تقنيات الفانتازيا وسؤال الحاضر في مسرحيات إبراهيم الحسيني

تقنيات الفانتازيا وسؤال الحاضر في مسرحيات إبراهيم الحسيني

العدد 711 صدر بتاريخ 12أبريل2021

تدور مسرحيات مجموعة «قضية إسكات الببغاوات»، للكاتب إبراهيم الحسيني، الصادرة حديثًا عن دار يسطرون للنشر، حول تجليات قضايا العدل والحرية والمسؤولية الاجتماعية، والعلاقة بين الماضي والحاضر، مستخدمًا بعض تقنيات الفانتازيا المُحملة بالعديد من الرمزيات المرتبطة بالراهن المجتمعي.
وبما أن كل النصوص هي إعادة تدوير لنصوص سابقة، كيفما يرى جاك دريدا وآخرون؛ يُمكن فهم النص الأدبي على أنه مجرد امتداد لنص أو عدة نصوص في الماضي. بل إن التلقي قائم في الأساس على دينامية هذه الامتدادات العابرة للزمن بين النصوص في الماضي والحاضر.
تتجاوز عملية خلق الامتدادات، ما يعرف بالإحالات المرجعية، أو إعادة التدوير. وهي تتكئ على عناصر البناء الدرامي، والمعرضة طوال الوقت لـ «التناص». بهذه الطريقة يمكن النظر إلى كل عمل جديد على إنه تجميع جديد لعمل قديم.
تعالج مسرحيتا «قضية إسكات الببغاوات، قضية العدالة الفاسدة»، مواضيع اجتماعية راهنة، نوقشت سلفًا بطرق تقليدية، ولكن استخدام تقنيات الفانتازيا في معالجة هذه المواضيع جعلها في ثوب جديد، وحضور جديد مختلف. إذن؛ كيف حدث ذلك؟

لماذا لا تسكت الببغاوات؟
عندما نعيش بين فواصل الحدث الدرامي الرئيسي -وهو انزعاج السكان من جارتهم الجديدة بسبب أصوات ببغاواتها الثلاث- داخل القفص مع الببغاوات، نجد أننا بصدد حدث درامي آخر وهو ما تراه وتدركه هذه الببغاوات عن العالم، وعن سيدتها، وعن نفسها، وأن لها احتياجات ورغبات من السهل وصفها بإنها إنسانية.
ليس الاتكاء على تقنيات الفانتازيا يعني أننا بصدد بنية درامية خيالية تمامًا، بالعكس؛ فإن الإطار العام في مسرحية «قضية إسكات الببغاوات»، واقعي للغاية. ولكن أنسنة الحيوانات والجمادات من تقنيات الفانتازيا الشائعة. وهو ما يُحسب لهذا النص ميزة المعالجة الدرامية المبتكرة. فالأمر لم يتوقف عند استنطاق هذه الببغاوات فقط، بل وأنسنتها أيضًا، أي إكسابها صفات إنسانية تمكنها من التحدث، والتصرف كإنسان. فهي تحب وتغضب، وتشعر بالغيرة، وترغب في الشعور بكينونتها وإثبات وجودها.
تدور مسرحية «قصية إسكات الببغاوات»، حول صراع الجيران مع جارتهم الجديدة بسبب أصوات 3 ببغاوات تزعجهم وتعكر هدوء حياتهم. ونعرف من سياق الحوار أن الجارة جاءت إلى هذا المكان بعد أن تم ترحيلها من قبل جيران آخرين لنفس السبب. ولكنها هذه المرة تتمسك بالاحتفاظ بالببغاوات والبقاء في منزلها. ويتصاعد الصراع حتى يصل إلى الشرطة، وبعدما تفشل المحاولات الودية، يتدخل القاضي، والذي يفكر: إما أن تستغني السيدة عن الببغاوات أو ترحل، أو يتم إسكات هذه الببغاوات.. ولكن كيف يحدث ذلك؟
يعيش الببغاوات الثلاث في قفص؛ ويدور الصراع بين الذكرين على الأنثى الوحيدة التي معهما، ويسأل أحدهما شريكه في القفص: «لماذا تحظى بأنثى بينما أظل وحيدًا؟ يجب أن تأتي لي هذه السيدة الغبية بأنثى، وإلا سأضطر لإرغامك على مشاركة نفس الأنثى معك».
هذا الحديث الذي يدور بين الببغاوات لا يستطيع الجيران سماعه سوى مجرد ضجيج، وتقول إحدى الجارات: «مرة أخرى تقلقون راحتنا، كم هي مزعجة هذه الساكنة الجديدة». ومع الحوار الدائر بين الببغاوات الثلاث نشعر أننا في مسرحية أخرى داخل المسرحية الرئيسية، عالم داخل العالم.
ساهم استخدام حيلة التناوب في كشف الشخصية الرئيسية بشكل دينمايكي وسلس، ووضعها في بؤرة اهتمام المتلقي منذ اللحظات الأولى. فـ هويدا في نظر الببغاوات غبية لأنها لا تفهم لغتهم ولا يمكنها تحديد احتياجاتهم الحقيقية. وهويدا مزعجة في نظر جيرانها لأنها لا تستطيع أن تتفهم حاجة سكانها للهدوء، ولا تستطيع أن تشعر كم ببغاواتها مزعجة. وهويدا في نظر القاضي؛ مجرد شخص مهمل لا يبذل الوقت الكافي في رعاية الببغاوات التي في كنفه، ويطلب منها القاضي أن تتغلب على تقصيرها وتقترب من الببغاوات وتستمع إلى مشاكلها.
وهذه البنية الدرامية التي تعتمد على أسلوب المشاهد الفرنسية القصيرة، هي ما ساعدت على صياغة العالمين وربطهما ورصد التناقضات بينهما في سلاسة وعمق. ونلاحظ أن بنية كل مشهد من مشاهد هذه المسرحية تكون على نطاق مسرحية صغيرة، بمعنى أنه يحتوي على كافة العناصر الدرامية من صراع وشخصيات ومضاعفات وتعقيدات ثم النهاية.
القاضي: لقد مللت من هذه القضية الغبية، هذه ثالث حلسة قضائية ولا نصل فيها لشيء.. سأضكر آسفًا لاستقدام خبير في أحوال الطيور، وتعيينه مراقبًا لأصوات وحركات الببغاوات لمدة 3 أيام، وموافاتنا بتقرير شامل يتضمن إذا ما كانت هذه الببغاوات تحدث ضجيجًا يستجيل العيش معه أم لا؟ وذلك حتى يتسنى لنا الحكم، وعليه تتحمل السيدة هويدا وجيرانها مصاريف انتقال وأجر هذا المراقب، رفعت الجلسة..
ولكن نهاية المشاهد عند إبراهيم الحسيني في هذا النص ليست نهاية نهائية، بل هي بطبيعة الحال نهاية مرحلية. فالنهايات تبدو كأنها سلسلة من الكلمات المفتاحية التي يهتدي بها المتلقي خلال المشهد التالي. بمعنى أن هذه النهاية تمثل جزءا واحدا من الحدث، ولكنها مع ذلك تترك الطريق مفتوحا لنمو الصراع في المشاهد التالية. وهذا ما دفع الكاتب المسرحي إلى الحرص على أن تكون كل نهاية واضحة وحاسمة.
وقد تعمدتُ في إشاراتي للشخصيات ألا أكتب أسماء الشخصيات كما هي في النص، ذلك لأن لطفي وليلى وهويدا، أو زارا وجيكا وسندس، ليست شخصيات بالمفهوم التقليدي للشخصية الدرامية.
إنما نحن بصدد مجتمعين، مجتمع السلطة/ البشر، ومجتمع الرعايا/ الببغاوات، الأول مسؤول عن رعاية الآخر لكنه لا يفهم احتياجاته ولا رغباته. والآخر يردد ما يريده منه سيده كيفما ينبغي، دون أن يستطيع التواصل معه، فلا هو يفهمه ولا يستطيع أن يجعل سيده يفهمه، وتتحول محاولات التفاهم إلى مجرد ضجيج وصرخات مزعجة للجميع.
وبطبيعة الحال، لا يمكن قراءة هذه المسرحية، دون أن ننتبه لإحالاتها الرمزية الواضحة إلى العلاقة بين السلطة ورعاياها. ومتى يستحيل الإنسان إلى ببغاء، يردد ما يُملى عليه. فمهما يندد ويشجب ويملأ الدنيا صراخًا، لن يفهمه أحد، بل هو في نظر الجميع مجرد أبله، أخرق، مزعج لكل من حوله، ولذلك ينبغي إسكاته ولو بقطع لسانه.
 
كيف فسدت العدالة؟
تناقش مسرحية «نظرية العدالة الفاسدة» تجليات «العدل» من منظور سفسطائي، أي العدل من منظور الطرف الأقوى، فالأقوى هو من سنّ القوانين ونظمها من منظوره الخاصّ، ومن أجل مصالحه الخاصّة، لهذا يرى السفسطائيون أنّ العدالة تتغيّر من مجتمع لآخر وفقاً لتغيّر مصالح الأقوى فيها.
ويرى العجوز طوال النص أنه وقع تحت ظلم بسبب تعامل «الرجل» مع العدل، وهو ممثل عن شريحة أولي المصالح، الذين يفرضون العدل المشروط كيفما يناسبهم.. وبالتالي عندما يتعثر الرجل والفتاة في بيت العجوز النائي عن المدينة، يشعر العجوز أنها اللحظة التي يمكن أن يفرض فيها عدله المشروط، والذي يخدم مصلحته الشخصية.
العجوز    : أنا أقوم بعملي تماما كما تقوم أنت بعملك. أليست طبيعة عملك هي تبرير الأخطاء التي يرتكبها المسؤولون الكبار الذين تعمل معهم، وإلباسها ثوب الفضيلة وإيجاد الأسباب المناسبة والمبررات كي تظهر قانونية وعادلة وأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان.. أليس هكذا تجري الأمور؟
الرجل: نعم يحدث هذا لبعض الوقت، وليس كل الوقت.
العجوز: أنا أيضًا أقوم بعملي هذا مع بعض الناس وليس كل الناس، وأيضا لبعض الوقت، وليس كل الوقت.
من هنا تأتي فكرة «سرير بروكرست» التي يبوح بها العجوز لضيفه أو فريسته، بأنه يريد أن يجعله مناسبًا لطول العدل، أي طول السرير، سرير العدالة كما يسميه. فالإنسان كي يحقق الحرية والسعادة التي حلم بها، في ظل ظروف سيطرة الاقتصاد على المجتمع والسلطة، يصبحُ الإنسان كما قال جان ليوتار مجرد معمل تجارب، لا قيمة له.
فالعدالة المقولبة سلفًا، لا تناسب الجميع كما يدعي العجوز طوال العرض، بل هي لا تناسب أحدًا على الإطلاق، حتى طول العجوز نفسه أقصر من السرير، أي أقصر من أن يبلغ العدالة. وبالتالي فإن ما يطبقه على الرجل أو الفتاة، ليس العدل، وإنما هو شيء آخر، ربما المصلحة. لكن التصميم الدرامي وسرعة انتقال الحدث وتطويره، لم يسمحا لنعرف بالضبط لماذا لجأ العجوز إلى تطبيق تجربة سرير العدالة.. هل هي المصلحة فعلًا؟
هناك احتمال آخر، يتفق نسبيًا مع رؤية قديمة لـ غلوكون (Glaucon)، حيث يرى غلوكون أنّ الإنسان اخترع العدل نتيجة لعجزه عن ممارسة الظلم وتحمّل عواقبه. فالإنسان لم يُخلق ولديه صفة العدل بالفطرة. ويلجأ الإنسان إلى العدل في رأي غلوكون؛ في حالتين فقط: عندما لا يستطيع أن يَظلِم. أو حين تتسنى له منفعة مادية أو معنوية نتيجة تطبيق العدل.
تبدأ القصة بحادثة اصطدام سيارة، بها رجل وفتاة، أثناء سيرهما على منحدر صخري. ولأنهما وجدا نفسيهما عالقين في الخلاء، تصبح أضواء البيت الريفي المضاءة بالقرب منهم علامة لهم على النجاة. ويضطران إلى قضاء ليلة مع العجوز صاحب البيت، حتى يستطيعان في الصباح طلب المساعدة، ولكنهما يكتشفان كم هو عجوز غريب الأطوار أو مجنون على حد وصف الرجل.
نلاحظ أيضًا أن الشخصيات قادمة لنا من بعيد، بلا تاريخ، بلا إحداثيات مجتمعية بعينها، أو هوية ثقافية محددة. إنها مجرد أنماط عامة، فالرجل المسؤول السياسي، هو نموذج لأي رجل سياسة مدلس ونفعي، أو كخزانة عرض للقيم الرأسمالية.
والفتاة التي ترافق رئيسها، هي نموذج لأي فتاة وصولية وانتهازية في أي مكان في العالم. وتثير أعمال «الحسيني» في عمومها تساؤلات حول علاقة الفرد والسلطة، وطوال الوقت تبدو الشخصيات عند «الحسيني» كأنها متاحف خاصة لقيم وأفكار أكبر منها، وتستحوذ عليها أكثر من حياتها الخاصة.
يثرثر العجوز طويلًا عن حبه للحم الغزال وتقديره للتين الشوكي والقهوة. ثم يبدأ معهما لعبة «سرير بروكرست». وبروكرست كما في الميثولوجيا الإغريقية كان حدادا وقاطع طريق. كان يهاجم الناس ويقوم بمط أجسداهم أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوال أجسامهم مع طول سريره الحديدي. ولم يكن يفلت منه أحد، لأنه كان يمتلك سريرين مختلفي الطول.
يغافل العجوز الرجل والفتاة، ويقيدهما، ثم يبدأ بقطع رجلي الرجل كي يتناسب طوله مع طول السرير. وهنا تبدأ تقنيات الفانتازيا بالعمل بمجرد ما قام العجوز بتقييد الرجل. ويشعر المتلقي بحالة التوتر التي تعانيها الشخصيات، بين الإنسان المحمل بالوعي الجمعي من خلال الميثولوجيا الحية؛ والواقع المحيط بالإنسان كإطار فني لـ نظرية العدالة الفاسدة.
الفانتازيا هي الحد الفاصل بين العقلاني، وغير العقلاني، الحد بين الواقع والخيال. تخدم البنية الدرامية، وتصنع حبكات درامية كاملة من الخيال، أو الأساطير، أو الإغراق في الحوادث الغريبة والخروج عن المألوف، لتشكيل صور ذهنية لما ليس له حضور فعلي في حواس القارئ أو الخبرة الواعية له.
تُطلق «البروكرستية» على أسلوب تشويه المعطيات وليّ الحقائق، كي تتناسب مع قالب فلسفي مُعد له مسبقًا. ونلاحظ ذلك عندما تنقلب الأدوار وتغافل الفتاة بحيلة أنثوية؛ العجوز الماكر، وتضعه على السرير، وتبدأ في تنفيذ التجربة عليه.
العجوز: كيف تفعلين ذلك بي؟ أنا من يقوم بهذه التجربة ولستِ أنتِ.. اسمعي.. لا تقومي بشيء تندمين عليه بقية عمرك...
الفتاة: هل تريد للتجربة أن تفسد؟ لن أذهب من هنا قبل أن أجربها معك أنت أيضًا أيها العجوز الأبله، أنت ممن يستحقون أن تقام عليهم تجربة العدالة. مثلي كما تقول ومثله هو، ومثل الكثير من الناس هناك في المدينة المزدحمة بالكذب.. كلنا نستحق تجربة العدالة إلى من رحم ربي.
حينها يقول العجوز بكل بساطة: أنتِ مجنونة. أنتِ لا تعرفين قواعد اللعبة، انظري أنا طولي أقصر من طول السرير، وبالتالي وحسب قواعد اللعبة لن يتم قطع سنتيمتر واحد من طولي، أنا شخص مثالي حسب قوانين اللعبة.
هكذا يعمل أسلوب لي الحقائق، وتشويه المبررات، في النهاية تطالبه الفتاة بالامتثال للعدالة التي ينص عليها السرير كيفما أراد هو منذ البداية، وإن كان طوله أقصر قصيرًا، فلنستخدم العجلة الدوارة حتى يتمدد جسده ويصبح ملائمًا للعدالة تمامًا.. فهل هذا ممكن؟
حكايات مازالت على قيد الحياة
يأتي النص الثالث من مجموعة مسرحيات «قضية إسكات الببغاوات»، في عنوان «حكايات الشتاء». وهو مشهد واحد قصير، من ثلاث شخصيات، السيدة العجوز «سعاد»، صاحبة الشقة المعروضة للإيجار. والشابان «ماهي» و»سيف»، القادمان من أجل استئجار الشقة.
وعلى عكس المسرحيتين السابقتين، تعتمد «حكايات الشتاء» على تفصيلات للزمان والمكان والمجتمع، تدخل في نسيج الدراما، مثل الإشارة إلى «فوتيه الملك الفاروق»، وتفضيل إعداد القهوة على «السبرتاية»، والزوج الذي كان ولوعًا باقتناء قطع الأثاث ذات البعد التاريخي من المزادات بمبالغ باهظة. كل ذلك ساعد في توضيح تاريخ الشخصيات، وهويتها الاجتماعية والثقافية، وتأثير ذلك على حضورها في الحدث المسرحي الآني.
تدور المسرحية حول سيدة تعاني من الوحدة، والملل، ما دفعها إلى نشر إعلان يوضح رغبتها في بيع الشقة، وقد استغلت هذه الحيلة في أن تملأ وقتها بلقاء أناس جدد طوال الوقت، وتناول القهوة والحديث معهم، حينها تشعر -على حد قولها- أنها مازالت على قيد الحياة.
سعاد: «هل هذا كثير عليّ، أريد أن أشعر أنني مازلتُ على قيد الحياة، وأخشى أن أموت وحيدة ولا يعلم أحدٌ عني شيئًا، ذلك الأمرُ يُرعبني جدًا».
لولا التفصيلات التي اعتنى بها النص في بناء الشخصيات وبيئتها الاجتماعية، كان الحدث المسرحي سيصبح أحاديًا ورتيبًا، وسيصيب المتلقي بالملل. لكن إبراهيم الحسيني، يتحكم في أدواته بحرص كاتب خبير على أن تساهم التقنيات المستخدمة في خلق أبعاد جديدة للنص، وعمق، وظلال ممتدة بعيدًا.
وهكذا نجد أنفسنا ننزلق مع حديث السيدة عن شقتها المتخمة بذكرياتها عن زوجها، والملكية والثورة، والزمن الجميل كما تقول؛ إلى نقطة مهمة: إذا كان المرء يقاس بقدر ما يحمله من ذكريات، فلماذا تعرض الشقة أو كل هذه الذكريات للبيع؟
يهتم الكاتب في نص «حكايات الشتاء»، بالشخصية الرئيسية: سعاد. أو بمعنى أدق بـ تاريخ الشخصية، فالشيء المعروض للبيع ليس الشقة، وإنما هو قطعة من الزمن، فهل يمكن انتشال السنوات من المقاعد والمناضد والجدران بحجة أنها لم تعد عصرية، أو مناسبة للحداثة بحسب ما يرى «سيف»؟
سعاد: دائمًا شباب هذه الأيام متسرع جدًا ولا يُلقي بالا إلا لما يريد، وليذهب كل شيء بعد ذلك إلى الجحيم.
والجحيم هنا هو إشارة إلى النسيان، الحالة التي تضغط بها «ماهي» منذ حضورها على السيدة، فـ «ماهي» لا تفضل الأثاث القديم رغم عراقته التاريخية، بل الجديد أفضل دائمًا، حتى لو كلفهما ذلك الجديد القضاء على القديم أو نسيانه.
ماهي: الأثاث تقليدي جدًا.. طراز قديم، تجاوزه الزمن.
ونحن أمام نص مسرحي لا يناقش مسألة الوحدة كما هو ظاهر، وإنما يطرح الوحدة كإحدى تجليات خصومة الحاضر مع الماضي. ولذلك يصنع اختيار المستأجريْن (ماهي وسيف) من فئة الشباب هذه المقابلة وهما في حضرة (سعاد)، السيدة التي طوفت بها السنون بين الشرق والغرب، وحرصت طوال حياتها هي وزوجها على اقتناء قطع الأثاث النادرة من المزادات المختلفة. لكن الزوج تركها ورحل، وعندما يسأل «سيف» عن مصير هذا الأثاث، فهو يفكر فيما سيجنيه من جراء بيعه، بينما تسأل السيدة العجوز: لماذا لا تحتفظان به ليعيش معكما؟
الماضي هو تاريخ وجودنا، به من اللحظات ما يسر وما يغضب، ولكن به في النهاية شفرة وجودنا على الأرض، ولذلك من لا ماضي له، هل يكون له حاضر؟ فالقطيعة مع الماضي قد تكون مربحة ماديًا، لكنها تجعلك خاويًا، ذو باطن أجوف، لا تقدم شيئًا ولا تفيد. وهذا يتضح من رد «سيف» القاطع مثل السيف.
سيف: (وهو يتفحص فوتيه الملك فاروق) يعجبني منظره، ولكنني لا أحب أن أعيش داخل متحف.
ماهي: أنا أيضًا، إنه لا يروق لي، وأفضل عليه كل ما هو حديث.. هذه المدفأة مثلًا تذكرني بمدافئ بيوت النبلاء في العصور الوسطى.
سعاد: ترونه كذلك لأنكما لا تنظران إليه نفس النظرة التي أنظرها أنا له، هذا الأثاث هو كل عائلتي الآن، أتحدث معه كل يوم، أشكو له مما يضايقني، نفرح معًا نتألم معًا، يحنو كل منا على الآخر، إنه يتنفس ويتحرك مثلنا لكن لا يشعر به إلا من أراد ذلك.
الماضي والحاضر مثل أمواج البحر، هل يمكن تمييز الأمواج عن بعضها؟ فالحاضر هو ماضٍ مضى، والماضي هو حاضر سيأتي، كل منهما يشابه الآخر. وبالتالي فإن مسيرة الحياة تكاملية، إذا أردنا بلوغ المستقبل لابد أن يستمر تلاطم الأمواج، التي تدفع بعضها بعضًا تجاه الشاطئ.
في نهاية «حكايات الشتاء»، يرفض الشابان سيف وماهي عرض سعاد، والذي اكتشفا أنه ليس عرضًا لبيع الشقة/ الماضي، وإنما هو عرض للإقامة فيها أو بمعنى أدق عرض للتعايش مع الماضي. يتقدم شابان آخران، يستعدان للزواج، يطرقان الباب ويسألان عن هذه الشقة المعروضة للبيع، وتستقبلهما سعاد، وتبدأ في تحضير القهوة.   
قدم إبراهيم الحسيني، في نصوص مجموعة «قضية إسكات الببغاوات»، حلولًا درامية مبتكرة، لمعالجة ثيمات قد تبدو واقعية تمامًا بطريقة عصرية ومميزة، من خلال الاتكاء على تقنيات الفانتازيا، وأنسنة الحيوانات مثلما في «قضية إسكات الببغاوات». واستلهام الميثولوجيا واستخدامها في معالجة أفكار الشخصيات عن العدالة في «نظرية العدالة الفاسدة». أما في مسرحية «حكايات الشتاء»؛ فقد ركز الكاتب أدواته للإشارة العلاقة بين الماضي والحاضر في قالب واقعي تماما. وهو ما يجعلنا بصدد مجموعة ممميزة ومتنوعة من حيث الأفكار وأساليب الطرح الدرامي المختلفة.


محمد علام