د. حسين عبد القادر: لا يوجد مسرح فقير ولكن يوجد مسرح غني بنص جيد ومخرج جيد وممثلين جيدين

د. حسين عبد القادر: لا يوجد مسرح فقير ولكن يوجد مسرح غني بنص جيد ومخرج جيد وممثلين جيدين

العدد 707 صدر بتاريخ 15مارس2021

ارتبط اسم د. حسين عبد القادر ارتباطا وثيقا بفرقة الغد للعروض التجريبية التي شهدت عصرها الذهبي أثناء تولي د. حسين عبد القادر إدارتها في منتصف تسعينيات القرن الماضي, عن هذه التجربة الهامة أجرينا معه هذا الحوار ليكون وثيقة وشاهدا على فترة مهمة ومغايرة في مسار المسرح المصري..

كيف بدأت التجربة الثرية لفرقة الغد والتي أحدثت نشاطا وازدهارا في المسرح المصري حينها؟
    عُندما عرض علي الأمر أصررت على عد أمور.. أولها أن يكون بقرار من الوزير وتخيلت أن د. فاروق حسني لن يوافق لأنه كانت بيننا خلافات على صفحات الجرائد , وطلبت أمرين آخرين أن يكون هناك قوام فرقة و الثاني أن يكون هناك مسرح, فوعدني الزميل عبد الغفار عودة رحمة الله عليه, أن تكون الفرقة موجودة وأن المسرح سيتم الانتهاء من بناءه في شهر يوليو, وإذ بقرار الوزير يصدر سريعا, فقلت في نفسي: إما إنهم يريدون أن يقولوا (ورينا شطارتك) بالتعبير الشعبي الشهير, أو إنهم يريدون شراء ولائك للمنظومة  الموجودة آنذاك وكان المسرح في أسوأ حالاته, ذهبت للفرقة ولم أجد فيها سوى اثني عشر زميلا منهم سبعة من قسم النقد, وطبعا هذا لا يصلح,  في البداية انتدبت مجموعة من القوى العاملة في هيئة المسرح ثم اخترت سبعة وعشرين زميلا ووافقوا لأني كنت قد اشترطت بدءا أن تكون هناك لائحة عمل, تقوم على أن الفنان المبتدئ يحصل على ألفين جنيه عن  الثلاثين ليلة عرض , والدرجة  الأعلى يحصل على ثلاثة آلاف جنيها ثم الفنان القدير أربعة آلاف, والكل ينتمي للفرقة ولا يجد لدي انتداب من الخارج, ذهبت للفرقة وجدتهم يوقعون في دفتر الحضور كل يوم أحد. فقلت لهم يا زملائي سنلتقي كل يوم أحد لكن بعضكم سنلتقي به في قاعة الدرس.
ما  المنهج الذي اتبعته في أسلوب إدارة الفرقة؟
كتبت ورقة عمل, من قرابة عشرين صفحة أقمتها على عدة محاور: أولا لا يوجد مسرح بدون فلسفة ومن ثم الفلسفة توضع في سبيلها خطة عمل, ومشاكل المسرح المصري حينها تتبلور في وجهة نظري في ثلاثة أمور: أولا غيبة الفلسفة ومن ثم غيبة خطة, ثانيا الأموال المهدرة فكانت العروض قد بدأت تتكلف مليون جنيه وأكثر, وبالتالي تسبب ذلك في قلة العروض كماً, والثالثة ترهل الإدارة, فعندما يقبع زميل في الإدارة لمدة سبعة عشر عاما فهذا لا يحدث في العالم كله, بعد ذلك قلت نحن في حاجة إلى المسرح الغني البسيط, فجروتوفسكي يتحدث عن المسرح الفقير أي استخدام الديكورات البسيطة غير المكلفة وكذلك الموسيقى وغيرها, فأنا قلت لا.., مسرح غني بنص جيد ومخرج جيد وممثلين جيدين, وكل الأدوات المساعدة آنذاك أمور ميسورة وهذا ما أسميه الغني البسيط وضربت عدة أمثلة, فقالوا الجمهور, قلت لا, البولوشوي عندما جاء ليعرض في السد العالي في أوائل الستينيات قوبل بتحية ليس لها حدود, في هذه الورقة أيضا قلت ببساطة شديدة جدا إن المسرح القومي في موسم 53/54 قدم أربع وثلاثين مسرحية, وكنت وأنا طالب في الجامعة أذهب في شهر رمضان إلى المسرح لأشاهد في كل يوم مسرحية, فأحمد السعدني المختص بمخازن الديكور وما إليها يقومون بتركيب كل يوم مسرحية. إذن نحن لابد أن نعود إلى هذا الزمن, لكن المشكلة آنذاك كانت الموال التي تهدر , ووضعت خطة تبدأ بسبعة عشر مسرحية , والحق أنني كنت أنوي أن أخرج المسرحية الثامنة عشر بنفسي, لأنني حصلت على قناع الجامعات ثلاثة مرات منذ عودته في 75, فحصلت عليه بتيكيت أنوي وكان المنافس لي جامعة عين شمس , لأن المتنفس الوحيد لي حينها هو مسرح الجامعات بالإضافة لبعده عن الرقابة حيث يمكن أن أسرب ما أريد من أفكار,  وأيضا أحب العمل بالمجموعات الكبيرة, وكان لدي نص (باب الفتوح), وكانت جامعة عين شمس بها فاروق الفيشاوي وعدد من الفنانين الكبار اليوم, وكنت أخرج لكلية التجارة الخارجية لجامعة حلوان, وأخذت القناع حينها, ثم أخذت القناع بعد ذلك في عرض مسرحية لبريخت, ثم أخذت القناع للمرة الثالثة في نص إميل حبيبي (لكع بن لكع) لتجارة القاهرة, في مرة قبلها كان المفروض أن أحتفظ بالقناع مدى الحياة لنيله ثلاث مرات متتالية لكن تآمروا مؤامرة رخيصة جدا ولم أعفهم من الهجوم حينها, فقد أعطوني جامعة المنصورة في ذلك العام, والمنصورة ببساطة شديدة جدا كان بها ممثلين للأدوار الأساسية وكأنهم لم يحصلوا على الإعدادية, أي أنهم لا يصلحون إطلاقا ومع هذا لم أقل ذلك ونفذت العرض فقط من الناحية الفنية. وتغاضيت عن هذا. وأنا باستمرار يكون همي هو المسرح الغني البسيط, نص جيد, , وأحسب أنني مخرج لا بأس به, مع أبناء مستعدين أن يقدموا العمل.
كيف استقبل الفنانون والقائمون بالحركة المسرحية أسلوب العمل الجديد؟
طرحت ورقة العمل الخاصة بفرقة الغد على الحركة النقدية وطبعتها على حسابي, وكنت أناقش فيها أعضاء الفرقة لأن هذا هو المنهج الذي سأعمل به, فكنت أقول مثلا هل نقدم (فيلوكتيتوس) لسوفوكليس أم لديكم اقتراحات أخرى؟ هل نقدم (الحياة حلم) لكالدرون أم نقدم له شيئا آخ؟ فقمت بعمل شبه استفتاء, عندما رآه الراحل رجاء النقاش وكان رئيس تحرير الكواكب حينها, وكان معه أحد الأصدقاء وقال (يوجد شاب قدم ورقة غريبة جدا), فقال له (أي شاب؟ هذا حسين عبد القادر عضو المسرح القومي). ونشرها الرجل على ثلاثة أعداد وكان علي أن ألتزم بهذه الخطة, وأعداد الفنانين التي جاءت للفرقة من هيئة المسرح لا تكفي, فطلبت تعيين سبعة وعشرين عضوا بهذه الفرقة الوليدة, والحق لم يتوانوا وأجابوا طلباتي. الفنان نبيل الألفي والصديق الفنان حسن عبد الحميد الذي كان خريجا للمعهد وكان عضوا بالقومي وأيضا كان خريجا من كلية الطب البيطري وكان يخرج بالجامعة وكان منافسا قويا وأحترم فيه ذلك ويوم أن أوقفوا له عرض (ميراث الريح) وأيضا أوقفوا له (ساحرات ساليم) يوم العرض, أنا كنت سأعرض بعده مسرحية (الصورة المزدوجة) لدكتور بالمي, وأنا لم أقدم مسرحية سبق تقديمها في كل أعمالي, ففي جامعة الأزهر قدمت (العادلون )لأبير كامي , ولكتسنيكرز الشعلة وجيجاو لمنتخب الأزهر, لدرجة أن عبد الفتاح البارودي نشر قائلا كيف يدخل كامي الملحد في جامعة الأزهر فاستدعاني وكيل جامعة الأزهر وقلت له أني أقدم العادلون ومترجم النص هو  لبناني, وهو في صالح ثورة 52 ويقول إن الثورة تقوم على الكفاية والعدل وليس على الدم وطلب مني كتابته فكتبه وقدم العرض. وعندما قررت وزارة الثقافة أن تطبع النص بترجمة جديدة لإجازته بدأ نص العادلون في سلسلة المسرح العالمي في روائع المسرح ستجد بالصفحة الأولى كتب الراحل د. موافي: حدث عارض وبسيط لكنه شديد الدلالة. وأشاد بالتجربة التي قمت بها حتى يجيز النص في وزارة الثقافة.
 عودة إلى موضوع فرقة الغد فبدأنا في شهر إبريل, وكل الزملاء الذين التحقوا بالفرقة طبق عليهم بطارية اختبارات نفسية, ووقع كل فنان إقرارا بان يعمل بالفرقة على الأقل ثلاث سنوات وإلا يدفع المبالغ التي صرفت عليه. ثانيا كان في مشروعي أيضا أن تسجيلات الفرقة تصبح لصالح الفرقة, وأن الجانب الأيمن من مبنى المسرح يتحول إلى استوديو إذاعي, فكان حينها يوجد نشاط إذاعي كبير في مصر والدول العربية, يمكن أن يستفيد منه أبناء الفرقة, هذا هو المشروع الذي لم يتحقق. في شهر إبريل بدأنا معمل مسرحي كما يجب أن يكون المسرح, فكان لدينا ابن الأستاذ عمر عفيفي ليدرس الباليه , وزميل من العاملين في البالون يدرس لياقة بدنية , د. هناء عبد الفتاح يدرس إخراج, وهكذا.. , ورشة شاملة لمدة شهر كامل وطلبت زيا للباليه للجميع لأداء التدريبات, وكل هذا لم يرفض لي طلب, ويوم 2 مايو بعد عيد العمال بدأنا بروفات سبع مسرحيات في وقت واحد وهي ظاهرة لم تحدث في المسرح المصري على الإطلاق, بها مخرجون جدد منهم الزميل إسماعيل مختار الذي يرأس هيئة المسرح الآن , منهم محمد عمر وجمال الشيخ الذي أخرج عرض المولوية, وغيرهم.
إذا كان كل شيء متوفر بالنسبة إليك. فأين المشكلة إذن؟
 بدأت بعد ذلك العثرات. وكنت قد أخذت موافقة بإنتاج المولوية, وأنا اكتشفت أن في مصر على عكس ما يقوله اللبنانيون من أن المسرح المصري قد نشأ من خلال المسرح اللبناني سليم النقاش وقرداحي وغيرهم, لكن الحقيقة أن هذا غير صحيح, فلدينا مسرح في مصر من القرن السابع عشر منذ عام 1600م في حي الصليبة بالقلعة , وكان هذا المسرح يتم ترميمه لنا في منخفض شارع الصليبة, فالمياه الجوفية قد أفسدت المسرح وقام الإيطاليون بنزح المياه الجوفية تطوعا منهم, وبعدما أخذت الموافقة بإحياء هذا المسرح تراجعوا عن ذلك, والتراجع الثاني أن مبنى مسرح الغد لم يتم الانتهاء منه بعد, وكنا مقبلين على المهرجان التجريبي وزعموا أنني اشتركت فيه بعروض الفرقة, هذا لم يحدث ورفضته وكان لدي  بعروض الفرقة جولة بالأقاليم التي تستحق المسرح, وكتبت مقالا بجريدة الشعب قلت فيها إن هذا هو المهرجان التخريبي أو المهرجان التهريجي, وأنا سأقدم مهرجانا حقيقيا بالأقاليم, عرضنا أول 180 ليلة عرض بستة مسرحيات, لأن مسرحية المولوية عرضت وحدها بالغوري, فعرضت السبع مسرحيات في آن واحد وبشكل متتالي بالتبادل يفصل بينهم يوم واحد إجازة, وعدنا من هذه الجولة, في نهاية المطاف لم ينته بناء المسرح بعد, فاتفقت مع الثقافة الجماهيرية فعرضت في سبعة مسارح تابعة لها, منهم منشية ناصر, وكانت الجرائد التي هاجمتني من قبل بأنني أقول كلام أحلام , بدأت وقتها تتراجع وتشيد بالمسرح الذي أنتجناه, وفوجئت يوم افتتاح المسرح , اتصلت بي زوجة الزميل عبد الغفار عودة في الرابعة مساء لتخبرني بحضور الوزير في الساعة السابعة, لافتتاح المسرح. وكان لدينا في الفرقة مكتب فني لإدارة شئون الفرقة منهم سناء فتح الله وعبد الرازق كاثنين من أهل الرأي  وثلاثة منتخبين من أعضاء الفرقة بالإضافة إلى المدير. وبدأت في الإعداد لأربعة أعمال أخرى, منهم بانوراما المسرح الفرعوني إخراج شريف صبحي, وملك الغرف المظلمة إخراج سامح مجاهد, وغيرهم, وكنت قد اتفقت مع الجامعات للعرض داخلها, وبدأنا عرض أرض لا تنبت الزهور في جامعة حلوان. وفي يوم حضور الوزير جلست جانبا بالكافتيريا وكان معي الصحفي جلال عارف والأستاذ محمد عودة الصحفي النبيل, حضر الوزير وتجول بالجناح الأول للمبنى, واتجه للجناح الثاني, ثم قال لي محمد عودة أنه لا يصح ما أفعله,  ويجب علي استقبال الوزير ومصاحبته, فتوجهت إليه ورافقته, وقلت له إن هذا فيلق مقاتل وعندما طُلب مني أن أقود هذا المسرح أصررت أن يكون بقرار منك وكنت أتوقع أن ترفض, وفي هذه الفرقة بدأت مقولات أنه لا توجد ميزانيات, وأنا لم تتكلف لدي أي مسرحية أكثر من ثلاثين ألف جنيه سوى مسرحية واحدة فقط تكلف إنتاجها اثنين وثلاثين ألف جنيه وهي مسرحية المولوية التي عرضت بالغوري, وينقصني بعد السبع مسرحيات  ومعهم أربعة يقضون البروفات, فيبقى سبع مسرحيات أخرى لن أطلب لهم سوى مائة وخمسين ألف جنيه فقط لإنتاجهم. فقال وأنا موافق, وكان ذلك أمام الجميع.
ما لذي دعاك بعد ذلك لهجرة المشروع والحلم الذي تبنيته؟
توالت بعد ذلك العثرات. فكان يوم الاثنين يوم إجازة أسبوعية وأقول إننا في منطقة متوسطة بين أكاديميات مثل الفنون الجميلة والتجارة الخارجية فيمكن فتح المسرح في هذا اليوم, وفي حوالي الساعة العاشرة مساء جاءني مدير دار العرض قائلا لي إنه سوف يطفئ أنوار المسرح بناء على أوامر عبد الغفار عودة, فانطلقت غاضبا كالمجنون, لأن هذا لم يكن أول خلاف حيث كنت قد تقدمت من قبل بثلاث استقالات بسبب المعوقات التي تصنع في الفريق, وأذكر منها أن عبد الغفار عودة الذي كان في لجنة المسرح ونقيبا للممثلين قلت له إنني لا أصنع ذلك لنفسي وإنما للجيل القادم في الألفية القادمة مثلما كان الستينات جيل السبعينات, لكن كل كان له حساباته الأخرى ولم يكن أمامي سوى تقديم استقالتي التي قلتها له شفاهية, وطلبت عمل لقاء في النقابة التي أشرف بعضوية مجلس إدارتها, حيث كانت الزميلة الفنانة يسرا قد أجرت مؤتمرا صحفيا في النقابة نتيجة مشكلة مع ضابط شرطة قام بمعاكستها, على غرار ذلك طلبت عمل مؤتمر صحفي بالنقابة وأعددت ورقة من عشرين صفحة كخطاب مفتوح للوزير أشرح فيها خطتي وما نفذته منها ومالم يتم تنفيذه وما تم اقترافه من جرائم من قبل الآخرين, ومعها أربعة عشر وثيقة أقلها تؤدي إلى السجن. لكن مجلس النقابة رفض إقامة المؤتمر, فاتفقت مع نقابة الصحفيين وعقدت المؤتمر لديهم وحضره واحد وستين صحفيا, وكتبت سناء عني أني حلاج المسرح المصري, كتب الروبي- إذا لم تخطئني الذاكرة- إنهم يقتلون الغد, وكان الروبي قد كتب عني في بداية تولي إياي مهام مسرح الغد: العائد من المنفى لإنقاذ المسرح المصري, وكذلك أحمد عبد الحميد رحمه الله بعد أن قال في البداية إنني يستحيل تنفيذ ما أطمح إليه تراجع بعد ذلك وشهد لصالح التجربة. وكتبت جريدة الجمهورية والأهالي وغيرها وتواكبت معي حركة نقدية لكني كنت قد اتخذت قراري بعد أن أجهضوا التجربة لأنهم غير حريصين على أن يكون هناك مسرح مصري. فالمسرح هو ما توصف به نهضة الشعوب, لكن في غيبة الإحساس بقيمة الوطن يغيب الإحساس بقيمة المسرح. كنت أحب أن تتواصل هذه التجربة لأن المسرح المصري وجه حقيقي لمصر الحقيقية.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏