العدد 688 صدر بتاريخ 2نوفمبر2020
المسرح والنص :
المسرح والدراما موجودان، وسوف يظلا موجودين، في علاقة تناقض مليئة بالتوترات . وتأكيدا لهذه الحالة تأمل المدى الكامل لتداعياتها هو الشرط الأول لفهم مناسب للمسرح الجديد والأحدث . إذ يبدأ التعرف علي المسرح بعد الدرامي بتأكيد إلى أي مدى يعتمد وجوده علي التحرر والانقسام المتبادل بين المسرح والدراما . ولذلك فان تاريخ الدراما كنوع في حد ذاتها له أهمية محدودة في دراسات المسرح . ومع ذلك، نظرا لأن المسرح في أوروبا قد سيطرت عليه الدراما عمليا ونظريا، فمن المفضل أن نستخدم مصطلح “ ما بعد الدرامي Postdramatic” لربط التطورات الجديدة بالمسرح الدرامي السابق، إذ ليس هناك الكثير من التغيرات في النصوص الدرامية باعتبار أنها تحولات في صيغ التعبير المسرحي . والنص المعروض في الشكل المسرحي بعد الدرامي (إذا تم عرض نص علي خشبة المسرح) هو مجرد مكون له حقوق متساوية في التركيب الكلي ؛ الإيمائي والموسيقي والبصري .. الخ . ويمكن أن يفتح انشقاق خطاب النص عن خطاب المسرح كل السبل أمام التناقض أو حتى عدم الترابط المعروض بشكل صريح . ويتطلب الانحراف التاريخي عن النص والمسرح إعادة تعريف غير متحيزة لعلاقتهما . انه ينطلق من فكرة أن المسرح كان موجودا أولا : فقد نشأ من الطقوس وأخذ شكل المحاكاة من خلال الرقص، وتطور إلى سلوك كامل وممارسة قبل ظهور الكتابة . ففي حين أن المسرح البدائي والدراما البدائية هما مجرد موضوع لمحاولات إعادة البناء، فيبدو أنه من المؤكد بشكل أنثروبولوجي أن أشكال الطقوس المبكرة في المسرح قد مثلت عمليات مشحونة بشكل كبير ( مثل الصيد والإخصاب) بمساعدة الأقنعة والأزياء والأدوات، بحيث يتم المزج بين الرقص والموسيقى وأداء الدور . وحتى لو مثلت هذه الممارسة الجسدية الدلالية والحركية بالفعل نوعا من النص قبل ظهور الكتابة، فان الاختلاف فيما يتعلق بتكوين المسرح الأدبي لا يزال اختلافا واضحا . فقد اضطلع النص المكتوب، أو الأدب، بدور رائد نادرا ما كان متنازعا عليه في التسلسل الثقافي . وبالتالي، حتى ارتباط النص بالكلام الموسيقي والإيماءة الأشبه بالرقص والديكور المعماري البصري الرائع الذي لا يزال موجودا في مسرح عصر الباروك التمثيلي، يمكن أن يتلاشى في مسرح البرجوازية الأدبي : النص باعتباره مانحا للمعنى السائد ؛ اذ كان ينبغي علي كل الوسائل المسرحية الأخرى أن تخدمه والتي ينبغي أن تكون خاضعة بشكل مشكوك فيه لسلطة العقل .
لقد كانت هناك محاولات للسماح للوعي المتزايد حديثا باستقلالية العناصر غير الأدبية في المسرح من خلال تعريف الدراما علي نطاق واسع . ولذلك يقول (جورج فوكس George Fuchs) “ الدراما في أبسط أشكالها هي حركة الجسم الإيقاعية “ . الدراما هنا تعني الفعل المشهدي scenic action، وبالتالي لكل المقاصد والأغراض هي المسرح . وقد اعتبر (فوكس) أن كل ما يمكن أن يحدث في مسرح المنوعات والرقص والألعاب البهلوانية والشعوذة والمشي علي الحبل المشدود، وتحضير الأرواح والمصارعة والملاكمة وترويض الحيوانات والأداء باستخدامها والموسيقى والحفلات التنكرية، وأي شيء آخر، هي أشكال للدراما البسيطة . ففي اليوتوبيا المسرحية في النصف الأول من القرن العشرين نصادف أحيانا أنواع خطاب تعرّف الدراما علي أنها فعل ديني ويفصل هذا العمل الرمزي والديني عن أفعال محاكاة الواقع . ورغم ذلك، فان هذا التعريف الاصطلاحي للدراما مع مستويات المسرحانية يلغي الاختلافات التاريخية والنفسية المثمرة بين مختلف الطرق التي التقي بها الأدب الدرامي مع المسرح وانفصلا عن بعضهما في الحداثة . ولذل من المنطقي تعريف الدراما بشكل أكثر تحديدا والاتفاق علي أن تناولات مثل تناول (فوكس) الذي يدمج أبعاد المؤلم والمسرحي في الدراما – وهي جوانب مميزة بشكل صحيح في أذهان المتخصصين في المسرح والقراء والمنظرين . وينطبق نفس الشيء علي ملاحظات ( هاينر موللر ) بأن العنصر الأساسي في المسرح والدراما هو عنصر التحول، فالموت هو التحول الأخير والمسرح له علاقة بالموت الرمزي : الشيء الأساسي في المسرح هو التحول . فالموت، والخوف من هذا التحول الأخير خوف عام، ويمكننا الاعتماد عليه ونعول عليه .
وفي مناقشة مظهر المصالحة في مسرحية ( جوته ) “ صلات اختيارية Elective Affinities “ يقول ( والتر بنيامين Walter Benjamin) : “ اللغز، علي المستوى الدرامي، هو تلك اللحظة التي يخرج فيها عن مجال اللغة الملائمة إلى لغة أعلي لا يمكن بلوغها . وبالتالي لا يمكن التعبير عن هذه اللغة بالكلمات، بل بالتمثيل وحده : إنها اللغة الدرامية بالمعنى الدقيق للكلمة “ .
وبهذا المعنى، لا علاقة للدراما بأي شيء تفهمه مناظرات الدراسات المسرحية . صياغة ( بنيامين) تربط ما وصفه بالدراما بالمعاناة الصامتة في للتنافس الجسدي المتجذر في العبادة . فالتجاوز المسيحي للمعاناة من خلال السمو هو المحك، التكفير أو اللغة التي ورائه أو في كل الأحوال علي حدود اللغة الإنسانية . فلا شك أن هناك مبررا نسبيا في تعريف المسرح والدراما، وهذا واضح، حيث يؤكد مفهوم ( بنيامين ) للدرامي اقترابه الكبير من التمثيل الإيمائي والصامت اللذان، ان جاز التعبير، محددان بإطار اللغة . ومع ذلك، لهذا السبب بالتحديد، من المفيد اعتبار الدرامي المنسوب إلى بنيامين علي أنه ينتمي إلى المسرح طقس واحتفال، وشعر خشبة المسرح، و دلالة خارج لغوية أو علي الأقل حدود دلالة لغوية . ويشير مفهوم الدراما هذا إلى المسرح باعتباره تجربة لا يمكن فهمها من التحولات التي لا يوجد فيها تعطيل لليوتوبيا ودوامة القلق الخفية من التحولات التي يظهرها المسرح : حيث لا يوجد سوى الاحتفال ولا يوجد ثبات يمكن أن يحمي من دوار المسرح . المهم هنا بالأحرى هو الواقع، حتى ولو كنا دائما في لحظة أفول التغلب علي الموت عن طريق عرضه علي خشبة المسرح . وكما يؤكد ( بريمافيزي Primavesi )، بالتمسك بمفهوم الصامت، يمكن للدرامي أن يضمن الخلاص من أسطورة الذنب والجمال فقط حيث يظل الجسد – كما في المسرح بعيدا عن الفهم .
القرن العشرين :
في نهاية القرن التاسع عشر و وصل المسرح الدرامي إلى نهاية ازدهار طويل كشكل استطرادي تام التكوين . وبالتالي يمكن معايشة شكسبير وراسين وشيللر ولينز وبوشنر وهيبيل وابسن وستراندبرج كمغيرات لنفس الشكل الاستطرادي – علي الرغم من كل اختلافاتهم . وفي داخل هذا الإطار، قدمت الأنواع المتباينة جدا داخليا المظاهر الفردية نفسها علي أنها اختلافات في التكوين الاستطرادي أيضا? التي كان من الضروري أن تندمج فيها الدراما والمسرح . وسوف تتم تتبع تطور هذا التكوين الاستطرادي باتجاه ما بعد الدرامي بإيجاز . إذ يمكن وصف الانطلاق نحو تكوين الخطاب بعد الدرامي في المسرح بأنه سلسلة من مراحل التأمل الذاتي لعناصر المسرح الدرامي وتحللها والانفصال عنها . ويؤدي هذا المسار من المسرح الكبير في نهاية القرن التاسع عشر، مرورا بالعديد من أشكال المسرح الحديث أثناء فترة الطليعة التاريخية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وصولا إلى أشكال المسرح بعد الدرامي في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين .
المرحلة الأولي : الدراما الخالصة والدراما غير الخالصة
لا يزال الموقف الأولي هو الهيمنة الكاملة للدراما والتي تطورت لحظاتها الأساسية في الفكرة بوضوح، وجزئيا في ممارسة «الدراما الخالصة « . فالدراما ليست مجرد نموذج جمالي ولكنه يحمل معه تضمينات ابستمولوجية واجتماعية أساسية : الأهمية الموضوعية للبطل، والفرد : إمكانية تمثيل الواقع الإنساني من خلال اللغة? وتحديدا من خلال شكل حوار خشبة المسرح ؛ وأهمية السلوك البشري الفردي في المجتمع . وبالتوازي مع الدراما الخالصة، وقبلها في العصور الوسطى، وعند شكسبير، ومسرح عصر الباروك، كانت هناك انحرافات كبيرة عن النموذج . يمكن وصفها تقريبا باعتبارها عناصر ملحمية في الدراما، ووفقا لأغراضنا هنا يمكن وصف وفرة هذه الأشكال بأنها دراما غير خالصة . وبالنسبة لهذه الأشكال، يمكن إظهار دلالات الشكل للدراما في كل نقطة : تجسيد الشخصيات، أو الشخصيات المجازية من خلال الممثلين، وتمثيل الصراع في لحظة التصادم الدرامي، ودرجة عالية من تمثيل العالم بالنسبة للرواية والملحمة، وتمثيل القضايا السياسية والأخلاقية والدينية للحياة الاجتماعية من خلال إثارة تضاربها، وعمل تدريجي في حالة محو الدراما علي نطاق واسع، وتمثيل العالم في حالة الحد الأدنى للفعل الحقيقي .
المرحلة الثانية : أزمة الدراما، المسرح يمضي في طريقه
تحت فرضية مسرح لم يعد بطرق ثورية، تحدث أزمة الدراما بداية من عام 1880 وحتى الآن . إن ما اهتز خلال هذه الأزمة ثم تراجع لاحقا هو سلسلة من مكونات الدراما التي لم يسبق أن نوقشت : الشكل النصي للحوار المشحون بالتشويق والانقسامات في الذات التي يمكن أن نتوقع حقيقتها بشكل أساسي في الكلام المتبادل بين الأشخاص، والفعل الذي يتجلي بشكل أساسي في الحاضر المطلق . يميز (سوندي) الحلول المعروفة أو محاولات الإنقاذ التي يصل إليها المؤلف في ظل الانطباع عن عالم سريع التغير والصورة المتغيرة للذات الإنسانية : الأنا الدرامية، والدراما الجامدة static drama، دراما الحوار، والدراما الغنائية، والمذهب الوجودي، والقيود . وبالتوازي مع أزمة الدراما كشكل من أشكال النص المرتبط بالمسرح، ظهرت شكوك أولي في اتجاه التوافق التام بين الدراما والمسرح . وبالتالي، كان (بيرانديللو) مقتنعا بعدم توافق المسرح والدراما . وقد شرح ( ادوارد جوردون كريج ) في “ الحوار الأول The First Dialogue” لفن المسرح أنه لا ينبغي لأحد أن يقدم مسرحيات شكسبير العظيمة علي الإطلاق ! . وحتى هذا يعد أمرا خطيرا، لأن “ هاملت” الذي يتم تمثيله يمكن أن يقتل بعضا من الثروة اللانهائية ل” هاملت” الخيالي . ( فيما بعد قدم كريج عرضا للمسرحية وأعلن أن المحاولة قد أثبتت صحة مقولته بأن المسرحية غير قابلة للعرض علي خشبة المسرح) . وهنا يمكن التعرف علي المسرح بأنه شيء له جذوره وشروطه ومنطلقاته الخاصة التي تتعارض حتى مع الأدب الدرامي . ويستنتج ( كريج) أن النص يجب أن ينسحب من المسرح، ولاسيما بسبب بعده وخصائصه الشاعرية . وتتطور أشكال جديدة من الاختبارات التي تحتوي علي السرد والإشارات إلى الواقع فقط في شكل مشوه وبدائي : مسرحية ( جرترود شتاين ) “ مسرحية المناظر الطبيعية Landscape Play”، ونصوص (أنطونين أرتو) في مسرح القسوة ومسرح (فيتكيفيتش) « الشكل النقي « . تستبق هذه الأنواع المفككة من النصوص العناصر الأدبية لجماليات المسرح بعد الدرامي . ولن تجد نصوص (جرترود شتاين) جمالياتها المسرحية المتجانسة الا مع (روبرت ويلسون )، ويظل مسرح (أرتو) بمثابة رؤية، مثل مسرح ( فيتكيفيتش)، يشير الي مسرح العبث . وقد كان المخرج الفرنسي ( أنطوان فيتز Antoine Vitez)، وهو مخرج يقوم بإعداد النصوص الكلاسيكية بوسائل مسرحية وظيفية ومتنوعة، يعرف ما يتحدث عنه عندما قال انه منذ نهاية القرن التاسع عشر، تميزت جميع الأعمال الكبرى التي كُتبت للمسرح بلا مبالاة تامة تجاه مشكلة خلفيتها المطروحة للتحقيق المشهدي . وبالتالي نشأ صدع وانفصال بين المسرح والنص . وقد كانت (جرترود شتاين ) – وما تزال – تعد بأنها غير قابلة للعب – وهذا صحيح اذا قيست نصوصها بتوقعات المسرح الدرامي . وعند السؤال عن مدى نجاح نصوصها علي خشبة المسرح، يتعين علينا أن نشهد علي فشلها القاطع كمؤلفة للمسرح . ومع ذلك تظهر في أشكال نصوصها أيضا قوة دينامية تعلن عن نفسها، وتفسد في نهاية المطاف تقاليد المسرح الدرامي .
ان استقلالية المسرح ليست نتيجة للأهمية الذاتية لمخرجي ما بعد الحداثة الذين يتوقون إلى الاعتراف بهم، وهو الأمر الذي يتم تجاهله غالبا . فقد ترسخ ظهور مسرح المخرج بشكل طموح في الديالكتيك الجمالي للمسرح الدرامي نفسه، والذي أكتشف في تطوره بشكل متزايد كشكل من أشكال العرض والوسائل والأدوات المتأصلة فيه حتى بدون النظر الي النص . وفي نفس الوقت، يجب أن نلاحظ الجانب المثمر في عدم مراعاة بعض المؤلفين المعاصرين في القرن العشرين لإمكانيات المسرح، فهم يكتبون بطريقة تجعل المسرح لا يزال في حاجة الى الابتكار في نصوصهم . فأصبح التحدي لاكتشاف قدرات جديدة في فن المسرح بعدا أساسيا في الكتابة المسرحية . وقد طالب (بريخت ) بأنه لا ينبغي علي المؤلفين أن يمدوا المسرح بنصوصهم، ولكن عليهم أن يغيروها، وقد تحقق ماهو أبعد من خياله . ويمكن ل (هاينر موللر) أن يعلن أن نص المسرح كان جيدا اذا كان غير قابل للتقديم علي خشبة المسرح كما هو .
الاستقلالية واعادة المسرحة من جديد
بالتوازي مع أزمة الدراما وأثناء الثورة العامة في الفن عام 1900، حدثت أزمة في شكل خطاب المسرح نفسه . تطورت استقلالية جديد للمسرح باعتباره ممارسة فنية مستقلة . منذ أن تخلى المسرح فقط عن وسائله بشكل آمن فيما يتعلق بمتطلبات الدراما حتى تكون قابلة للعرض علي خشبة المسرح . ولم يعن هذا التوجه تقييدا بعينه، بل كان يعني في نفس الوقت ضمانة معينة لمعايير فنون المسرح، ومنطقا ونظاما لقواعد استخدام الوسائل المسرحية التي تخدم الدراما . ومن ثم حدثت خسارة طويلة المدى مع الحرية المكتسبة حديثا والتي يجب وصفها من وجهة نظر انتاجية بأنها دخول المسرح الي عصر التجريب . ومنذ أن أصبح واعيا بالإمكانيات التعبيرية الفنية الكامنة فيه، بغض النظر عن النص المطلوب تحقيقه، فقد أُلٌقي بالمسرح، مثل أشكال الفن الأخرى، في الحرية الصعبة والمحفوفة بالمخاطر المتمثلة في التجريب الدائم .
بينما تؤدي مسرحة المسرح الي التحرر من خضوعه للدراما، فقد تسارع هذا التطور من خلال أزمة وسائطية تاريخية وهي ظهور السينما . فما كان حتى ذلك الحين هو المجال الكامن المسرح، وتمثيل الأشخاص في الحركة، استولت عليه الصور المتحركة ( السينما) التي سرعان ما تجاوزت المسرح في هذا الصدد . بينما تُفهم المسرحانية، من ناحية، كبعد فني مستقل عن النص الدرامي، فاننا نبدأ? من ناحية أخرى في إدراك العملية الحية كاختلاف خاص بالمسرح، من خلال التباين مع حركة الصورة المنتجة تقنيا ( ديليوز) . إذ تطرح إعادة اكتشاف إمكانيات التقديم الخاصة بالمسرح، والمسرح فقط، سؤال ما الذي لا لبس فيه ولا يمكن الاستغناء عنه مقارنة بالوسائط الأخرى ؟ في الواقع لقد صاحب هذا السؤال المسرح، ليس فقط بسبب التنافس مع أشكال الفن الأخرى . انه يجلي بوضوح، بالأحرى، أحد نوعي المنطق العام الذي طبقا له تتطور أشكال جديدة من التمثيل الفني : المنطق الذي يستلزم بموجبه ظهور وسيلة جديدة لخلق الشكل وتمثيل العالم بشكل تلقائي تقريبا وأن الوسائط التي يتم تعريفها علي الفور علي أنها أقدم تبدأ في الاستفسار عما خصوصيتها كأشكال فنية وبالتالي ما الذي يجب عرضه بوعي وتأكيد بعد ظهور الوسائط الجديدة . أصبحت الوسائط القديمة استبطانية تحت تأثير الوسائط الجديدة . (حدث ذلك مع التصوير الزيتي عندما ظهر التصوير الفوتوغرافي، ومع المسرح عندما ظهرت السينما، ومع السينما عندما ظهر التليفزيون والفيديو) . وحتى لو تفوق هذا التغير علي كل شيء في المرحلة الأولى من رد الفعل فقط، فمنذ ذلك الحين ظل الاستبطان إمكانية وضرورة دائمة، مدفوعة بالتعايش مع الفنون ومنافستها . ويبدو أن الاتساق الآخر في تطور الفنون هو نمو الدينامية من التفكك . فعندما انفصل بعد التمثيل في الفنون البصرية عن تجربة اللون والشكل ( التصوير الفوتوغرافي هنا والتجريد هناك )، استطاعت العناصر الفردية، التي استردت نفسها، أن تكتسب التسارع وأمكن أن تظهر أشكالا جديدة . ومن تفكك الكل ومن تفكك النوع بكامله إلى عناصر فردية تتطور لغات الشكل الجديدة . فبمجرد أن التصقت جوانب اللغة الجسد معا في السابق، تم التعامل مع تمثيل الشخصية و التوجه إلى الجمهور في المسرح علي أنها حقائق مستقلة ؛ وبمجرد انفصال مساحة الصوت عن مساحة اللعب، ظهرت فرض تمثيلية جديدة من خلال استقلالية الطبقات الفردية .
والتركيز علي المسرحي مقابل الأدبي? يمكن وصف العوالم الفوتوغرافية أو السينمائية بأنه“ إعادة مسرحة retheatricalization” وأنها تميز حركات الطليعة التاريخية . وقد ركزت دراسات ( اريكا فيشر-ليشت) خصوصا علي هذا المفهوم ( الذي قُدم أولا كفكرة أساسية عند فوكس )، وأكدت من بين أشياء أخرى علي علاقته بالتلقي المثمر لتقاليد المسرح غير الأدبي (الأوروبي وغير الأوروبي) في الطليعة التاريخية . ولم يكن الهدف فقط هو تذكر الوسائل الجمالية للمسرحانية بشكل محض . فلم يكن الأمر مسألة مسرحانية هائلة في المسرح، بل في نفس الوقت فتح المجال المسرحي للآخرين : فتح المسرح علي أشكال الممارسة الثقافية والسياسية والسحرية والفلسفية، وما إليها، وعلي التجمعات والأعياد والطقوس . وبالتالي، يجب تجنب الاختصارات النظرية في اتجاه إضفاء طابع جمالي علي الطليعة، والذي يمكن اقتراحه بواسطة مصطلح “ إعادة المسرحة “ في سياق الحداثة الكلاسيكية . فقد كانت رغبة الطليعيين أن يتغلبوا علي الحدود بين الفن والحياة ( والتي لا يدينهم فشلها بالطبع ) هي مجرد دافع لإعادة المسرحة .
وعلي مدار هذا التطور، نرى ظهور مسرح المخرج أو مسرح الإخراج Regietheater، كما كان يسمى إما بقصد المدح والوصف أو الطعن . اذ لا يمكن تجاوز استقلالية المسرح ومعها الأهمية المتزايدة للإخراج . وبدون الرغبة في تجاهل الكراهية المبررة للمخرجين المتواضعين في المسرح، الذين يرفقون نصوصا مهمة في أفاقهم المحدودة نسبيا، يجب التأكيد علي أن البكاء والصراخ من تعسف المخرجين في معظم الحالات ينبع من الفهم التقليدي لمسرح النص ( بالمعنى السائد في القرن التاسع عشر) أو عدم الرغبة في الانخراط في تجارب مسرحية غير مألوفة تماما . وفي نفس الوقت، ان التمييز بين مسرح المخرجين ومسرح الممثل أو المؤلف يرتبط هامشيا بموضوعنا : إذ يمكن القول إن مسرح المخرجين هو شرط مسبق في الميل بعد الدرامي ( حتى لو تبنى الجميع نفس الاتجاه )، ولكن المسرح الدرامي هو أيضا مسرح مخرجين .
ومع الإصرار الجديد علي القيمة الداخلية للمسرح في نهاية القرن يوجد سياق آخر يجب أن نضعه في اعتبارنا : لقد عزز المسرح الترفيهي ومسرح الإبهار ولاسيما في أواخر القرن التاسع عشر طموحات المخرجين وقناعاتهم بوجود تعارض بين النص والمسرح الروتيني . فبالنسبة ل(كريج)، كما هو الحال بالنسبة ل(تشيكوف) و(ستانسلافسكي) و(كلوديل) و(كوبوه)، كانت استعادة التعقيد والحقيقة هي الفكرة المركزية في مساعيهم . وحتى لو تحركنا بسرعة بعيدا عن المسرح التقليدي، وحتى لو أن بعض المؤيدين للاستقلالية المسرح وإعادة مسرحته من جديد المؤيدة لطلب التخلي عن النص تماما، فلم يكن الدافع وراء المسرح الراديكالي هو ازدراء النص، بل كان أيضا محاولة إنقاذه . فغالبا ما كان مسرح المخرجين الناشئ مهتما تحديدا باستبعاد النصوص من التقاليد وحمايتها من المكونات المسرحية التعسفية المبتذلة أو المدمرة . ويجب علي من يدعو إلى إنقاذ مسرح النص أن يتذكر هذا السياق التاريخي . إذ تتعرض تقاليد النص المكتوب لتهديد التقاليد الأشبه بتقاليد المتاحف بشكل أكبر من تهديد الإشكال الراديكالية في التعامل معه .
............................................................................................
هذه المقالة هي جزء من الفصل الثاني من كتاب “ المسرح بعد الدرامي Postdramatic Theater” ـ تأليف هانز سيز ليمان الصفحات من 47-57 وقد سبق أن قدمت جريدة مسرحا عددا من الدراسات النقدية في أعدادها السابقة .