تأملات في نظرية المعرفة السيميوطيقية في تحليل الأداء (1)

 تأملات في نظرية المعرفة السيميوطيقية في تحليل الأداء (1)

العدد 708 صدر بتاريخ 22مارس2021

منذ تسعينيات القرن الماضي، عانى علماء المسرح من احباط من الأساليب السيميوطيقية التي تدعي بأنه ؛ نظرا لأن السيميوطيقا تستند الى الى خطاب مشفر ومنهجية مركبة بشدة، فان تحليل الأداء الذي تقدمه هو تحليل جامد وغير مرن . وقد أربكت دقة التقييم السيميوطيقي وجفافه العديد من المتخصصين في تحليل الأداء الذين شككوا في مدى كفاية تلك الأدوات التحليلية المطبقة علي الغموض الجمالي والمراوغة البنيوية للأداء اليوم، والتي عرفها هانز ثيز ليمان بأنها ما بعد الدراما :
 المسرح بعد الدرامي ليس ببساطة نوع جديد من تقديم النـص على خشبة المسرح– أو حتى نوع جديد من النص المسرحي، بل هـو بالأحـرى نـوع من استـخدام العلامة في المسرح التي  التي تقلــب كـل مسـتويات المسرح هذه (مسـتوى نـص الأداء ومستوى الجمهور) رأسا علي عقب من خلال خاصية نــص الأداء المتـغيرة بنيـويا : يصبـح حضـورا أكـثر منـه تمثـيلا، ومشـاركة أكـثر منه تجـربة نقـل، وعملية أكثـر مـنه نـتاج، ومظهر أكثر منه دلالة، واندفاع أكثر منه معلومات .
يهدم المسرح بعد الدرامي سببية السرد القصصي الحداثي ويضمن انتشار الدراماتورجيا المستقلة والمتشظية في الفرجة الجماعية. ويتخطى في تركيبته الجمالية القوانين الأساسية للأداء المسرحي، مثل ابتكار الايهام، وبناء عالم محتمل يمكن أن يوجد اما كنماذج مجردة، أو كينونات فعلية، أو بنيات مفاهيمية، وتقديم ظاهرة علامة العلامة للجمهور. وتتطلب دراسة المسرح بعد الدرامي وصف وتحليل العديد من نصوص الأداء المصغرة والأحداث المصغرة التي تنشأ داخل النقل الدائم للمعلومات بين خشبة المسرح والمتفرجين . ويجعل من الضروري أن نستفسر عن الأساليب السيميوطيقية العادية في تحليل الأداء من خلال تحويل الخطاب الى التسمية والربط ودراسة مناهج التحليل النفسي وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا في تحليل الأداء، وتركيز انتباه العلماء علي اشكال الالغاء الذاتي للمعنى .
 ويظهر في هذه المرحلة عددا من الأسئلة. فربما نسأل: اذا كان المسرح بعد الدرامي نتاج الفن الذي يحدد أدوات ادراكه، فما هو نوع المنهجية التي يتطلبها تحليله؟ واذا كانت طبيعة التقديم المسرحي دلالية (سيميوطيقية) وتقوم علي خلق ظاهرة علامة للعلامة، فهل يعني هذا أن المنهجية السيميوطيقية في تحليل الأداء يمكن أن تستخدم لشرح جمالياته؟ وهل هذا المنهج السيميوطيقي فقط هو الذي يوفر معايير لتقويم العوالم المحتملة التي تنشأ في الحدث المسرحي؟ ماهي منهجية تحليل الأداء التي يمكن أن نستخدمها اذا قدم الحدث المسرحي نفسه باعتباره حدثا غير سيميوطيقي، وتبنى ظاهرة اللاتمثيل Not-acting ؟
 ولمواجهة تحديات تحليل الأداء اليوم، اقترح باتريس بافيس منهجا لتطبيق مصطلحات وأدوات علم السرد narratology علي كل من المسرح الذي يقوم علي النص والمسرح الذي يقوم علي الأداء المبتكر (المسرح البدني والذي يقوم علي الصورة). ويفضل هذا المنهج الصيغة الفينومينولوجية في تحليل الأداء : وهي تعكس حاجة المتفرجين الي ضرورة وجود سرد نقدي شارح Critical meta-narrative مصاحب لعرض مسرحي معين . اذ لا يمكن لهذا السرد المركب أن يوجه فقط رواد المسرح العاديين في ماهة العرض المسرحي المفكك والمتشظي، بل يمكنه أيضا أن يعكس ما يشعر به المتفرج وما يفهمه وما يتعرف عليه ويحدده أثناء مشاهدة المسرحية .
 وبالمثل تقترح اريكا فيشر ليشت دمج منهجي قراءة الأداء السيميوطيقي والفينومينولوجي :
 بينما يهتم المنهج السيميوطيقي نفسه بالشروط التي تظهر بموجبهـا المعـاني في الأداء من العمليـات الأدائيـة، مـع المعاني المفهومة والمحتملة، يركز المنهج الفينومينولوجي علي العمليات الأدائية بما هي كذلك . فبينما يسأل المنهــج السيميوطيقي «ما معنى العمليات الأدائية»، يثير المنهــج الأدائي بدلا من ذلك سؤال «مـاذا يفعلـون؟» . وبالتـالي،  يتأمل التحليل السيموطيقي ما يحدث علي خشبة المســرح كنـص مصنوع من العلامـات المسرحية التي لا بـد مــن تفسيرها. وتتعلق التحليلات بعملياتها الأدائيـة التي تؤدي الى حـدوث شيء بين الممثلين والمتفرجين – بمعـنى أن  أن يتأثر المتفرجون بما يفعله الممثلين/المؤدين . وبمتابعة اقتراح فيشر ليشت حول اثراء المنهج السيميوطيقي بصيغ الفينومينولوجيا، تقدم هذه الدراسة مفهوم «المجال السيميوطيقي semiosphere” عند يوري لوتمان Yuri Lotman (وهو مساحة الاتصال الاثنروبولوجية والاجتماعية التي حافظ كل مشارك علي وجوده الآني عبر المجالات الزمنية واللغوية والثقافية) كظاهرة اتصال تحدث داخل مدة الحدث المسرحي والصيغة النظرية التي يلتقي عندها السيميوطيقي والأدائي .
 وفي كتابها «القوة التحويلية للأداء: جماليات جديدة The Transformative Power of Performance : A New Aesthetics تصف فيشر ليشت الحدث الأدائي performative event بأنه نوع جديد من المسرح الطليعي، الذي لا يستدعي العالم القصصي علي خشبة المسرح . ويخلق حدثا: تبادل خشبة المسرح/المتفرج للدوافع العاطفية والطاقة وردود الفعل البدنية، والمعلومات السمعية والبصرية. ويفضل مادية الشيء، ومادية الجسم، وصدق الكلمة، وفعلية الصوت.
 وعلي الرغم من أن حجة هذه المقالة قريبة من اهتمامات فيشر ليشت، التي تصف الحدث الأدائي بأنه الحدث الذي يرفض القوانين الأساسية للمسرح كفن محاكاة ويقدم جماليات غير السيميوطيقي أو غير القصصي ( ألا وهو فن الأداء)، فان العروض المسرحية التي ناقشناها في هذه الدراسة تستدعي العوالم القصصية علي خشبة المسرح . وفي نفس الوقت، وبشكل مماثل لفن الأداء، تميل هذه العروض الى زعزعة الوضع السلبي للمتفرجين كمجرد « مشاهدين» وليس مشاركين في العرض المسرحي .
 وتستخدم هذه الدراسة مصطلح الحدث المسرحي theatrical event علي سبيل القياس مع مصطلح فيشر ليشت الحدث الأدائي performative event . وهو يميز الحدث المسرحي (سواء كان يقوم علي النص أو يقوم علي الحركة) باعتباره تمثيلا : أي أنه يتميز بدرجة من القصصية التي يستدعيها . والحدث المسرحي، كما تقترح هذه المقالة، عملية ادراك مركبة ومفتوحة بين العديد من المحاورين . وتقدم ديناميات علاقات خشبة المسرح /الجمهور كنقطة التقاء بين ثلاث مجالات من الاتصال الفعال : (1) مجال خشبة المسرح، (2) مجال المتلقي، (3) مجال اتصال خشبة المسرح/الجمهور. ان مصطلح الحدث المسرحي يشير الى عدد من الأشكال الفنية، مثل العرض المسرحي، وأداء الرقص أو الحفل الموسيقي، التي تتكشف في الزمن والمكان الحاليين للجمهور والتي تعتمد علي خلق المؤدي للعلامة في نفس وقت فهمها وتجسدها كموضوع جمالي في ذهن المتلقي . وبناء علي التبادل المستمر للمعلومات بين المرسل والمستقبل والذي يحدث في الوقت الفعلي للابداع، والتقديم، و التقييم، فان الحدث المسرحي هو الأقرب للاتصال اليومي، الذي يوظف كممارسة لترجمات متعددة تهدف الي تدوين نص الأداء متعدد الأبعاد، وتسجيله ونقله، في نص ذهني أو شفهي لتذوقه بواسطة المشاهد . وبالتالي، بالنظر الي الديناميات التواصلية للحدث المسرحي، تأخذ هذه المقالة ملاحظات فيشر ليشت كدليل عملي، علي الرغم من اختلاف الأبعاد السيميوطيقية والأدائية في الأداء المسرحي، الا أنهما متشابكين بشكل وثيق، وبالتالي لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، وحتى لو كان ذلك بشكل مؤقت لأسباب ارشارية . وبذلك، بقدم هذه الدراسة مفهوم المجال المسرحي السيميوطيقي theatrical semiosphere، وهو ظاهرة تنشأ من اتصال خشبة المسرح/ الجمهور، لاستخدامها في تحليل الحدث المسرحي بعد الدرامي الذي يجعل جمالياته غير سيميوطيقية (منعدمة الدلالة) .
– الحدث المسرحي بعد الدرامي ومبدأ اللاسيميوطيقا (انعدام الدلالة)
منذ ظهور كتاب أرسطو « فن الشعر Poetics”، اعتبر التقديم المسرحي مزيجا من فنين أو أكثر من الفنون المستقلة ( الأدب، والفن البصري، والموسيقى ..الخ) التي تنشئ شكلا فنيا مستقلا يعتمد علي تمثيل البشر وأفعالهم في عوالم قصصية أو عوالم محتملة ( زمان ومكان العرض المسرحي كتمثيل للعالم القصصي) من جانب البشر وأفعالهم في العالم الفعلي ( زمن ومكان الحدث المسرحي الذي يتكشف في الزمن والمكان الفعليين الموجود فيهما الجمهور) . وطبقا لباتريس بافيس :
 علي الرغم من أن المسرح له عدة تقنيات مختلفة متاحة له (فهـو متعـدد المجـالات بطبيعته)، ورغـم من أنه ما يزال يتضمن عنصرا ثابتا وأفعالا منصوص عليها، وأنـه أكـبر  من أي من هذه الوجوه . فهو يقدم دائمـا فعـلا ( أو تمثيــل محاكـاتي لفعـل ) مــن خـلال الممثلـين الذين يجسـدون أو  الشخصيـات أو يعرضونها لجمهـور تجمـع معا لتلقيـه في  في زمان ومكـان يمكـن أن يكونـا محددين مسبقا أو غيــر محددين مسبقا .
 ونتيجة لذلك، يفترض فن المسرح عملية سيميوطيقية (ويقوم عليها) لخلق علامة للعلامة التي تبرر كل من الطبيعة المادية والاستعارية للأداء . فمثلا، يتميز التمثيل، وهو جوهر أي حدث مسرحي، بأنه تمثيل أفعال البشر والكائنات المجسمة وأفعالهم وسلوكهم بواسطة البشر وسلوكهم وأفعالهم . انه تجاور أنماط أجسامنا وأصواتنا مع التوصيف النفس جسمي للشخصية الدرامية التي تنطوي علي عمليات تقديم وفهم وتحليل علامة علامة تمثيل فن المسرح أو دلاليته .
 يتميز المسرح بجمالياته الخاصة : مسرحانية التمثيل أو شاعرية التمثيل . وعلي غرار أدبية الأدب وفقا لمفردات ياكبسون، فان المسرحانية هي الششكل التعبيري لمسرحانية الأداء . اذ تتحقق المسرحانية باستخدام وسائل تعبير مسرحية متشكلة علي نحو فريد ومستخدمة في عرض معين . ويحدد أسلوبا وتعبيرية خاصة وتميز تقني للمؤدي والمخرج . وفي هذا السياق، تضم المسرحانية مجموعة من تقنيات التغريب : بداية من غرابة التأثير defamiliarization عند فيكتور شكلوفسكي وصولا الى تأثير الاغتراب alienation effect عند بريخت . والمسرحانية، وفقا لبارث هو المسرح مطروحا منه النص الذي يبرز كل المكونات الأدائية في العرض : التمثيل الميزانسين واعداد خشبة المسرح والعناصر التقنية . المسرحانية مضادة للأدب، ومسرح النص والوسائل المكتوبة، والحوار وأحيانا السرد ودرامية القصة المبنية بشكل منطقي .
 وكما يقول ايلام، يقوم الحدث المسرحي علي التمييز بين العالم الواقعي للمؤدي والمتفرجين والعالم المحتمل في التقديم المسرحي، انه حدث زماني مكاني يتم تمثيله في مكان آخر وكأنه يٌقدم فعليا للجمهور . وهذا المكان الآخر الزماني المكاني هو عالم محتمل ينشأ في الأداء المسرحي الذي يخلقه الممثلين . والمسرح كفن محاكاة وتمثيل يهدف الى بناء واقع قصصي يتضمن عالما فعليا وكثير من العوالم الأخرى، بعضها يمكن الوصول اليه من العالم الفعلي . وبالتالي يملك كل عالم عالمه الفعلي، والذي يمكن أن يسمى «اساسه» . وهذه الحقيقة القصصية معروفة في النظرية الأدبية باسم العوالم المحتملة التي ينتجها نشاظ جمالي – الشعر والتأليف الوسيقي والأسطورية ورواية القصص والرسم والنحت والمسرح والرقص والسينما والتليفزيون وما اليها . وتشمل هذه العوالم المحتملة كل من العالم الفعلي والحياة العادية والعالم الفعلي لعمل فني بعينه والذي يشير الى واقع المتفرج أو رؤيته المثالية لهذا الواقع .
  بينما يبدو أن نص الأداء المسرحي يشير الي عالم قصصي ويصفه، فانه في النهاية يصــف عالـم المتفـرج علي نحــو  استعاري . بمعنى أن العالم القصصي مصطلح غير مـلائم لوصـف استعـاري كلي أو جزئي للحـالة الماديــة للمتلقي . وتفترض هذه المقولة أن نص الأداء هو نوع من الوصـف وتعتمد قيمته الحقيقية علي طبيعــة العالـم القصصي الــذي  يصفه .
وهذا التشابه يساعد المتلقي علي خلق علاقات ويدرك سبب ونتيجة العلاقات المقدمة في عالم محتمل معين، ويسمح له أن يتطابق مع الفعل والشخصيات المقدمين علي خشبة المسرح .
 العوالم المحتملة ليست بالضرورة علامة أيقونية لواقع المرسل اليه، بل تنشأ بواسطة أنساق سيميوطيقية – اللغة والألوان والأشكال والنغمات والتمثيل وما الى ذلك، وبالتالي تصبح أشياء سيموطيقية . والعوالم المحتملة أو القصصية يتم الوسول اليها من خلال قنوات سيميوطيقية عن طريق معالجة المعلومات، التي توفر تبادل ثنائي الاتجاه ومتعدد ومتغير تاريخيا بين الواقعي والقصصي . وتتطابق العلاقات الدينامية بين العالم المحتمل في العمل الفني والعالم الحقيقي للمتلقي مع العلاقات الجدلية بين مختلف المرسلين والمستقبلين الذين ينشأون داخل حدود كثير من المجالات السيميوطيقية وفي تقاطع معها، كما يصفها لوتمان .
 والفرق بين العالم المحتمل في الرواية والعالم المحتمل في الأداء المسرحي هو، مع ذلك في أشكال تقديم العالم الفعلي وفي الوظائف التفسيرية للمتلقي (القارئ أو المتفرج ) . أولا، بعكس ما يحدث في الأدب، فان العالم المحتمل للمسرحية (في المسرح المرتكز علي نص) أو في سجل الأداء ( في المسرح البدني ) يتجسد من خلال ما يحدث هنا والآن في مكان وزمان خشبة المسرح، وأيضا تقديم الممثلين لنماذج خشبة المسرح stage figures .
 والنموذج المسرحي هو جزء من بنية ثلاثية للعلامة التمثيلية ( الممثل – نموذج خشبة المسرح – الشخصية الدرامية )، حيث يشير الممثل الى “ أنا “ الممثل، ويشير نموذج خشبة المسرح الى وظيفة الممثل باعتباره منشئ الفعل وناتجه، والشخصية الدرامية تشير الى وسيلة النقل التي تولد الموضوع الجمالي كصورة دينامية في أذهان الجمهور الواعي . نموذج خشبة المسرح هو مفهوم يعبر عن الديلكتيك الدينامي للأداء باعتباره عملية (محاكاة) ونتيجة (عرض) في نفس الوقت. وترتبط البنية الثلاثية لعلامة التمثيل : الممثل ونموذج خشبة المسرح والشخصية الدرامية بالمصطلحات الوظيفية لنموذج التفكير السيميوطيقي عند كارل بوهلر : التعبيري – المتعلق بالممثل نفسه، والايحائي – المتعلق بادراك الجمهور الذي يشكل الموضوع الجمالي الذهني، والاشاري – المتعلق بتقديم نموذج خشبة المسرح . ونموذج خشبة المسرح باعتباره وجودا ثنائيا ينتمي آنيا الى فعالية تلقي الجمهور ووظائف الممثل الابداعية علي خشبة المسرح . ونموذج خشبة المسرح كبنية أدائية ثنائية تدمج الناتج والعملية علي التوالي، ويرمز الى تمثيل الممثل للشخصيات الدرامية والفعالية نفسها .
 ثانيا، عند قراءة الرواية، نحتاج الى بناء العالم القصصي كصورة ذهنية يمكن لأي قارئ أن يصنعها بواسطة التأمل وجعلها جزءا من تجربته، مثلما يستحوذ تجريبيا علي العالم الفعلي . وعندما نشاهد المسرحية، ينفتح العالم المحتمل آنيا في الزمان والمكان الفعلي للتقديم المسرحي وفي خيال المتفرج ( حتى ولو كنا نتعامل مع تمثيل واقعي للعالم الدرامي علي خشبة المسرح، ولا يزال الجمهور بحاجة الى تخيل الأحداث خارج خشبة المسرح وخارج زمن العرض) . وبخلاف العالم الفعلي للمتلقي، ينشأ العالم المحتمل للعرض المسرحي وبالتالي يمكن أن يعرض أكبر عدد ممكن من الانحرافات عن عالمنا . ولا يحدد عدد من هذه الانحرافات وعدم قابليته للتنبؤ أسلوب الحدث المسرحي فقط، بل انها تخلق أيضا نماذج دلالاتها ومعانيها .
 ويجعل المسرح بعد الدرامي هذه الممارسة معضلة . اذ غالبا ما يهمل القاعدة الأساسية لفن المسرح باعتباره فن محاكاة وتمثيل وبالتالي يتجنب خلق العوالم القصصية علي خشبة المسرح، ويؤكد علي مادية علامات خشبة المسرح ويبرز مادية أجسام الممثلين علاوة علي مادية الأشياء والأماكن علي خشبة المسرح . ويرفض اجراءات التمثيل والمحاكاة علي خشبة المسرح ويتخذ من أشكال التقديم المسرحي الطقسية والأشكال قبل الدرامية كنقطة انطلاق . ويميل الى عرض الأشكال والأجسام علي خشبة المسرح بماديتها . ومن خلال تجاهل ظاهرة علامة العلامة، يعيد المسرح بعد الدرامي تعريف، ان لم يكن رفض، القوانين الأساسية للعرض المسرحي، أي عملياته السيميوطيقية . ويؤدي الى التأكيد علي التجربة الفردية علي التجربة الجماعية، وبالتالي تحويل الاتصالي المهيمن الي باتجاه ما بعد السيميوطيقي post-semiotic ( النغماس العاطفي والنفس جسمي للمشارك) . ومن خلال التأكيد علي ما هو ناقص وغير متوافق فيه، لدرجة أنه يفهم ظاهريات الادراك الخاصة به التي تتميز بتجاوز المحاكاة والقص، يساوي المسرح بعد الدرامي الزمن القصصي للمسرحية مع الفترة الزمنية اللازمة لتقديمه والفترة الزمنية اللازمة لتلقيه . والمسرحية (اللعب) كحدث ملموس يتم تقديمها في الوقت الحالي ( في لحظة وجود المتفرج فعلا ) تغير بشكل أساسي منطق الأدراك ومكانة موضوع الادراك، الذي لم يعد قادرا علي تلقي دعما من الترتيب التمثيلي .
...........................................................................................
يانا ميرزون تعمل استاذا بقسم المسرح بجامعة أوتاوه بكندا
نشرت هذه المقالة في مجلة  Semiotica  184-1/4 (2011)


ترجمة أحمد عبد الفتاح