وما زال بديع خيري يحذف من المذكرات!!

وما زال بديع خيري يحذف من المذكرات!!

العدد 820 صدر بتاريخ 15مايو2023

في مذكرات الهلال ذكر بديع خيري على لسان نجيب الريحاني كلاماً يخصّ عزيز عيد وسيد درويش فيما يتعلق بمسرحية «شهرزاد» .. وفيه قال الريحاني الآتي: «تغير شعور كل من المرحومين الأستاذين عزيز عيد والمرحوم الشيخ سيد درويش نحوي فركبا رأسيهما، وسمعت من بعض المتصلين بهما أنهما ينويان رفع راية العصيان، ويتحدثان بأن الإيراد الذي يدخل جيبي من فرقة الكازينو – ولست ممثلاً فيها – يجب أن يكون من حقهما وحدهما. وحين وصل إلى سمعي هذا الخبر، قصدت إليهما وصارحتهما بأنني رجل لا أحب العمل إلا في وضح النهار. ثم سردت عليهما ما وقفت عليه من شأنهما، وأتبعته بأنني على تمام الاستعداد لنفض يدي من المشروع وتركه لهما بخيره وشره، فعليهما أن يذهبا بالفرقة حيث شاءا، وأن يكفياني مئونة النظر في أمرها. وكان ذلك الإجراء الحاسم فصل الخطاب بيني وبينهما، وتضافر الاثنان في إخراج رواية «شهرزاد». ومع ما تهيأ».
إلى هنا ينتهي كلام الريحاني!! والغريب أنه كلام مُقتطع ومن المؤكد أن له تكمله!! فنهاية الكلام جاءت هكذا: « وتضافر الاثنان في إخراج رواية «شهرزاد». ومع ما تهيأ «!! وبالعودة إلى المذكرات الحقيقية المكتشفة «مذكرات 1937»، وجدت تكملة ربما سهى عنها بديع ولم ينقلها، وجلّ من لا يسهو!! وهذه هي التكملة بنصها:
« وتضافر الاثنان في إخراج رواية «شهرزاد». ومع ما تهيأ لها من موسيقى عذبة وألحان سحرية قلّ أن اجتمعت في غيرها، فإن فرقة الأستاذين عزيز وسيد درويش لم تقم لها قائمة ولم تنل من إقبال الجمهور وتقديره أي حظ. هذا فيما يختص بالشريكين المخالفين، أما أنا فقد فضلت أن تقوم فرقتي بإخراج رواية كبيرة من نوع الأوبريت كلفت الأستاذ صادق سيف أن يقتبسها، وقد وضع أزجالها الزميل بديع أيضاً وجئت بملحن كان في تلك اللحظة مبتدئا وهو إبراهيم أفندي فوزي، وكلفته أن يلحن بعض الأزجال كما عهدت إلى الأستاذ محمود رحمي في مهمة تلحين البعض الآخر، وأخرجناها باسم «فرجت»، فكان نجاحها كبيراً، وقد سررت كثيراً حين لمست من إقبال الجمهور رغبته وإعجابه. وأتبعت «فرجت»، بأخرى أطلقت عليها اسم «أنت وبختك»، ثم ثالثة أسميتها «24 قيراط»، وفي هذه الرواية أسندت إلى صديقي توفيق المردنلي دوراً هاماً. نجحت هذه الروايات .. وبدأ بعض النقاد الذين كانوا يكتبون ضدي ينحازون إلى صفي ويحبذون عملي. وفي مقدمتهم الأستاذ حامد الصعيدي الموظف الآن في البرلمان المصري، والذي سبق أن أشرت إليه في إحدى المذكرات السابقة. ويسرني أن أقول إن صداقتنا أضحت من ذلك اليوم وثيقة لم يعتورها أي وهن. في ذلك العهد تألفت شركة ترقية التمثيل العربي من صاحب العزة طلعت حرب بك - باشا الآن - ومن بعض الماليين البارزين، وكونت هذه الشركة فرقة على رأسها العكاشيون الثلاثة «عبد الله وزكي وعبد الحميد»، وأمدتها بالمال الوافر والخير الغزير، فتقدم إليها كبار الكُتّاب والمؤلفين وبدأت تخرج روايات فخمة ضخمة لفتت أنظار الجمهور إليها .. وهنا بدأ نجمي في الهبوط، كما بدأ عملي في التدهور .. تذكرت تلك العرافة التي تنبأت لي منذ سنوات بالثروة الطائلة التي يعقبها الإفلاس الجامع وقلت أين لي أن أجد هذه السيدة لأقدم إليها شهادة الاعتراف بالنبوغ والقدرة على اختراق حجب الغيب .. ذلك لأن الأموال التي جمعتها في السنوات من ???? إلى ???? حملتها الرياح العاصفة التي هبت بعد سنة 1920 وأصبحت يا مولاي کما خلقتني. أما ذلك الفيلسوف الفرنسي الذي زار نجع حمادي منذ سنوات أخرى وألقى محاضرات عن السعادة وعدم إمکان حيازتها بالمال ولا بغيره .. الفيلسوف المسكين الذي ضربت بأقواله عرض الحائط ولم آبه لها .. بل ولم أعباً بقائلها!! أصبحت في سنة 1920 أقرّ بصحتها من ألفها إلى يائها، كما أصبحت أتمنى أن يجمعني الزمان به لآخذ عنه نظرياته الفلسفية وأسلم إليه قياد نفسي وزمام أمري! والآن فلأترك عالم الفلسفة والخيال ولأهبط إلى عالم الحقيقة المجردة. في أثناء تمثيل رواية «24 قيراط» قدمت لي سيدة كي تعمل في فرقتي، فلما اختبرتها ألفيتها عظيمة في الإلقاء مشجية في الغناء، كما أنني وجدت في قوامها السمهري وشكلها العام ما يناسب المسرح تماماً .. هذا وإن تكن لغتها إذ ذاك مشوبة بمسحة من اللهجة السورية. كانت هذه السيدة «بديعة مصابني» وقد تعاقدت معها بالفعل وكنت معتزماً تكليفها بإلقاء بعض الأغاني والمنولوجات في فترات الراحة بين فصول الرواية. إلا أنه حدث أن هجرت السيدة بديعة مصر، قبل أن تظهر على مسرحنا، وعادت إلى سوريا. وبعد أن انتهينا من تمثيل رواية «24 قيراط»، تقدم إليّ الحاج مصطفى حفني مدير تياترو برنتانيا الآن، وعرض أن يكون شريكاً لي في القيام برحلة إلى الأقطار الشقيقة، سوريا ولبنان وغيرها .. وبعد مفاوضات بيننا تم الاتفاق نهائياً فرافقت الفرقة بكل أفرادها وقصدنا توا إلى هناك».
وسأترك للقارئ تبرير عدم وجود هذا الجزء في مذكرات الهلال، حتى لا يُقال إنني ضد بديع خيري، وضد ما قام به من حذف لمذكرات الريحاني الأصلية عام 1937!! وعندما يجد القارئ المبرر الذي يقتنع به لتبرير الحذف السابق، أرجو أن يتمسك به ليبرر به الجزء القادم الذي حذفه أيضاً بديع ولم يذكره في مذكرات الهلال، وفيه يقول الريحاني:
«.. كانت هناك «بالوعة» تشفط النقود من جيبي بقوة سحرية أو مغناطيسية .. أو سميها كما تشاء .. فإذا حاولت الخلاص منها ذهبت محاولاتي أدراج الرياح!! هذه البالوعة هي «الروليت». فقد كانت تجذبني اليها كلما مرت .. وكلما أحست بجيبي عامراً .. ما دام بآكل وأشرب وأنام في الكازينو!! وفي آخر شهر أغسطس وقد كنت جالساً في غرفتي أفكر في حالتي وفيما وصلت إليه .. بل وفيما أنا غارق فيه من دين للفندق جاء من يستدعيني لمقابلة المدير!! آه .. والله وطبيت يا أبو النجب!؟ لازم عاوز الحساب يا أمير .. وما ألعن الكلام في الحساب وفي سيرة الحساب!! واتخذت طريقي في الحال .. لا إلى الإدارة، بل للبحث عن باب غير مطروق أزوغ منه هرباً من حدوث ما لا تحمد عقباه بيني وبين السيد المبجل مدير الكازينو .. ولكن المثل القديم يقول: «اللي يخاف من العفريت يطلع له»، فما كدت أخطو بضع خطوات أوصلتني إلى «حوداية»، زرقت منها حتى حصل تصادم .. أنا والمدير .. راس في راس!! عيني يا عيني .. اللهم أجعله خيراً!! لم «يبوز» الرجل في وجهي ولم يكشر عن أنياب الفواتير والملحقات .. بل أخذني من يدي إلى مكتبه وسألني عما إذا كنت مبسوط والا لأ .. برضه بشرة خير .. ثم تدرج من ذلك إلى ذكر مثل فرنسي .. معناه أن الحساب الكويس ينتج صداقة متينة!! فانكمشت على أثر هذه المفاجأة غير المنتظرة .. وقلت في نفسي إذا كان هذا المثل صحيحاً فإن عمري ما حايكون فيه بيني وبينك صداقة لا متينة ولا موقتة!! وأتبع الرجل قوله بإخراج فاتورة الحساب من درج المكتب وناولني إياها .. وبعد قراءتها - على أقل من مهلي - مرة وثانية وثالثة وجدت أن المطلوب من العبد الفقير دُقة .. هو مبلغ وقدره مائة جنيه واثنان!! ولو باعوني بما معي من ملبس وموبيليا فيا دوب يحصلوا الجنيهين الاثنين .. وأعدت الفاتورة إلى الرجل دون أن أنبس لا ببنت شفة ولا بامرأة شفة، فأعاد الرجل ترديد المثل الفرنسي إياه .. وكأنه يذكرني بالدفع .. وإلا مافيش صداقة!! فأما عن الصداقة ففي ستين داهية ياسيدي مش ضروري أبداً من وجودها بيني وبين جنابه .. وأما عن الدفع .. فإيدك مني والأرض. ابتسم صاحبنا وأخرج من الدرج ورقة أخرى قدمها إليّ قائلاً: «وقع هنا» فوقعت سريعاً دون أن أعرف والله ما حوت، وكل ما ظننته أنها كمبيالة بالأجرة وتحديد وقت لسدادها!! وأخذ الرجل هذه الورقة ودق الجرس طالباً الصراف .. فلما مثل أمامه قال له: هات حساب مسيو ريحاني! فخرج وعاد إلينا يحمل رزمة من أوراق البنكنوت أحصاها أمامي فإذا مجموعها مائة واثنان وخمسون جنيها أعطاني إياها وهو يقول: نبقى خالصين! .. خالصين؟! يا نهار زي القشطة .. إيه العبارة!! وشرح لي المدير سر الموضوع قائلاً ما معناه أن التصريح بإدارة الروليت في الكازينو مقصور على ليلة واحدة في الأسبوع، هي ليلة الأحد. وقد فكرت في أن أطلب الترخيص بإدارتها ليلة إضافية أجعلها لحسابك أنت - بصفتك من ضحاياها المكسعمين - فليسامحني الله على استعمال هذه الكلمة المجعمصة الغير مطروقة قبل أن يطلع علينا بها هواة هذا النوع - ولما مالت الجهات المختصة في الترخيص وسطت كثيراً من الكبراء الذين يعجبون بك مدحت مساعيهم وأديرت الروليت في الليلة الماضية فبلغ الإيراد 254 جنيها خصمنا منها المائة والاثنين التي ندينك بها والباقي 152 هو حصتك أنت .. ونبقى خالصين!! وهنا زال انكماشي فاتجعصت في مقعدي ونفخت أوداجي و وضعت ساقاً فوق ساق وهززت رأسي وأنا أقول لمدير الكازينو صحيح يا خواجة .. الحساب الكويس ينتج صداقة متينة .. وأنا من النهاردة وطالع صديقك المتين. وقصدت في الحال إلى جبل لبنان متبعاً ما نصح به الراسخون في فن التصييف، وهناك نزلت في بلدة ظريفة لطيفة خفيفة اسمها «أهدن»، ومع أننا كنا إذ ذاك في شهر يونيو من عام ???? فقد كان الثلج ما يزال يغطي قمة الجبل ويحيط بالفندق الكبير الذي سكنته إحاطة السوار بمعصم الحسناء. أما نزلاء هذا الفندق فكانا اثنين، أنا أحدهما بالطبع، والثاني خوري من رجال الدين .. وكم كان لي معه من جلسات ربما عرجت على بعضها في مذكرة أخرى. لم يكن الفندق قد استقبل في هذا الحين زبائنه لأن شهر يونيو يعتبر باكراً بالنسبة لأهدن ولثلوجها وبردها في مثل ذلك الوقت من كل عام. وكاد رأس المال الذي أحمله - وهو الثلاثين جنيها - ينفد مني وأقعد ع الحديدة، فأسرعت قبيل ذلك بكتابة خطاب رقيق إلى الوصية أصف لها لبنان وجمالها وأؤكد لها أن صحتي جت على هواها. وإنني إذا عدت قبل تمام الاستشفاء كانت النتيجة وبالاً على الصحة الغالية. وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا، وبناء عليه، ومن حيث ما ذكر عرفناكم بأننا في أشد الاحتياج إلى ما نستشفى به، ولا نسأل إلا عن صحتكم التي هي غاية القصد وبلوغ المراد أفندم. ووصل خطابي إلى الست الوصية .. وقد فاتني أن أقول لك إنها واعية .. وأنها تعرف الصورة إيه .. وكان قد سبق لها أن اتفقت مع متعهدين في الإسكندرية وفي رأس البر على أن تقوم فرقتي بإحياء حفلات فيهما بعد عودتي من لبنان، فلما طلبت المال وأنا في أهدن، جلست تضرب أخماساً لأسداس .. وتشيل من هنا وتحط هنا، فخشيت إذا هي لم ترسل لي ما طلبت أن تقوم في دماغي فأضرب عن إحياء الليالي المبيعة .. وتبقى وقعتها .. ووقعة المتعهدين .. زي ما أنتم عارفين؟؟ ولذلك .. أرسلت لي ما طلبت من نقود .. وكانت تصييفة لها العجب. عدت من أهدن لعمل ليالي الإسكندرية ورأس البر، ويهمني أن أقول بأنني عقب وصولي أحسست بأن فرقة رمسيس كانت في عنفوان شبابها، وكانت قد سيطرت تماماً على كل ما عداها من الفرق، أما نحن فكان مركزنا في نظر الجمهور كشيء لا بد منه والسلام .. ولو من باب التسلية وقتل الوقت .. كذلك يهمني أن أشير إلى ما لاحظته من ازدياد متفرجي الطبقة الراقية الذين كانوا يرتادون مسرحي فكنت كما لاحظت هذه الوفرة التي يزداد عددها يوما بعد يوم خلوت إلى نفسي وأضحكت في عبي .. واجتهدت في أن أرقى بالنوع الكوميدي تدريجاً. وقد مكنني من ذلك أننا  - بديع خيري وأنا - قد تغلغلنا إلى صميم نفسيات الجمهور ودرسناها أدق درس وعرفنا كيف نكتسب الثقة الغالية بما كنا نبذل من مجهود متواصل وعمل لم نكن نتوانى في مراجعته وتهذيبه بسهر الليالي مهما طالت وتضحية ما في الحياة من ملاذ في سبيل إظهار عملنا بالمظهر اللائق بهذا الاقبال الكريم من أرقى الطبقات وصفوة المتعلمين والمثقفين في مصرنا العزيزة». 


سيد علي إسماعيل