أساليب التناول الفينومينولوجي لفن التمثيل(3)

أساليب التناول الفينومينولوجي  لفن التمثيل(3)

العدد 707 صدر بتاريخ 15مارس2021

     وفي سبيل توسيع الفكرة، دعونا ننظر بايجاز الى مثال من مسرح شكسبير . فعندما يسمح لنا «ادموند « بالمشاركة بشكل تعاوني في خلع أخيه، فاننا لا نزال داخل العالم الايهامي لمسرحية « الملك لير «، والذي يتضمن (بالنسبة لبعض الشخصيات علي الأقل ) الوصول الى مستمع خيالي . فنحن في الواقع نكون علي بعد خطوة واحدة من المناجاة، حيث تميل الشخصية الى التحدث عن نفسها بقدر ما تتحدث الى نفسها . ومن ثم، فان الواقع الايهامي لمسرح شكسبير، الذي يوفر للممثلين مثل هذه الفرص الرائعة للتباهي بأنفسهم، يحتوي دائما علي عنصر تعاوني دقيق، أو علي الأقل خيار للتوجه للمشاهدين . وأشك في أن وظيفة هذا الخيار لم تكن مجرد السماح للمسرحية بالاعتراف بخياليتها، بل ابقاء عين مسرحية علي الجمهور الملموس الذي يصخب في المسرح . ومن الجيد أن نتذكر أن الواقعية، كما نعرفها، هي الى حد كبير نتاج « المسرح المسائي « داخل القاعات وهيالمرحلة المثالية لمعاملة الجمهور علي أنه متلصص غير متوقع، وليس كضيف مدعو . ولكن مسرح شكسبير كان يحتوي مشكلة “ علاقات عامة” ضمنية، بمعنى أن جمهوره المستمد من قاعدة اجتماعية عريضة نسبيا، كان مرئيا جدا ( ان لم يكن موجودا ) علي خشبة المسرح، وربما بشكل صوتي . فقد أحب جزء منه «ترماجانت” و “هيرود”، وأحب جزء منه “ فيولا” و “ كورديليا « . ولا أقترح أن هناك مشكلة في الانضباط، بل مشكلة دبلوماسية فقط – في الواقع واحدة من أقدم مشاكل الاتصال : كيف تتلاءم طريقة الكلام مع الطريقة التي يصغي بها المستمع . وفي مثل هذه الحالة قد تكون القاعة العامة : كلما كان الجمهور اجتماعيا، اندمج التواصل الاجتماعي بشكل ما في في الفعل . لا شك في أن علاقة الكلام هذه جاءت بشكل طبيعي وغير معقد ( ويمكن أن ننسبها الى العديد من التأثيرات الأخرى ) ؛ أحاول ببساطة أن أوضح كيف يمكن القول ان عنصر المشاركة يضبط المسرحية علي مشهدها الاجتماعي .
     ونظرا للتركيز علي المادة في الصيغة التمثيلية، تصبح مشكلتنا هي ترك الممثل لذاته والنظر عن كثب في كيفية دخول الناس الى المسرح وكيف يتصرفون بمجرد وجودهم بداخله . ومع هذا، قبل أن نفعل ذلك، يجب التأكيد بأن الصيغة التمثيلية للاداء لا تتضمن أسلوب تمثيل وغناء وعرض واقعي . أو بعبارة دقيقة، ما نسميه الواقعية ليس أقرب الى الواقع من العديد من أشكال التمثيل التي نسميها أسلوبية . ومن الصعب أن نصدق مؤرخ أسخيلوس المجهول عندما يقول ان الجوقة في مسرحية « الطيبون The Eumenides” قد أرعب الجمهور لدرجة أن الأطفال ماتوا وأجهضت النساء . ما نتعلمه من هذا المرجع، مع ذلك، هو الحقيقة الأساسية وراء كل تمثيل : لا يعتمد تعليق عدم التصديق، علي الأقل، علي ما نسميه التشابه الفوتوغرافي بين الصورة والواقع . بل يعتمد فقط علي قوة الصورة لكي تعمل كقناة لما يمثله الواقع من اهتمام مباشر للجمهور . وهذا يقودنا، في الواقع الى دراسة التقاليد، وقد يحتاج هذا الى كتاب كامل . وهنا أريد أن أوضح باختصار كيف يظهر موضوع التمثيل ويسيطر علي اهتمامنا . الحقيقة هي أن المسرح، وفقا لمصطلح رولان بارث « ثرثرة»، أي أنه ينجرف مع تيار الموضة، قانع بالطعام المهضوم مسبقا، وبما يريده الجمهور . وهذا ليس اتهاما للمسرح بأي حال ( اذ يمكن قول نقس الشيء عن أي فن ) ولكنه اعتراف بأحد مسئولياته المتعددة . ولكن من البديهي أن أي صورة – حتى لو كانت ثرثرة – لها دورة حياة قد نصفها بأنها انتقال من الابتكار الى التقاليد الى الأكليشية، وغالبا مع المرحلة الأخيرة من المحاكاة الساخرة للذات . فالصورة تنفجر بالحياة وينتهي بها المطاف وهي تناضل من أجل حياة تتلاشى . ومرة أخرى، فان المصير البسيط لكل صور الفن هو لعنة الاعتياد . ويقول فيكتور شكلوفسكي «بعد أن نرى الشيء عدة مرات، نبدأ في ادراكه . فالشيء أمامنا ونعرفه، ولكننا لا نراه « . وبالتالي تنجذب كل الصور الى الاختفاء . فالاعتياد علي شيء ما يعني أننا لم نعد نرى الشيء « مخول ذاتيا self-given”  .
     تتميز مرحلة الصورة المبتكرة بالحماس المفرط في البيان . فالصورة الجديدة، مثل الموضة الجديدة، تذهب بعيدا جدا . وهذا ليس عيبا ولكنه من سمات الحماس والاكتشاف، علي الرغم من أنه، من الناحية الفنية، يمكن ملاحظته علي هذا النحو بأثر رجعي فقط، من وجهة نظر التنقية اللاحقة . ففي مسرحيات أونيل المبكرة، مثلا، أدى اكتشاف علم النفس الى ما نفهم الآن أنه تجاوزات محرجة في الصيغ الواقعية ( الكلام الجانبي الطويل في مسرحية « فاصل غريب»، والتحليل النفسي الذاتي الصريح) أو الى الواقعية المفرطة ( استخدام اللهجة الاقليمية ولغة الشارع العامية، ومشاهد حالات السكر الطويلة) . وقد تم صقل العديد من هذا الحماس بالفعل في الواقعية الأوروبية، ولكن الصور تميل الى الظهور مجددا لجمهور جديد . وبالتقاط صورة أخرى من مصدرها تقريبا، يمكننا أن نتخيل كيف أن جمهور لندن في تسعينيات القرن التاسع عشر الذي تفاعل مع مسرحيتي ابسن « هيدا جابلر” و “بيت الدمية الجريئتين، أو قرأ رواية توماس هاردي الفاضحة « تس من دوبرفيل «، كان يمكن أن يتفاعل مع مشهد كبير مثل خروج «باولا تانكراي « من مسرحية بينيرو . فربما أكثر ما أثار الجمهور هو خطابها الختامي، الذي يتعذر اقتباسه نظرا لطوله . لكن يمكن تلخيصه علي أنه رؤية تنبؤية للزوجة الشابة عن اليوم الذي سيزول فيه جمالها بفعل التقدم في السن وسوف يراها زوجها تحت ضوء خيالي غريب أو في وهج الصباح . وهذا آخر ما نسمعه منها، لأن «هيدا « مثل كثير من أخواتها، اللاتي يعشن في بؤس، يندفعن الى الانتحار . واذا لم يوفر الكلام دافعا (لديها المزيد من الدوافع الفورية)، فانه يصور بشكل درامي الاشمئزاز المادي الذي يجعل الانتحار خيارا معقولا . ومن أجل التذوق، هاهي عينة مما يخبأ لها في بضع سنوات قصيرة :
« من المحتمل أن أكون مخلوقة منهكة، محطمة، شعري لامع  وعيناي باهتتان، وجسمي ضعيف أو قوي جــدا، ووجنتـي  مشعتان ودافئتــان – شبـح، حطـام، صــورة كاريكاتوريــة  شمعة ذات ضوء مرتعش – فلنسميها نهاية ما تحبينه . «
فربما قالت في وقت سابق “ انجرفي في طريق الآخرين “، وتلجأ الى مستحضرات التجميل  « وتلك الفوضى « . من المحتمل أن يكون هذا الكلام مثالا جيدا لما قصده شو بكلمة «العالم الصاخب» بقدر اهتمامه بمداعبة موضوعه أكثر من اهتمامه بادخال السيدة تانكراي في مزاج انتحاري . عند سماع هذا الكلام اليوم، فمن المؤكد أن الجمهور المعتاد علي سبيل المثال علي خوف بلانش دبوا من المصباح الكهربائي، فيمكن الافتراض بأن الشخصية التي تساعد نفسها أثناء الخوف سوف تصبح راوية بليغة لانهيارها . ولكن قيمة صورة الكلام في عام 1893 تكمن في حقيقة أنه أمرا مسكوتا عنه الى حد لم يسبق له مثيل في مسارح لندن . فقد كان مصير المرأة المنبوذة موضوعا للوةاقعية منذ الكسندر دوماس الابن، وهيبل، ولكن لم تكن الرواية الجنسية حتى ابسن قد اتخذت مثل التركيبة النفسية الخاصة، فقد كان الشيء المهم هو رفعه الى ضوء الشموع القوي في المسرح، وتحويله ببطء شديد دائما ( مثل حمامات الدم بالحركة البطيئة في أفلام بيكنباه  المبكرة ) حتى يتم عرض تشريحها بالكامل . ويبدو أن المبدأ المشترك للصور المبتكرة في رحلات سينيكا عبر الجحيم الى رحلات الواقعية الى الماضي السببي وصولا الي سخافات العبثية هو أنه اذا كان هناك شيء جيد، فان المزيد منه يكون أفضل . ولم يتبق سوى القليل للخيال لأن العين والأذن لم يشبعا منه بعد .
     يفسح المبتكر بوضوح الطريق بسرعة للمرحلة التقليدية للصورة . ويقول هاري ليفين، « نادرا ما يتم التعرف علي التقاليد حتى يتم تجاوزها . والطريقة الأخرى لقول ذلك هي أن الوظيفة تخفي الشكل : عندما يكون المحتوى مثيرا للاهتمام، فمن الأفضل عدم ملاحظة الوعاء الحاوي ( علي سبيل المثال، عندما يصبح الممثل مملا، تلاحظ أن لديه عادات ) . والمرحلة التقليدية للصورة هي ما يمكن الاصطلاح عليه المرحلة القوية دلاليا . وبالقوة الدلالية أشير الى تدفق الذاكرة علي الادراك الذي يسمح للصورة الجديدة لكي تبدأ عملها في ربط خشبة المسرح بعالم المعنى بالخارج . لأن الصورة تصبح أضعف بشكل ظاهري فانها تصبح (لبعض الوقت) أقوى بشكل ملحوظ – وهذا يعني أنها لم تعد تشترك في طريقتها الخاصة .
     يتم تمييز المرحلة الحيوية للصورة بمحرك يمكن تمييزه بطريقتين . فمن ناحية، تسعى الصورة لأن تصبح أكثر كفاءة أو انسيابية : هذه هي احدى الطرق التي تحمي بها نفسها من ألفة الجمهور المتزايدة . ان علاقة الصورة بجمهورها، اذا تحدثنا بهذه المصطلحات، تشبه حوار المتزوجين : فهي تحتاح الى قول أقل القليل من أجل التواصل . ولكن من الناحية الأخرى، تواجه مهمة الهروب من نمطيتها الشائعة . ومن هنا كانت هجرتها الى مضامين جديدة . وفي هذه المرحلة التي تسمي فيها الصورة كل الأشياء التي يمكن أن تعبر عنها في المجتمع : أولا الزنا في المدينة، ثم الزنا في المزرعة، ثم علي ظهر السفينة .. الخ . وبمجرد أن يتسلح المسرح بنموذج، فلن يكون كافيا حتى يحاول في كل مضمون متاح . ومن الناحية المثالية، سيكون التقدم من المفاجأة ؛ أي أن الشكل التالي يجب أن يحتوي علي بسط غير متوقع يعرض المقام ( الزنا) بلهجات جديدة .
     لا توجد طريقة للتحديد بشأن تطور الصورة، لأن الصورة تختلف في مقاومتها وخضوعها للتقاليد في امكانية دمجها  وتبديلها ومتانتها . ان الأمر مسألة الزمن الذي تستغرقه الصورة لملء الفراغ . فقد يكون للصورة موسمها وتموت من الشيخوخة ( شارلوت كوشمان وسارة برنارد يلعبان دور هاملت )، ثم يتم احيائها في عصر آخر ( تلعب جوديث أندرسون دور هاملت ) . وربما تحقق الخلود، أو الخلود الذي يسمح به التاريخ . فمثلا في عام 1830يلعب الممثل دور هيرناني في مسرحية هوجو وهو جالس أسفل خشبة المسرح وهو يعطي ظهره للمشاهدين طوال الفصل الأول . ولا يهم ما اذا كانت هذه هي المرة الأولى «لمسرح الظهر «، مع أنه لا يهم أن يكون المشهد فر فرنسا – ففي انجلترا كان يمكن تذكره لأنه كما قال فولتير ذات يوم “ يقول الرجل الانجليزي ما يريد، ويقول الرجل الفرنسي ما يستطيع “ . وفي لفتة واحدة يعبر عرض “هرناني” هذا عن المبدأ الجذري للمذهب الطبيعي قبل وقت طويل من ظهوره . والتضمين في الجزء الخلفي هو المفهوم الكامل لتقاليد الحائط الرابع وجميع الاستخدامات والتجاوزات بأن خشبة المسرح صورة طبق الأصل من العالم الحقيقي وليست مكانا للبراعة الفنية التي ظل العالم الحقيقي بعيدا عنها بقواعد ثابتة ومن بينها قاعدة أن الممثل يؤدي من أجل الجمهور في كل وقت . ومع ذلك يبدو أن التقاط الظهر كان بطيئا وبدأ في الازدهار في القرن التالي مع الطبيعيين و أنطونين . بمعنى أنه تطلب نوع المسرحية التي يمكن أن تبرره . في الواقع، انتقل في نهاية القرن من مرحلة التقاليد الي مرحلة مزعجة، مثل القسم في مسرحيات الستينيات . ولكن الظهر بقي بوضوح لأنه لم يكن صورة لطريقة الوجود علي خشبة المسرح . واليوم، لم نعد نفهمه كتقاليد ولكن كوضع طبيعي علي خشبة المسرح . انه وضع طبيعي، ولكنه لا ينتمي الي تقاليد المذهب الطبيعي . وقد يكون المتوازي مع المذهب الطبيعي اليوم هو العري الأمامي – والذي بدأ كما نتذكر، كمنظر خلفي – وهو الآن في طريقه الي خشبة المسرح التقليدية، باستثناء الثورة الأخلاقية الموجودة في الخدمة دائما .
     وربما من الأنسب أن نتحدث بمصطلحات عامة عن أنساق الصور، أو الموضوعات، فضلا عن الصور الفردية، حيث أن جميع الصور في المسرح تحدث في تعدد أصوات معلوماتي، أو يتفاعلون في سياق كثيف ويمنحون الحياة لبعضهم البعض . وكمثال نموذجي يمكننا أن نأخذ تطور الشر في الدراما الانجليزية في عصر شكسبير . سيتعرف الجميع علي عبارة « محكوم بواسطتي « والتي تحدث بانتظام، ولاسيما في تلك المشاهد التي يلتقي فيها الأشرار في سرية ويجب اقناع أحدهم بالأعمال القذرة من قبل الآخر . ولكننا نلاحظ أن الذي يجعل شخص ما محكوما بواسطة شخص آخر أصبح أكثر اختزالا كما تقدمنا في هذا العصر . أي أن العبارة تصبح بديلا لكل الدوافع القياسية التي يعرفها الجمهور من المسرحيات السابقة ( وبنفس الطريقة الى حد ما تختصر عبارة « ابتعد عن العشب» مجموعة من الدوافع المعروفة والمتعلقة بعلم اجتماع صور الطبيعة . ولكن هذا الاختصار في عرض الاقناع ليس سوى أحد أعراض تحول تدريجي في التركيز المثير للعنف علي المسرح نفسه . اجمالا، كانت الدراما الاليزابيثية عادية للغاية فيما يتعلق بتحفيز أي شيء، ولكن مشهد الاثارة والتخطيط للانتقام ( أو التحفيز) هو أمر أساسي في الدراما المبكرة . فمثلا، يغرق هيرونيمو في حزن بسبب مقتل ابنه، ويكاد يجن من الحزن، وقتل بشكل مثير في جنونه في وقت متأخر في المسرحية . وكذلك الحال مع هاملت . بينما، في المسرحيات التالية (مثل مسرحيات وبستر) فان الدوافع غامضة، وعادة ما يكفي كره شخص لابعاده . خلاصة القول، ان الانتقام منذ فترة طويلة  مثل انتقام هاملت أو عطيل قد أصبح خارج الموضة، وتحول الانتباه الى الأشياء المثيرة للاهتمام التي يمكن أن نفعلها للضحايا بمجرد أن يبدأ الانتقام . وربما تكون الدراما الاليزابيثية، من البداية الى النهاية، هي الأكثر دموية في تاريخ المسرح . من الصعب أن تتصدر المسرحيات المبكرة مثل « يهودي مالطة» و “ مأساة هوفمان “ و” سيليموس”، و “ تيتيوس اندرونيكوس” للحصول علي دماء خالصة، ولكن هذه المسرحيات ساذجة عند مقارنتها ببعض مشاهد الموت عند “ تيرنر “ و “ وبستر “ و”ماسنجر “ . هنا لا تقع الصدمة فقط علي عدد القتلى أو الوحشية  بل براعة القتلة الذين تذكرك أساليبهم بآلات روب جولدبرج في غموضها . في الواقع يبدو أن بعض الشخصيات تم تقديمها للمسرحية من أجل مشهد رحيلها فقط من خلال القسوة البارعة لشخص ما، كما يقول أحد شخصيات ماسينجر . وأفضل اسهامات ماسينجر في هذا المشهد هو مسرحية حيث يُسمح لممثل روماني ( حكم عليه قيصر) بالموت أثناء العمل وهو يمثل مشهد الموت مع قيصر .
     وتتحدث الصورة المبتذلة عن نفسها . اذ يجف الوريد علي الأقل . ولا يرى المشاهد فقط من خلال الدال بل من خلال المدلول أيضا . فمثلا، تتوقف الشخصية الخيرة في الدراما العاطفية في القرن الثامن عشر عن تذكيرنا بالخير أو أي شيءئ آخر : انهم مجرد شفرات في صيغة مملة لم تعد تمثل الحياة بشكل مقنع . من هنا جائت صرخة جولدسميث – كفانا من فضائل الحياة الخاصة ومحنها ! والمرحلة الأكثر اثارة هي مرحلة التهكم الذاتي حيث تسخر الدراما من تحجرها . دعونا نتخيل اللحظة التي أصبح فيها المسرح مغرما، من خلالالحظ المنسوب الى برجسون،  بالعروض المسرحية ذات الساعات الموقوتة والنوافير الجارية والأطفال ذوي الكلاب الأليفة . وهذه، ان جاز التعبير، التوليفة الرابحة، ولم تنج منها مسرحية الا اذا تضمنت علي الأقل واحدة من هذه المعالم . وعندما تصبح هذه التوليفة الرابحة صيغة قياسية تصل الأمور الى الأزمة . ويبدأ الجمهور في رؤية كل شيء : يرون علامات المسرح الممل . وقد تجد الأزمة نفسها في السخرية من الذات التي تضخ في صيغة مزاحها انتحارها الجوهري . وهذه لحظة تعاونية للغاية تشارك فيها خشبة المسرح الجمهور في فهم المسرحيات كمسرحيات . ومن المحتمل أن تكون قصيرة جدا ويحدث الانقلاب ( وهنا نحيي تشيكوف) عندما تدخل شخصية ناضجة في مسرحية جديدة ومبتكرة وتقول لشخصية أخرى « دعنا نجلس ونتحدث» . وحمدا لله أنه لا توجد كلاب أو أطفال . ويهتف الجمهور . ويبدو هذا بعيد المنال حتى نتذكر أن هذه هي الطريقة التي قضى بها يوربيدس علي اسخيلوس في مشهد التعرف علي «اليكترا”، وبشكل عام مسألة طروادة نفسها في مسرحيات مثل “ هيلين وأوريست “ .
     باختصار : يجب أن نفكر في هذه النماذج الضمنية كنقاط مرجعية منفصلة، فضلا عن أنهم مراحل منفصلة في ادراكنا للممثل . بمعنى أننا بانفصالهم  يجب أن نسمح لهم أن يتراجعوا معا الى خلاصة مفاهيمية، ونضع في أذهاننا أنه عندما يفق كل منهم علي خشبة المسرح فانهم يتعاونون بقدر ما يتنافسون . ان ميزة التفكير في الممثل بهذه المصطلحات ليست أن نتعلم أي شيء جديد عنه ولكن لدينا أساسا أفضل لرؤية كيف يوقظ الأداء انتباهنا، ليس فقط كأفراد كأفراد في المسرحية ولكن كأعضاء في الأنواع الاجتماعية التي تكلف الممثل لتجسيد مسرحيات حول مختلف اهتمامنا . وربما لا يوجد شيء من الفترة التي يهيمن فيها أحد الأساليب على الأخرى، على الرغم من أنه في عصر سمعة النجم، فان براعة النجم، أو علي الأقل باعته – جذبت الجمهور الى نوع واحد من المسرح أكثر من موضوع المسرحية . وفي ستينيات القرن الماضي، أدى شيء ما في ثقافتنا الى ظهور سلسلة من المسرحيات التعاونية، أو ما يمكن أن نسميه عودة الى نزعة روسو الطبيعية  التي سعى فيها الممثل، بموافقتنا، الى جعل المسرح مرة أخرى مشروعا يشمل الجمهور . في النهاية، يمكن أن نشير الى لحظات في تاريخ المسرح عندما أصبحت المسرحية أداة فحصنا من خلالها الشرايين الناشئة عن السلوك الاجتماعي أو أحيت الشرايين القديمة : الدراما الاجتماعية الجديدة في أواخر القرن التاسع عشر و مسرح الاثارة الأمريكي، ومختلف أنواع احياء الدراما الومانتيكية والشاعرية، والمسرحيات الواقعية عن ادمان المخدرات والمثلية الجنسية والأطفال المختلون .. الخ . ولكن هذه للحظات المؤكدة لا تحصر النداءات المختلفة للمسرح في أي وقت . وهذا هو الحال مع جاذبية الممثل، الذي ربما يكون ظاهرة معقدة مثل المسرح الذي يخدمه . في الواقع، المشكلة مع الممثل هي أنه موجود أمامنا علي الفور، والقيام بشكل مصطنع بما يفعله بقيتنا بشكل طبيعي – ما هي الوسيلة الأساسية للمسرح وفي غايته وهدفه . وقصدي هنا ليس تقديم قولا فصلا عن سلوكنا – يمكن أن يتحطم الي ثلاثية ظاهراتية وهي أساس الكلام . فالممثل يجسد طريقتنا في الاشارة الى أشياء من العالم . أو، ترجم لمصطلحات عن تصورنا لفنه، انه يفعل ذلك من خلال أن يصبح جزئيا، شيئا بذاته، وجزئيا عن طريق القيام بشيء، وجزئيا من خلال مشاركته، أي يسمح لنا بفترة وجيزة يعيش  خلالها حياة أخرى، ولاسيما عندما يدخل في منطقتنا، مما ينتج عنه اكتمال معنوي مثل تأثير تجربة الخروج من الجسد .
....................................................................................
برت أو ستاتس (Bert O’States 1929 -2003) ناقد مسرحي واستاذ للفنون المسرحية بجامعة كاليفورنيا – سانتا باربرة بالولايات المتحدة . ومن أهم كتبه :
توقعات كبيرة في غرف صغيرة: حول فينومينولوجيا المسرح Great Reckonings in little Rooms: On the Phenomenology of Theater  1984
الأحلام وسرد القصص Dreaming and Storytelling  1993
متعة اللعب The pLeasure of Play  1994 .
نشرت هذه المقالة في الفصل الثالث من كتاب « تأملات في فن التمثيل Acting Recondered  “ الذي أشرف علي اصداره  “ فيليب زاريلي “ وقد صدر عن روتليدج عام 2002.


ترجمة أحمد عبد الفتاح