التجريب.. والفجوة والهوية المغلقة (3)

 التجريب.. والفجوة والهوية المغلقة (3)

العدد 702 صدر بتاريخ 8فبراير2021

لمحة تاريخية عن «اللغة والواقع»:
من منظور فلسفى وتاريخى، علاقة العلامة اللغوية بالمرجع عرفت تحولات عديدة . وما يمكن قوله هو أن ما نشهده الآن من انفصال تام بينهما يرتد فى منشئه إلى عصر النهضة الذى شهد صعود البرجوازية وشروعها فى بناء عالم جديد، ينبنى على أن [كل ماهو صلب يذوب فى الهواء]- كما يقول ماركس.
حالة السيولة هذه، التى أفقدت العلاقات القديمة رسوخها واستقرارها، هى التى جعلت «هيجل» يقرر بأن [كل تسمية لشئ ما هى إماتة لذلك الشئ]، وبقدر ما كان هذا تعبيرا عن القيمة الجديدة التى أضفاها ذلك العصر على «اللغة» كمصفوفة رمزية، إلا أنه كان يعنى أن «الواقع» قد “تأشكل = تحول إلى مشكلة”، أى أن اللغة- بماهى بيت الوعى- صارت هى ما يمكن لإنسان ذلك العصر الرهان عليه فى محاولته الإمساك بالواقع؛ إذ تحوَّلت إلى مستودع للمعارف المتعلقة بالواقع. وكما نلاحظ فقد ازدهرت الصحافة والآداب والفنون وكذلك العلوم بمختلف أنواعها.... ومع دى سوسير سينفصل «نظام اللغة عن نظام الأشياء تماما”، أما مع إينشتاين فسيفقد الواقع بداهته.
فى تلك المرحلة التى تم فيها وضع الواقع- الذى ولد توا كـ «مبدأ”- فى موضع سؤال معرفى، مما أدى إلى ظهور العلوم الإجتماعية والطبيعية، كان “الواقع- كمفهوم” قد حل محل الطبيعة والوجود كمصطلحين كونيين قديمين تمحورت حولهما الفلسفة من قبل .
غير أن تحول «الوجود» من موضوع للميتافيزيقا الباحثة عن الماهية، إلى “واقع” هو موضوع للمعرفة، على يد كانط، كان يعنى أن «اللغة» نفسها تحولت من لغة تأملية، شعرية، إلاهِيَّة مجنِّحة، إلى لغة واقعية نثرية، تسعى لمقاربة موضوعها الواقعى من خلال ذات إنسانية عاقلة تتحمَّل مسئولية صناعة مصيرها ومن ثم معنى وجودها بنفسها . وكما نلاحظ ففى تلك المرحلة بدأ المسرح ينأى بنفسه عن الشعر، ولو بدرجات متفاوتة، وكان هذا هو عصر انفجار الوحدة الأيديولوجية القديمة، عصر صناعة المرجعيات والأيديولوجيات الحداثية الجديدة .
الإمساك بالواقع الجديد- إدراكه والوعى به- كان هو الشغل الشاغل لعلماء ومفكرى ومبدعى ذلك العصر وما تلاه. غير أن الشغف بإدراك الواقع فى كليته، كان يستند إلى رؤى متنوعة ومتعددة ومختلفة للعالم، توزع عليها المجتمع الغربى، تبعا لإنقسامه الطبقى، وقد انعكس ذلك بوضوح على اللغات القومية ومزقها إلى لغات إجتماعية متصارعة، مما تعقدت معه مشكلة العلاقة بين اللغة والواقع أكثر من ذى قبل، وهو ما سيصيغه باختين بعد ذلك فى قوله الشهير : [العلامة حقل صراع عقائدى] .
فى تلك المرحلة التاريخية، كان المسرح قد تم إعداده تماما لإستقبال «المخرج» بالمعنى الحديث.
قدم ساكس مايننجن عمله الإخراجى الأول فى عام 1874- معتمدا الدقة التاريخية فيما سمى بـ «الواقعية المتحفية”، ليتمكن جمهور ذلك العصر من مشاهدة أعمال شكسبير فى  أماكنها التاريخية- دون أن يدع الأمر لمخيلة الجمهور، كما كان يفعل شكسبير نفسه حين قدم أعماله على خشبة عارية؛ ذلك، كما أشرت، لأن اللغة والواقع كانا قد تحولا إلى إشكالية، ولم يعد ممكنا ترك الأمر لكل متفرج على حدة، أى أن مايننجن أراد أن يضع المتفرج فى القلب من السياق المكانى الذى تجرى فيه الأحداث. وسنلاحظ بأنه بهذا كان سابقا على هيجل الذى ولد عام 1770، وقال- ما أشرت إليه من قبل- بأن [تسمية شئ ما هى إماتة لذلك الشئ]، أعنى أن الفجوة كانت قد اتسعت لعدم كفاية اللغة الشكسبيرية للدلالة على الواقع الذى تدورحوله الأحداث .
هذا وظهور “الجمالية المسرحية”؛ التي تعد “العرض” هو جوهر المسرح، في بداية القرن العشرين، كان تعبيرا، ليس فقط عن التقدم التكنولوجي “في الإضاءة وميكانيزمات المناظر… إلخ”، وإنما- وفى الأساس- عن استفحال “مشكلة المعنى”: ففي عصر الأيديولوجيات، تم وضع العلامة اللغوية في موضع سؤال ، لذا لم يكن غريبا أن يترافق ظهور “مايرهولد” مع ظهور الشكليين الروس، وتمحور مشروعهم حول “دراسة اللغة الأدبية بما هي انحراف عن اللغة السائدة”، وكذلك “باختين” بحوارياته الشهيرة حول صراع الخطابات وتعدد اللغات الاجتماعية الذي تعد العلامة اللغوية حقلا له.
هذا الإلتباس الحادث فى تمثيل العلامة اللغوية للشئ، دفع بوظيفة الدراماتورجيا إلى أن تتبوأ موقعا ممتازا في العملية المسرحية، إذا اقتضى الأمر إعداد النص بما يتوافق مع رؤية المخرج، وكذلك سائر عناصر العرض درءا للالتباس الدلالى .
وما يمكن قوله، هو أن “الصدمة” التي أحدثها مسرح النصف الأول من القرن العشرين لدى المتفرج، في تقديمه للنصوص التراثية، نتجت عن “اختلاف” المرجع أو المشار إليه “أي الشيء نفسه”؛ الذي يعرفه في الواقع، عما يراه على خشبة المسرح. وإذا كانت المتحفية التاريخية عند ساكس مايننجن، وبعد ذلك الطبيعية عند أندريه أنطوان، تنبنيان على التطابق أو التشابه بين العلامة اللغوية “النص” و”الشيء؛ العرض”، كمحاولة للإجابة عن سؤال الحقيقة، ففقدان الأمل فى اللغة كأداة للتواصل، أرغم «كريج» على التخلى عن النص، فيما ذهب “آرتو” إلى محاولة إعادة اللحمة بين الشيء وفكرته نفسها، متحدا بالمثال الأفلاطونى. وبينما لجأ “ستانسلافسكى” إلى الصدق الواقعى، آثر «مايرهولد” البيوميكانيك؛ بما هو الأداء التمثيلى الآلى المميز للطبيعة الحركية للمجتمع الصناعى، أما «برخت” فرأى الواقع فى الخطاطة الأيديولوجية ...
وهكذا، إلى أن انقطعت اللغة تماما عن الأشياء، وتحولت إلى لغو فارغ تتراكم الأشياء بمنأى عنه، كما فى مسرح يونسكو .
أما الآن، فذلك التعدد الدلالي، الذى كان مُهَيمَنا عليه، تحول إلى انتشار دلالي، منفلت إلى أقصاه، وهو ما يعبر عنه فلاسفة اللغة بـ «تدمير العلامة اللغوية»، نظرا لأننا نحيا فى عصر التقنية الفائقة التى أفضت إلى «موت الواقع الحقيقى- كما يقول بودريار وجى ديبور وريجيس دوبرى، وغيرهم»، وإن كنت أرشح إصطلاح “تعدد الواقع- أو الواقع +”- الذى جاء به “جيجيك” كبديل عن “موت الواقع الحقيقى”، ذلك لأن الواقع الحقيقى (أو كمية هائلة منه) لم يزل يحظى بالوجود ويجنح لإنتاج تمثيلات، كما كان من قبل، وإن كان قد أضيفت إليه أنواع جديدة من الواقع؛ «كالواقع المعزز والواقع الإفتراضى”.

وبعد :
ربما لم تكن بنا حاجة للتجريب مثلما هى حاجتنا اليوم- ذلك أن البراديجمات (النماذج المعرفية والجمالية) القديمة، لم تعد قادرة على الإحاطة بالظواهر الجديدة التى طفت على سطح عالمنا المعاصر .
نعم، لدينا عالم معاصر يختلف جذريا عن العالم الذى كنا نعرفه من قبل، مما يتطلب أشكالا معاصرة من التعبير المسرحى .
من هنا، فما يتم تجريبه فى المسرح هو الخروج على القواعد القديمة الراسخة ، المتعارف عليها فى الممارسة المسرحية، وصولا إلى صيغ جمالية جديدة قادرة على مقاربة المتغيرات الحاكمة التى طرأت على الواقع، من ناحية، وإحداث تأثيرات أو ردات أفعال مختلفة لدى المتفرج المعاصر، من ناحية أخرى .
لكنها عروض مشتعلة بالفوضى العارمة، إذ تتمدد خارج جميع الأطر الممكنة، ذلك أن الإطار حد ونهاية- ومع ذلك فهى تخضع فقط للإطار المسرحى، إذ يقبض عليها ويموضعها داخل حدوده المادية، مما ينتهى بنا إلى فصل الفضاء عن المكان.
كما أن “المَشاهِد” يمحو بعضها بعضا، هذا بقدر تداخلها وتشكيلها لمشهدية جديدة أكثر تركيبا؛ مما يحطم الوثوقية الحداثية ويرمى بنا فى فوضى ثنائيات متعارضة لا حصر لها .
وما نلاحظه أيضا هو أن «تعدد دلالات العلامة» الناتج عن عدم ارتكازها على مدلول ما يتأكد ويترسَّخ لدينا عبر التتابع المشهدى، قد بلغ حده الأقصى، مما اهترأت معه العلامة نفسها ، وصارت بلا إمكانات اتواصلية.
كل هذا وغيره كثير، يضعنا كمتفرجين أمام سؤال: إلى أين يمكن لنا أن نلتفت ؟، أو من أين نبدأ النظر؟، أو ما الذى يجب علينا أن نراه؟. مما يعنى أننا أمام «مشهدية مسرحية بلا مركز».
والآن- ما الأمر الجديد الذى يتعيَّن على هذا المسرح العثور عليه؟.

خاتمة
 الفجوة بين اللغة والواقع، التى ظلت تتسع مع تعدد دلالات الدال وتعدد الواقع، هى نفسها الموقع الذى يقيم فيه التجريب الحديث برمته؛ فهى الداعى الخفى للتجريب، وإذا كان التجريبيون عامة، سواء أكانوا «رواد المسرح الحديث» أو «المعاصرين»، قد اتخذوا من تلك الفجوة موضوعا لهم، فرواد المسرح الحديث حاولوا ردمها باقتراح حلول تمتح من المعطيات العلمية والأيديولوجية التى جاد بها العصر الحديث، أما المعاصرون، فتفاقم الأزمة لديهم حال بينهم وبين اقتراح حلول ممكنة- نظرا لتساقط المواضعات الحداثية، العلمية والأيديولوجية، مما جعل نهجهم التجريبى يتمدد داخل قارورة مغلقة عليهم هم وحدهم؛ بما هم «جماعة معنى- أى جماعة ملتفة حول معنى جمالى هو هوية مغلقة”.
وكما نلاحظ، فما قال به “رولان بارت”- وأشرت إليه من قبل- بأن [... هناك من يدرك كل لفظ فى ازدواجيته، كما يدرك عدم إدراك شخصيات المسرحية الذين يتحاورون أمامه: ذلك هو القارئ. هنا تتضح لنا حقيقة الكتابة: فالنص يتألف من كتابات متعدِّدة، تنحدر من ثقافات عديدة، تدخل فى حوار مع بعضها البعض، وتتحاكى وتتعارض، بيد أن هناك نقطة يجتمع عندها هذا التعدُّد. وليست هذه النقطة هى المؤلف، كما دأبنا على القول، وإنما هى القارئ...]، هو نفسه ما أعاد «دولوز” قوله ممسرحا، يقول “بافى” فى معجمه، ص 411، فى حديثه عن «مسرح ما بعد الحداثة»: [يوجد أيضا ماهو بالغ القيمة، وهو محور التلقى والإبداع: فالمُشَاهِد يعتبر منظما للإنطباعات المتفرقة والمتقاربة ويصوِّب بفضل منطق الأحاسيس لديه «دولوز” وخبرته الجمالية نوعا من التناغم للعمل...].
فالمسرح الجديد؛ بارتكازه على العرض المُجَسَّد بوسائط عديدة- بمنأى عن اللغة الكلامية؛ إذ لم يعد يتمركز حولها، إنما يضع المتفرج أمام صورة غير ناطقة للعالم- أو ناطقة في الحدود الدنيا، وهنا نجد أنفسنا أمام ظاهرتين، الأولى: هى ما يطلقون عليه إصطلاح “دراماتورجيا المتفرج”، حيث يقوم المتفرج بتحويل الصور المرئية إلى لغة كلامية، ذلك أن الأشياء تسكن، تتوطن اللغة، ونحن نتعامل معها عبر اللغة، أي أن المتفرجين سيتحولون إلى مؤلفي نصوص؛ مما يعنى أننا إزاء عملية مسرحية معكوسة “لا تبدأ بالنص وإنما تنتهي إليه”، وبذلك يصير العرض سابقا على النص، بل على النصوص؛ نصوص المتفرجين. والثانية: الصورة؛ صورة العالم التي يقدمها العرض الجديد، ما مصدرها؟. نحن نعرف أنها لم تعد تمثيلا للواقع “الذي تم اغتياله”، أو لم تعد تمثيلا لواقع محدَّد وبسيط وبدهى ومشترك بيننا، وأنها مجرد صورة متوالدة من صور أخرى يحتل «الإصطناع- المُبَرمج” كمية كبيرة منها، حتى أن علماء الميديولوجيا «علم الوسائط»، يذهبون إلى أنها حلت محل الواقع الحقيقي وتدعى تمثيله والتحدث باسمه.
هنا يمكننا ملاحظة أمرين :
أولا: تحويل المتفرج إلى مؤلف- وعلى الرغم من أنه أمر جيد، إذ يفجر الطاقة الإبداعية عند المتفرج، إلا أنه يحطم سلطة المسرحيين ويأتي بالكامل على هيمنتهم على العرض “من حيث المعنى والأثر”، وبذا يعاد تعريف السلطة المسرحية، إذ لم تعد هى السلطة القديمة «اللاهوتية» المنتجة للمعنى.
ثانيا: كون العرض مجرد صورة متناسلة من صور أخرى، يضعنا أمام القتل المضاعف للواقع الحقيقي، إذ يبتعد بنا عنه أكثر وأكثر، مما يحول المسرح إلى أحد وسائل اختلاط المعايير المتعلقة بإدراك الواقع .
وبالربط بين الأمرين سنجد أنفسنا أمام متفرجين غارقين كل في منولوجه الداخلي المتمحور حول عالم وهمي، مما يدفع بهم نحو مزيد من العزلة ؟.
وما نلاحظه، هو أن أكثرية تلك العروض تتمحور حول: (التمثيل) و(المتفرج).
من ناحية (التمثيل): وأعني به العرض المسرحي ككل (بوصفه استعارة). صار متمحورا حول المحاكاة الساخرة parody للتمثيلات الحداثية، وتحديدا حول تفكيك ميتافيزيقا العروض التقليدية: المركزية، التراتب، الوحدة، الترابط … إلخ؛ فالعرض التجريبى، بما هو استعارة، صار يسخر من استعاريته؛ تلك التى فقدت مبررات وجودها، بل ويمكن القول بأن الاستعارة الجديدة صارت استعارة تقويض وهدم لا استعارة بناء، إذ تنبثق عن نوعين من الاستعارات؛ “إستعارة الواقع الإصطناعى ، بماهو فيض هائل من الاستعارات التي غمرت الواقع الحقيقي، والاستعارات المسرحية القديمة”. وبذا فهي تقف في مواجهة تاريخ المسرح بأكمله “الذي هو تاريخ التمثيل”، وتضعه في موضع سؤال متواطئ مع الإصطناع.
وهكذا، فى العروض التجريبية المعاصرة، تحول المسرح من “قوة جذب مركزية” إلى “قوة طرد مركزية”؛ ذلك أنه صار تعبيرا عن تبعثرنا وتمزقنا المجتمعى .

المراجع :
1 ــ معجم المسرح، باتريس بافى، المنظمة العربية للترجمة، ترجمة ميشال ف خطار، بيروت، ط1، 2015 .
2 ــ اللغة والأسطورة، آرنست كاسيرر، ترجمة سعيد الغانمى، هيئة أبو ظبى للثقافة والتراث، الإمارات العربية المتحدة، ط 1، 2009 .
3 ــ أصل العمل الفنى، مارتن هايدغر، ترجمة د. ابو العيد دودو، منشورات الجمل، المانيا، ط 1، 2003.
4 ــ فى علم الكتابة، جاك دريدا، ترجمة أنور مغيث، منى طلبة، المركز القومى للترجمة ، القاهرة ، ط 2 ، 2008 .
ه ــ صيدلية أفلاطون، جاك دريدا، ترجمة كاظم جهاد، دار الجنوب للنشر، تونس، 1998 .
6 ــ الدال والإستبدال، عبد العزيز بن عرفة، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، ط 1 ، 1993 .
7 ــ الأسطورة والتراجيديا فى اليونان القديمة، جان بيير فرنان وبيير فيدال ناكيه، ترجمة د. حنان قصاب حسن، الأهالى للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط 1، 1999.
8 ــ درس السيميولوجيا ، رولان بارط، ترجمة ع بنعبد العالى، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 3 ، 1993.
9 ــ وليم شكسبير (المآسى الكبرى) ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، ط 2 ، 2000.
10 ــ مكبث، وليم شكسبير، ترجمة حسين أحمد أمين، المكتبة الكلاسيكية، دار الشروق، القاهرة .


محمد حامد السلامونى