفنانين في نيويورك مثل ووستر جروب وجون جيرسرون وبيلدر أسوسياشن هي من المنظور الأوروبي علي الأقل من المؤيدين المشهورين لهذا التناول .
وسوف أبحث في بقية هذا المقال أعمال روبرت ليباج ولاسيما عرضه “المجاري السبعة لنهر أوتا “ لكي أقدم بمزيد من التفصيل التصنيفات التحليلية لدراسة ما بين الوسائطية .
لقد تطور عرض «المجاري السبعة لنهر أوتا» علي مدار أربعة أو خمسة سنوات بين عامي 1994 و1998. وفي صياغته الأخيرة تكون من سبعة أجزاء شغلت مدي زمني خيالي مدته خمسين عاما، واعتمد زمن العرض الذي يزيد علي ثماني ساعات علي طول الاستراحة بين الوجبات وسوف أحصر شرحي في أربعة مشاهد من الجزء الأول. فالجزء الأول يحمل عنوان «الصور المتحركة ويحكي عن العلاقة بين مصور في الجيش الأمريكي (وهو لوك أوكونر )، الذي أسندت إليه مهمة تصوير الضرر الذي لحق بالمباني بسبب القنبلة الذرية التي ألقيت علي هيروشيما، والشخص الذي نجا من القنبلة (وهو نازومي) التي تشوه وجهها .
بوابة مياجيما
تعرض صورة بوابة مياجيما علي الشاشة. وتعزف موسيقى الجاجاكو. يظهر جندي أمريكي وبحار ياباني في صورة سولويت خلف الشاشة. البحار يساعد الجندي في وضع أمتعته - صندوق عدة وكاميرا علي حامل ثلاثي القوائم – داخل القارب وينطلق. تتحول صورة الخلفية إلى فيديو لخليج مياجيما. يضع الجندي مقياس الضوء، ويجهز الكاميرا ويلتقط الصور. عندما يصل القارب إلى رصيف صغير، يساعد البحار الجندي في النزول. تتلاشي صورة الرصيف بينما تدخل امرأة عجوز ترتدي كيمونو إلى خشبة المسرح من اليمين وتدخل المنزل .
– كعكة الجبن
تظهر صورة سلويت لجندي أمريكي يحمل فرشاة دهان علي الشاشة، ملونة بخطوط. تدور الموسيقي، مزيج من الأبواق الفرنسية و آلات الإيقاع. يبدأ الجندي في الدهان بفرشاته. صورة فوتوغرافية تدخل طائرة عسكرية أمريكية من الأربعينيات. تتحول الصورة إلى فيديو للطائرة وهي تطير. يرفع الجندي يده لأعلي فتتوقف الطائرة فجأة – يتجمد الفيلم في كادر واحد. يدهن الجندي الطائرة، يبدأ الفيلم في الدوران ثانية وتطير الطائرة حتى تكاد تصدمه. يلتقط الجندي الدلو ويشير للطائرة ويقذف الدهان في الشاشة الى خطوط ثانية. يدهن ثانية يزيل صور امرأة ترتدي ملابس ضيقة مرسومة علي جانبي الطائرة. يرمي بالمزيد من الدهان علي الشاشة، يرسم طائرة تسير علي المدرج. يجري ورائها ولكنه لا يلحق بها ويختفي في الجانب الأيمن من خشبة المسرح، وتقلع الطائرة مرة أخرى. إظلام .
– صور الزفاف
تدخل الحماة ومعها ألبوم، تضعه علي العتبة وتركع لتفتحه. نسمع موسيقي الجونج أشبه بالحلم طوال المشهد. ثم تفتح ثلاثة أبواب منزلقة لكي تظهر الشاشة. إحدى الصور التي تنظر إليها، لموكب زفاف ياباني يظهر علي الشاشة. تتحول الصورة إلى فيديو، بينما يقترب موكب الزفاف تقف الحماة وتلمس وجه العريس، ولكن الصورة تختفي. يبدأ فيديو جديد لحفل الزفاف. تركع الحماة أمام الشاشة. يصفق العريس والعروس مرتين علي الشاشة كجزء من الاحتفال وتصفق الأيدي خارج خشبة المسرح بالتزامن مع صورة الفيديو. تصفق الحماة معهم. يتجمد المشهد علي الشاشة ؛تقف الحماة وتصرخ بحدة وتضرب يديها علي الشاشة عدة مرات، تصغر الصورة مع كل ضربة، حتى تصبح ملائمة لكي تضع عليها يدها وسحبها داخل الألبوم الذي تغلقه وتأخذ خارج خشبة المسرح.
– العروسة
صورة قطار يمر عبر الشاشة؛ تدور موسيقي القطار من المشهد (5). يظهر ثلاثة جنود من بينهم لوك خلف الشاشة، ويصنعون صور سلويت ضخمة. يجلس لوك ويده منحنية. ودمية الزفاف في حجره، وهي مغطاة بالقماش. ينزع القماش وتظهر الدمية وتتحول ببطء وترفع يدها. يرفع لوك رأسه. تتحرك الدمية تجاه وجه لوك وتدير يديها أسفل صورته. تذهب لتقبيل شفتي لوك وهي تتحرك، وتختفي صورتها في صورة لوك. يقف لوك ويتجه إلى الجمهور. تصوب الأضواء نحوه للحظة. إظلام .
هذه المقتطفات القصيرة توضح أن المسرحية تتكامل في تقنيات الأداء المسرحي وطرق المشاهدة المرتبط بمختلف الوسائط – من بينها السينما والتليفزيون والفيديو. علي الأقل نحتاج إلى تمييز ثلاثة مستويات تفاعل منفصلة. فنحن ندرك الوسائط (1) كوسيط مؤطر، (2) علي المستوى الداخلي، باعتبارها وسائط داخل الوسائط، (3) علي المستوى الفكري. فالوسيط المؤطر هو المسرح الذي يتزعزع بينما يتفاعل الممثلون الفعليون مع مختلف الصيغ التقنية. وهذه تشكل مختلف أنواع الوسائط الداخلية، والفئة الثانية التي تتضمن السينما والفيديو والتصوير الفوتوغرافي. الوسيط الفكري الرئيس، كم سنرى هو التصوير الفوتوغرافي، الذي برز عموما من خلال حضور الكاميرا واستمر يلعب في الواقع دورا طول العرض. وأصبح عنصرا أساسيا، يربط مختلف خيوط الحدث بينما ينتقلون الى الخلف والأمام خلال ثلاث قارات في زمن خمسين سنة. التصوير الفوتوغرافي هو وسيط الذاكرة في القرن العشرين .
الوسائط الداخلية : الحركة والجمود :
يميز استخدام مختلف الوسائط الداخلية من كل أشكال المسرح متعدد الوسائط. ورغم ذلك فان هذا المصطلح مخادع، لأنه يفترض وجود مسرح ليس متعدد الوسائط، والذي يعيدنا إلى التعريف السيميوطيقي للمسرح. ولذلك يمكننا فقط أن نقول أنه لأسباب تاريخية معينة ما نزال نفهم استخدام مختلف الوسائط الداخلية بأنها غريبة علي نحو ما عن طبيعة المسرح. وبالتالي من المفيد أن نفكر في مثل هذه الصيغ التقنية في إطار اصطلاحيتها فقط : بمعنى أن ما نربطه بهم عادة هو في إطار الوظيفة والمضمون. فالمشاهد التي تعرض تستخدم مختلف الوسائط وفي نفس الوقت تلفت الانتباه إلى اصطلاحيتها. فالصور الثابتة توحي أو تحاكي التصوير الفوتوغرافي جون أن تكون كذلك فعلا ( بالمعنى الأنطولوجي للوسائط). فالمشهد الافتتاحي من عرض « توري مياجيما « قد تحول إلى صور متحركة لرحلة مركب عبر الخليج باتجاه هيروشيما. وفي مشهد «صور الزفاف» حدث عكس التباين. فالفيلم العائلي لحفل الزفاف الياباني التقليدي قد تجمد إلى صورة فوتوغرافية للعريس الميت، والذي استحال إلى ألبوم صور موقعة. وتتضمن ملحوظة رولان بارث الشهيرة التي تقول إن كل صورة لشخص من الماضي والتي تتضمن شعورا مسبقا بموته تظهر من خلال النقل الوسائطي من السينما إلى الفوتوغرافيا ومشحونة عاطفيا من خلال التفاعل مع الشخصية المسرحية. من بين أمثلة التقاليد السينمائية المتعددة المستخدمة، فان أبرزها هو تلاشي عنوان «الصور المتحركة» فوق الصور المتحركة بالتنسيق مع تصاعد الموسيقى إلى الكرشيندو. في هذه اللحظات تتحول خشبة المسرح إلى سينما، ولكنها بالطبع تظل مسرحا بفضل حضور الممثلين. وحقيقة أنهم مرئيون كظلال يلفت الانتباه إلى تقاليد مسرحيات خيال الظل وجذورها في أسيا علاوة علي الاحتمالات المعاصرة للتجريب عبر الوسائط. هذه الأعمال القديمة مع التكنولوجيا المتقدمة تخلق ترابطات تاريخية غير عادية للوسائط. فنرى أن انعكاس الضوء هو أساس تقنيات الإيهام القديمة والجديدة .
إذا استدعى المشهدين الأول والثالث ارتباطات بوسيط السينما ( حتى لو صدرت الصور من آلة عرض فيديو) فان المشهد الثاني الذي يحمل عنوان « كعكة الجبن» يقدم استخداما واضحا لفن الفيديو ويشير إليه. وفي هذا المشهد يتم استخدام نفس مزيج الممثلين الحقيقيين والصور المتحركة كما في المشهدين الآخرين، مع فارق مميز هو أنه يشار إلى الصيغة الجمالية. ولا توجد بالكاد أي محاولة لتقديم علاقة صوتية في أو عاطفية مميزة للسينما. وبدلا من ذلك يستحضر ليباج بمساعدة الجماليات الترابطية لفن للفيديو والتحريك باستخدام الكمبيوتر تركيبا من الصور تترسب في ذاكرتنا الجمعية : القنبلة الذرية علي هيروشيما وبنات الهوى. وعنوان كعكة الجبن نفسه، الذي يظهر في النص المنشور، يجعل العلاقة ببنات الهوى واضحة. وفي موضوعات الرغبة هذه، التي يزين بها الطيارون الأمريكيون محركات التدمير، تنعكس أحد أهم المبادئ المهيمنة في العرض ككل، وهو تحديدا تعايش الرغبة مع غريزة الموت .
الوسيط الفكري : التصوير والذاكرة :
ينشئ الظهور الأول لمصور الجيش لوك أوكونر بحامل الكاميرا كل من الصورة والفكرة، والتي تحمل معها، أكثر من الشخصيات نفسها، الأجزاء السبعة لعرض “ المجاري السبعة”. ويتأسس التاريخ المعاصر، ولاسيما تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين، بدرجة كبيرة، من خلال الصور الفوتوغرافية، التي تنشرها مختلف وسائل الاتصال. ومثل هذه الصور هي مكونات ضرورية لذاكرتنا التاريخية والعامة والعلاقة بين البعدين التاريخي والعام للصورة يتمثل في قصة مصور الجيش أوكونر وعلاقته بالمرأة اليابانية نازومي، الناجية من القنبلة. والصور التي يلتقطها هي جزء من مهمته الرسمية في جزء تال من العرض التي تؤدي الى لقاء بين ولديه الأمريكي والياباني .
علي الرغم من أن وسيط التصوير الفوتوغرافي، بوظائفه الخاصة والعامة وكذاكرة تاريخية هو الموضوع الرئيس في العرض، فلم يستخدم ليباج أي صورة فوتوغرافية لوظيفة تسجيلية. ولا توجد عروض شرائح لتدمير هيروشيما. فكل هذه وكل الفراغات الصوتية ممثلة بعدد من وسيط المسرح المؤطر. وبالتالي تظل الفوتوغرافيا موضوعا ولن يتم تجسيدها للمتفرجين .
اللعب بالاطار :
يشكل وسيط المسرح في عرض « المجاري السبعة لنهر أوتا « أكثر من إطار واضح للحدث. وبسبب حقيقة أن ليباج يوظف عددا كبيرا من الصيغ المسرحية من مختلف الثقافات والأصول، فان الوظيفة الوسائطية للإطار المسرحي تصبح ذاتية الانعكاس. وتضم الأساليب المستخدمة أو المشار اليها : مسرح النو وعرائس البونراكو وخيال الظل والرقص الياباني الحديث ( البوتو) والنزعة الطبيعية الجادة وحشوة الفيديو الهزلية من خلفية المسرح. وتناقش الايجابيات والسلبيات ( والذي هو النكتة لأن العرض في مجمله يقوم علي هذا المبدأ ) وكما رأينا مختلف عرض أساليب الوسائط المتعددة يتم تنفيذها في العرض. والعرض الذي يحاول أن يمزج ما يسمى خصوصية المسرح بصيغ الوسائط المتعددة ليس موضوعنا هنا. ورغم ذلك فيظل السؤال هو أين يمكن أن توجد الاستراتيجيات بين الوسائطية في هذا المسرح .
مسرح ليباج هو مسرح بين وسائطي، لأنه، علي الرغم من وضع وسيط المسرح في إطار غير مستقر حتى الآن، فقد تبدو طرق مشاهدتنا أكثر تليفزيونية أو سينمائية. والسينما الروائية بتقليديتها الصارمة الآن تقدم أكثر نقاط المرجع المتكررة لإعادة وضع الإستراتيجية بين الوسائطية داخل إطار. فتقاليد مثل الإظلام والترجمة عندما يتم التحدث بلغة أجنبية، وبنية السرد المتقطعة كلها أمور تشير الى محاولة محاكاة التقاليد السينمائية داخل وسيلة المسرح. هذا التجريب في المحاكاة الوسائطية هو بلا شك خاص بعرض « التيارات السبعة « ولكنه يميز أعمال ليباج منذ الثمانينيات. والمثال الواضح لاستخدام الصيغ السينمائية بدون استخدام وسيط السينما فعلا يمكن أن نراه في عرض عام 1987 الذي يحمل عنوان “ الموضوعات المتعددة polygraph « الذي قدمه ليباج كمشاهد سينمائية. وفي أحد الأمثلة المهمة يخلق ليباج منظورا للمتفرجين غير مألوف في السينما أو التليفزيون .
تنفصل لوسي عن الأرضية لكي تأخذ نفس الوضع أمام الحائط: في نفس الوقت، يضع كل منهمـا قدمـا علي الحائـط، ويديران جسميهما أفقيا لكي يظهــر أنهمــا في لقطــة سينمائية كلاسيكيـة للجثة. يتصافح كل من فرانسوا وديفيد فوق جسدها .
المهم هنا ليس المنظور الإدراكي – فنحن نرى في المسرح بطريقة ما أننا عادة نرى في السينما فقط – ولكن أيضا حقيقة أن ليباج يقتبس بوعي التقاليد الإدراكية ويقارنها : وإرشادات خشبة المسرح المطبوعة تقول “ يبدو أنهما في لقطة سينمائية كلاسيكية للجثة. والمهم هنا هو تعبير “ لقطة سينمائية كلاسيكية “. فهو يعرض فيلما بدون سينما. وباستخدام الحيل المسرحية البسيطة – اذ يتحقق التأثير بتغيير بسيط في أوضاع الجسم وتغيير الإضاءة – يبدو أننا ننظر من خلال كاميرا. وفي سياق جدال خصوصية الوسائط أو بين الوسائطية فيجب قراءة هذا المشهد كنقاط انتصار واضحة للمسرح فقط بل بالأحرى كبرهان علي اصطلاحية وتاريخية ما يسمى خصوصية أشكال تعبير الوسائط .
ومجال التعبير المحدد هنا، والذي اصطلحت علي أنه المسرح بين الوسائطي يمكنه أن يواجه معارضة شرسة، ولاسيما بين المؤسسة المسرحية النقدية الألمانية. وهذا يعيدنا الى مشكلة «الجرز» التي ناقشناها آنفا. ولم يلق عرض ليباج « مجاري نهر أوتا السبعة « ترحيبا نقديا. واستشهد هنا بالناقد فرانز فيلي وهو ناقد كبير في مجلة المسرح اليوم، وهي أبرز المجلات المسرحية في ألمانيا : « ما الذي يفترض أن نصنعه مع عرض ليباج ، فماذا بعد أن تم تقديم ملحمة الأسرة الأمريكية اليابانية الكندية في صيغتها النهائية في مهرجان المسرح العالمي في درسدن ؟ لم يقدم الكثير وفقا ل فيلي. فهو يقارن ملحمة هذه الأسرة مع الجيل الثالث في المسلسلات التليفزيونية الأمريكية. فدقة الأنساب الخاصة بها منطقية مثل شجرة عائلة المثلي الجنس ذي الشعر المجعد. أو أسوأ، الآن يلجأ فيلي الى أكثر الأسلحة الفتاكة في ترسانة الذم النقدي الألماني ؛ فهو يمنح العرض اللمحة الأخيرة عندما يقول : « يمكن أن يحقق الحوار مستوى المسلسلات، ان لم يكن ساذجا جدا .
المسرح مثل المسلسلات. يمكن مقارنة هذا الحكم المدمر بملاحظات ليباج الذي قال في عدة مناسبات أنه مهتم باكتشاف العلاقة بين المسرح والوسائط الأخرى : واستشهد بحوار نشر في إحدى الجرائد الألمانية :
أنا ببساطة مهتم باكتشاف كيف سيكون مسرح المستقبل. ولا يمكننا أن نتجاهل مفردات السينما – وكيـف يمكنـنا أن نحكـي القصص بواسطة السينما. والمشاهدين يعرفون هذه المعلومـة في النهايــة، فقـد اعتــاد علي القصص التي تــروى بقفزات من خلال موسيقى الفيديو. وسوف يصل هذا الإيقـاع المتقطع إلى المسرح .
ويتجلى هنا تناقض كبير : فمن ناحية، ساحر المسرح الفرنسي الكندي، المهتم بمستقبل المسرح في عصر الوسائط. ومن الناحية الأخرى، الهجوم علي هذا الهدف ووسائله الجمالية من ناقد ألماني بارز. علي الرغم من أن ليباج لاحظ أن النقاد الألمان قساة عليه والفرق بين الموقفين ليس فقط مسألة عدم التوافق بين الفنان المستقل وناقد قاس. وهذه هي أعراض مشكلة عميقة الجذور التي تتجاوز الأفراد والثقافة المسرحية .
تمثل أعمال ليباج علي المستوى الفني المفاهيم الأساسية للنقاش النظري الذي يدعم مفهوم بين الوسائطية. وأجادل بأن فيلي والنقاد من أمثاله، ما يزالون موجودين في نموذج خصوصية الوسائط. فلم يعمل ليباج بوسائط مختلفة فقط – المسرح والسينما – والتي هي في ذاتها ليست غير عادية، بل ان التركيز الأساسي لنشاطه وفرقته المسرحية « Ex machine” التي أنشأها، تتوجه الى مسألة اكتشاف كيف تتفاعل مختلف الوسائط وتؤثر في بعضها البعض. وتضمن هذه المشروعات سؤال وضع المسرح في التكنولوجيا الرقمية والانترنت المستجدة. ويكمن عدم التوافق في الرفض الأساسي لهذا النوع من السعي للمسرح .
المنظورات :
في الختام أود أن أناقش المنظورات المحتملة ومجالات البحث في دراسات المسرح التي تقوم علي النموذج بين الوسائطي أو تنطلق منه .
متفرج المسرح هو متفرج ذو كفاءة ومعرفة في مختلف أنواع الوسائط. مع العلم بأن هذا الظرف لا يعني أن المسرح يجب أن يشارك في نفس جماليات القطع السريع. وتحتاج ساعات عرض « المجاري السبعة» لمتفرج صبور بشكل غير عادي، يرغب في التكيف مع الطرق متغايرة الخواص للسمع والرؤية. ومن وجهة نظر البحث، من الضروري أن ندرس مختلف جماليات الوسائط مثل مسألة الاصطلاح، أي ممارسات الرؤية والسمع الناشئة تاريخيا فضلا عن الخصائص الأساسية التي تحددها العوامل المادية.
وإذا تناولنا بين الوسائطية كنموذج تاريخي فلا بد أن يفهم المسرح في المثال الأول باعتباره وسيط تكراري hypermedium كان قادرا دائما علي توحيد وتمثيل وأحيانا يجعل الوسائط الأخرى موضوعا. وهذه القدرة ليست اكتشافا حديثا لأروين بسكاتور، أو وستر جروب أو روبرت ليباج فحسب. فمن الممكن أن يكون المنظور بين الوسائطي مثمرا للبحث التاريخي في المسرح، اذا كان السؤال مثلا عن أن الأداة التقنية كان تُدرس بمزيد من الاهتمام، وليس كسؤال منفصل ولكن في علاقته بجوانب المسرح الأخرى. فقبيل ما يسمى اختراع الوسائط الجديدة، كان المسرح وسيطا تكنولوجيفي حوار مع الوسائط الأخرى. والتبادل واضح في مسألة الكتابة والأهم من ذلك ابتكار الطباعة. وقد غيرت مؤسسة ماكلوهان جوتنبرج جالاكسي وسيط المسرح بشكل أساسي مع آثار واسعة في العلاقة المتبادلة بين اللغة والأداء والتلقي. وكان التفاعل بين الوسائط أكثر وضوحا في مجال التكنولوجيات الإيهامية مثل الفانوس السحري والبانوراما والديوراما والتصوير الفوتوغرافي بالطبع. وعلي الرغم من أنه قد تم بحث تطور هذه الوسائط منفصلة، فان معرفتنا بترابطها مع المسرح يظل متشظيا .
علي المستوى النظري يمكن أن تحتاج النقلة إلى بين الوسائطية أن تشارك دراسات المسرح بنقاش مركب لنظرية الوسائط. وإذا كان هناك مركزي ثقل في متاهة مجال خطاب الوسائط : نظريات الوسائط الموجهة للنص والموجهة تقنيا، عندئذ من الصعب أن يتناسب المسرح مع أي منهما. ولذلك يجب أن نسأل عما إذا لم يكن هناك مسار ثالث لاكتشافه، مسار يحتم بحث ملامح معينة للوسائطية المسرحية. وإذا عرفنا المسرح بأنه وسيط تشعبي hypermedium، عندئذ فان أحد هذه الملامح هو إمكانية أن يحقق كل أنواع الوسائط الأخرى ويمثلها. البث التليفزيوني المباشر المندمج في الأداء هو البث التليفزيوني، ولكن بفضل قدرة المسرح علي تسجيل أي شيء يضعه في إطار، وأيضا المسرح باعتباره سيميائيين وفينومينولوجيين لم يكلوا من إخبارنا أبدا .
وإذا استغل المسرح فجوات العلاقات بين الوسائطية، عندئذ لا يمكن لدراسات المسرح أن تتابع في أعقاب ذلك. هذا يعني أن الموضوع لا يمكن أن يعرف نفسه بالتمييز المضاد للوسائط الأخرى بافتراض وضع دفاعي. وعلي العكس من ذلك يجب أن يعرف المجال المسرح باعتباره الوسيط الذي يكون الميل فيه بين وسائطي، بمعنى أنه مفتوح للتحدي. وكل متفرجي المسرح اليوم، لديهم كفاءات وسائطية تحت تصرفهم. والمسرح مثل الذي اكتشفه ليباج يفتح منظورا جديدا لعلاقة المسرح تجاه الوسائط التقنية، والتي منذ بداية القرن السابق فرض أكبر تحدياته. وإذا كان لا بد أن يحقق المسرح المزيد للجيل الجديد من المتفرجين ولا يصبح الوتر الرباعي للقرن الحادي والعشرين، فلا بد أن يحدد علاقته بالوسائط الأخرى في الانفتاح والتبادل المثمر. ونحن كنقاد ومتخصصين في المسرح يجب علينا أن نفعل نفس الشيء. ثم في النهاية لن يكون ممكنا أن نشوه المسرح بين الوسائطي علي أساس أنه شكلا من أشكال صيد الجرذان، لأننا عندئذ سنكون جميعا جرذان .
................................................................................................
هذه المقالة هي نسخة منقحة من ورقة بحث نشرها المؤلف باللغة الألمانية بعنوان «Crossing Media – film- thater fotografie – Neue Medien» عام 2004
كريستوفر بالم يعمل أستاذا للدراسات المسرحية في جامعة أمستردام