إنهم يبيعون الحمير.. لسعيد حجاج

إنهم يبيعون الحمير..  لسعيد حجاج

العدد 706 صدر بتاريخ 8مارس2021

لكل نص عتباته، وأولى العتبات هي العنوان، ومن الملاحظ التناص بين عنوان المسرحية (إنهم يبيعون الحمير) وعنوان الفيلم الأمريكي الشهير (إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك) إنتاج عام 1969، وقد حقق الفيلم نجاحا عالميا مدويا. كذلك هناك مسرحية استعارت الاسم دون مضمون الفيلم وهي (إنهم يأكلون الهامبورجر) تأليف الكاتب الكبير (بهيج إسماعيل) المضمون شديد الاختلاف بين مسرحية بهيج إسماعيل وبين الفيلم، كذلك مسرحية سعيد حجاج، تشابه العنوان واختلف المضمون.
لم يكن هذا العنوان هو العنوان الأصلي للعمل،  فعنوانه هو (العبد وسيده على المحطة). رأيي الشخصي، العنوان الجديد أكثر جاذبية، وأكثر ملاءمة لموضوع النص.
في الحقيقة، لا يوجد عيب في التناص بين العناوين، أنا شخصيا استخدمته من قبل في روايتي (هجرة إلى المألوف) حيث يتناص العنوان مع  ديوان للشاعر عبد الحكيم قاسم (هجرة إلى غير المألوف).
الفكرة الرئيسية للمسرحية:
عمدة القرية يحاول إقناع أهل قريته ببيع حميرهم لخواجة من أوروبا بعد أن نفد البترول منها، يبيع جميع من في القرية إلا واحدا، ثم يكتشف الجميع المقلب بعد أن شربوه.
فكرة خيالية تم التعبير عنها بشكل واقعي، حيث استخدمت جميع أدوات المدرسة الواقعية.
وهذا أضعف النص بدلا عن أن يقويه بسبب إحالة الفكرة الخيالية وهي نفاد البترول من أوروبا واحتياجها للحمير للنقل، والتعبير عنها بمفردات وأدوات ووسائل واقعية تماما. ذلك يحيل المتفرج باستمرار لأسئلة واقعية بدلا عن أن يتقبل هذه الفرضية كما هي، عليك بعد أن تخلق فرضية أن تخلق لها عالما يناسبها، له معطياته وآلياته، وله منطقه الخاص، وكلما ابتعدت الفكرة عن الواقع تناسب ذلك طرديا مع طريقة تناولها التي بدروها يجب أن تجنح للخيال والفانتازيا والعوالم الرحبة للدراما الحديثة.
كذلك لجأ الكاتب لاستخدام الرمز باستمرار، فالعمدة رمز، والخفراء رمز، والحمار نفسه رمز، كما يرد على لسان الحاج خير (الشخص الوحيد الذي رفض البيع. لاحظ دلالة الاسم).
الحاج خير: الحمار مش حمار وخلاص، الحمار زي الأرض والعرض والذكريات وكل الحاجات الحلوة اللي ماتفهمهاش أنت.
 البناء الدرامي للمسرحية:
البناء الأرسطي التقليدي، بداية ووسط ونهاية. في البداية ومنذ اللحظة الأولى يدخل الكاتب في المشكلة الرئيسية مباشرة. أهل القرية مجتمعون في انتظار العمدة الذي يأتي بالخبر ويدخل فيه مباشرة. يقبل بعض الفلاحين الفكرة، ويعتبرها البعض فرصة لا تعوض، بينما يتردد البعض الآخر، ندخل في تفاصيل حياة  كل فلاح على حدة بين بائع ورافض للبيع إلى أن تأتي ذروة في منتصف المسرحية تماما، حين تزداد حمى البيع وسُعار المكسب، ويتطور الأمر بارتفاع أسعار الحمير، وظهور بنك جديد مستعد للرهن والبيع. صار الجميع يبيع ويرهن كل شيء.. ففي اللوحة التاسعة يأتي على لسان العمدة: يا سيدي أنت تشوف شغلك وبس ومالكش صالح باللي يرهنوه سواء كان أرض ولا زرع ولا يرهن مراته حتى.
ثم النهاية الآتية مع مفاجآت غير سارة للجميع.
وتأتي مقولة المسرحية على لسان العمدة في آخر مشهد في المسرحية.
العمدة:
حاتبقى العركة الكبيرة بينا وبين الخواجة، أي خواجة يقرب على كفرنا، وينصب علينا تاني. ودي فرصة إننا اتعلمنا وخدنا درس، إننا ما نصدقش الخواجات، ولا نفتح لهم كفورنا، ولا نبيع لهم حميرنا، ونسيبهم يخبطوا راسهم في الحيطة، لما البترول يخلص منهم ومن حواليهم، إحنا مالناش صالح غير بروحنا.
أما من حيث الشكل، فالبناء يتكون من لوحات، وقد استخدم الكاتب لفظ لوحة بدلا من مشهد أو منظر، وهو لفظ مستعار للمسرح من الفن التشكيلي، ودائما ما يوحي بتغيير كامل في المنظر عن سابقه، وفي النص قلما يتكرر نفس المنظر مرتين، فيما عدا دوار العمدة ودوار الحاج خير، لا يتكرر منظر أكثر من مرتين.
كما لجأ للتقطيع السريع للمشهد في اللوحتين السابعة والعاشرة، حيث استخدم الإضاءة للانتقال السريع بين المشاهد المختلفة، وكان ذلك موفقا تماما وخادما للفكرة والإيقاع.
الشخصيات:
ثماني عشرة شخصية، بالإضافة للمجاميع من الفلاحين، الثماني عشرة شخصية أنماط اشتهر بها الريف المصري، مثل: العمدة، الشيخ، عبيط القرية، الفلاح الفصيح، الخفراء. الشخصيات هي رموز وأنماط أكثر من كونها شخصيات حية من لحم ودم. وذلك لم يكن عيبا لأنه يخدم الفكرة الرئيسية القائمة على فرضية غير واقعية.
لغة الحوار:
استخدم الكاتب اللغة المعروفة لأهل الشمال من الريف المصري، كما تميزت بعض الشخصيات بمفرداتها الخاصة، مثل الشيخ عوكل الذي يمزج كلامه بأحاديث شريفة وكلام من التراث الديني الإسلامي.
كما احتوى الحوار على مفردات وتشبيهات تنتمي لزمن غابر. مثل: يا ابن الرفضي، وهو سباب بَطُل استخدامه ونُسي تماما. كما بعض التشبيهات، مثل: هو أنت فاكرة نفسك أمينة رزق ده أنا أتجوز ليلى فوزي.
كان من الممكن قبول ذلك لو لم يستخدم العمدة الهاتف المحمول في نهاية المسرحية للحديث مع الخواجة.
 الكوميديا في النص:
المسرحية يصعب تصنيفها، هل هي كوميديا سوداء أم (تراجيديا مُقنًعة). لقد انهارت الفواصل الصارمة بين الكوميديا والتراجيديا كما يقول (ج. لستاين) في كتابه (الكوميديا الداكنة): «شاعت روح السخرية حتى في أكثر المسرحيات جدية وقتامة، كما اكتسبت المسرحيات الكوميدية ظلالا قاتمة جعل البعض يصفونها بأنها (كوميديا سوداء)»، أي لا تبعث على البهجة والتفاؤل رغم كمية الضحك الهائلة التي تفجرها، وهذه المسرحية تنتمي إلى هذا النوع من الكوميديا، الذي يتخذ من القضايا الجادة موضوعا ويصوغها في شكل فني، يمزج المأساوي بالملهاوي. وشر البلية ما يضحك. وإذا استعرضنا فيما يلي بعض ما ورد على لسان الشخصيات، لحظنا خفة ظل وحس كوميدي يظهر ويستتر بين الحين والحين.
1 - الشيخ عوكل: ومين قالك إنك حاتفلت من عقاب ربنا، طول ما أنت ماشي بدماغك لا حتورد على جنة ولا على نار، وحتبات في الشارع.
2 - أبو الليف: يعني لو اشتريت لك الحمير من كفر أبو دياب حتجوزيني.
       أمه: حجوزك أحسن غندوره في الكفر كله.
      أبو الليف: هيه، أمي حتجوزني لما اشتري الحمير من كفر أبو دياب وأبيعها.
       أمه: حاتفشي السر يا أهبل يا ابن الأهبل.
3 - العمدة: مش عاوز حاجة غير إنه يا يتهدي يا يتهد.
      أبو الليف: يعني حاتقتله يا عمدة.
4 - العمدة: الواد حيفضحنا.
       أبو زينب: نغرقه في الرشاح راخر.
         : نحرقه بجاز.
         : نولع فيه.
       العمدة: اللي فيه الخير يقدمه ربنا.
       الجميع: ونعم بالله.. الفاتحة بقى.
هل المسرحية سياسية؟! إن كل دراما «هي حدث سياسي لا تخلو من تحريض، أو تشريح لسلوك، أو فكرة ما، وكل أنماط السلوك بحسب (مارتن إسلن) فيها مضامين اجتماعية، وبالتالي سياسية؛ مما يعني أن كل مسرحية تحمل بعدا سياسيا بالضرورة».
وفي هذا النص لم يأتِ ذكر الحكومة بشكل صريح كطرف فعال إلا في اللوحة التاسعة التي يأتي ذكرها فيها كطرف في حل النزاعات، وملاذ يلجأ إليه الضعيف للقصاص من المعتدي.
خير: أنا حابلغ الحكومة عن اللي بتعمله.
العمدة: هو أنا عملت حاجة تخالف الحكومة، لا الحمير بتاعة الحكومة ولا اللي بتشتريها الحكومة.
خير: لكن حاتدور على البنك اللي بيسلف الناس.
وفي النهاية، يجب القول إن المسرح يكتب لينفذ على الخشبة لا ليقرأ كجنس أدبي منفرد، وهذا النص كتب لينفذ على المسرح.


نسرين نور