فاطمة رشدي بين الاتهام والنقد الفني في فلسطين

فاطمة رشدي بين الاتهام والنقد الفني في فلسطين

العدد 692 صدر بتاريخ 30نوفمبر2020

زارت فرقة فاطمة رشدي فلسطين لأول مرة عام 1929، وذلك ضمن رحلتها الفنية إلى العراق وبلاد الشام، ونجحت الفرقة في جزء من هذه الرحلة، لا سيما الجزء الخاص بحفلاتها المقامة في العراق، بسبب مساندة الحكومة العراقية والقنصلية المصرية هناك!! أما في فلسطين، فكان الأمر مختلفاً؛ حيث إن فلسطين هي الدولة التي بدأت فيها جولتها!! وبسبب عدم الخبرة المسبقة بنظام الحفلات داخل فلسطين، وقعت فاطمة رشدي في أخطاء إدارية وتنظيمية، ذكرت تفاصيلها مجلة «الصباح» المصرية في أغسطس، قائلة: ارتكبت فرقة فاطمة رشدي خطأ كبيراً عند وجودها في بلاد فلسطين؛ حيث لم تتفق مع المكتب الجديد المُسمى «مكتب خوري»، والذي أنشئ حديثاً لمعاونة الفرق على تنظيم حفلاتها، وتوزيع تذاكرها مقابل عمولة قليلة في المائة. فكانت نتيجة جهل مديري إدارة الفرقة بنظام الحفلات في هذه البلاد، وطريقة تربحها أن الحفلات لم تنجح النجاح، الذي كان منتظراً .. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن إدارة الفرقة لم تخصم شيئاً من أسعار التذاكر لطلبة فلسطين، كما خصمت لكل الطلبة في البلاد التي حلت بها، أثناء رحلتها. ونتج عن ذلك أن الطلبة غضبوا أشد الغضب، حتى أن أحدهم كتب كلمة في إحدى صحف فلسطين نقتطف منها ما يلي: «وددنا لو لم نشاهد رواية «النسر الصغير» لنظل معجبين بفرقة السيدة فاطمة رشدي، ولكن أبت الأقدار إلا أن ترينا عكس ذلك. سبعة عشر تلميذاً يطلبون خصماً فلا يحصلون عليه. فتحققنا أن الطلبة الفلسطينيين في عيون هذه الفرقة أحقر من أن يُخصم لهم. وأن تلك الدعاية ما كانت إلا للتجارة وابتزاز المال. فمعذرة أيتها السيدة، التي برهنت على أن الطلبة المصريين أجدر بعنايتك من الفلسطينيين إخوانهم وجيرانهم».
وفي منتصف أغسطس 1929، نشرت مجلة «الصباح» تقريراً من مراسلها في يافا، نقل فيه ما نشرته جريدة «فلسطين»، قائلة: لقد تجلى في الروايات التي مثلت، وهي «المائدة الخضراء، والنسر الصغير، وعبد الحميد» نبوغ السيدة فاطمة، وإبداع الأستاذين عزيز عيد وبشارة واكيم، ورشاقة الممثل البيروتي يوسف أفندي حسني. وأقام «نادي الشبيبة الأرثوذكسية» حفلة تكريم، افتتحها رئيس النادي مُرحباً بالفرقة، وأعقبته السيدة «أديل عاذر» رئيسة «جمعية السيدات الأرثوذكسيات»، ثم الأدباء رؤساء وأعضاء «النادي الرياضي الإسلامي»، والشاعر مصطفى أفندي الدباغ. وردت السيدة فاطمة على هؤلاء بما دل على مقدرتها في فن الخطابة، فضلاً عن نبوغها في التمثيل. وذكرت السيدة بعد ذلك إن فرقتها لم تقصد جمع المال من هذه الرحلة؛ لأنها غنية برأس مالها، ولكنها تقصد توكيد الروابط بين مصر والأقطار العربية. وودعها الأديب «زهدي السقا» من يافا وداعاً مؤثراً، كان في رقته كالزهر الغض، وفي لطفه كالنسيم العليل. واستقبلها الأستاذ المعروف «نعمة الله فرحات» بقصيدة عصماء.
الصحف الفلسطينية
هذا ما ذكرته الصحف المصرية! أما إذا اطلعنا على الصحف الفلسطينية سنجد جريدة «فلسطين» تخبرنا بأن الفرقة وصلت يافا وستبدأ في تمثيل مسرحية «النسر الصغير»، التي تظهر إبداع المخرج العظيم الأستاذ عزيز عيد وعبقرية السيدة فاطمة رشدي! كما أخبرتنا الجريدة أن العروض ستتم على «مسرح أبي شاكوش»، ومن العروض التي ذكرتها الجريدة «المائدة الخضراء، والسلطان عبد الحميد». أما جريدة «الجامعة العربية» فنشرت كلمة في منتصف يوليو 1929 عن الفرقة عندما جاءت إلى القدس، قالت فيها: «وصلت إلى القدس الفرقة التمثيلية المصرية المعروفة التي ترأسها الممثلة المشهرة السيدة فاطمة رشدي، ويديرها الأستاذ الفنان المشهور عزيز عيد. وقد قدمت الفرقة من سورية فعرجت على حيفا ومثلت فيها ثلاث ليال كانت فيها موضوع إعجاب الجمهور. وعندما كانت هذه الفرقة تمثل في العراق لاقت إقبالاً عظيماً، وقد خصها جلالة ملك العراق بعنايته وأقام لها حفلة تكريمية حضرها سراة العراق وكبار موظفي الحكومة. وكذلك في سورية ولبنان فقد أعجب المشاهدون بإتقان التمثيل وحسن الاختيار في الروايات، التي إما أن تكون وقائعها منتزعة من الحوادث التاريخية، وإما أن تكون أخلاقية اجتماعية. وقد مثلت مساء الثلاثاء الماضي في مسرح زيون [صهيون] رواية «النسر الصغير»، ومثلت الليلة الماضية رواية «المائدة الخضراء» فأجادت الفرقة إجادة كبرى وأعجب بها الحاضرون وستمثل هذا المساء رواية «عبد الحميد». فنحض محبي الفن والتمثيل على مشاهدة هذه الرواية».
وقد أخبرتنا جريدة «صوت الشعب» في أواخر يوليو بأن الفرقة مثلت في يافا ثلاث مسرحيات، هي: أما ليلة، وبحد السيف، والحب. ونشرت جريدة «فلسطين» يوم 27 يوليو آخر أخبار الفرقة في هذه الزيارة، قائلة: « مثلت هذه الفرقة ليلة الخميس الماضي على مسرح سينما أبولو الوطني رواية «الحب» فأبدعت في جميع مواقفها إيما إبداع، والرواية من تأليف الممثلة الذائعة الصيت «سارة برنار»».
الزيارة الثانية
في العام التالي 1930، زارت فاطمة رشدي فلسطين للمرة الثانية على التوالي، وقد مهدت فاطمة زيارتها بموقف وطني، نشرته الجرائد الفلسطينية - مثل جريدة «النفير» و«الجامعة العربية» و«النهضة» - في منتصف أبريل، تحت عنوان «السيدة فاطمة رشدي وشباب فلسطين»، جاء فيه: « تسلم نادي التمثيل والفنون الجميلة بيافا من رئيسته الشرفية كبيرة ممثلات الشرق السيدة فاطمة رشدي من بغداد – حيث تمثل الآن – الرسالة التالية: حضرات ..... بعد التحية أرجوكم نشر كلمتي التالية على صفحات الجرائد الفلسطينية الغراء ولكم الشكر .. من عاصمة الرشيد أم البلاد العربية ومهد الفنون والثقافة السامية أرسل بين طيات النسيم العليل تحياتي الحارة وشكري العظيم إلى سيدات فلسطين العاملات وشبابها الناهض دروع اليوم ونصال المستقبل الذين تكرموا بدعوتي سواء كان بالبرقيات الخاصة أو على صفحات الجرائد العراقية الغراء للتشرف بزيارة فلسطين المحبوبة. وأملي ألا يحول شيء دون تحقيق أمنيتهم والسلام. المخلصة فاطمة رشدي».
هذا التمهيد أوغر صدور بعض المنافسين لها – أو بعض المتعهدين وتنافسهم فيما بينهم – فنشرت جريدة «مرآة الشرق» الفلسطينية خبراً بعنوان «وطنية فاطمة رشدي!» - في أواخر مايو 1930، وقبيل حضورها إلى فلسطين بأيام قليلة! – قالت فيه: « وزعت في المدينة إعلانات طبعت في مطبعة «هاسوليل الصهيونية»، تقول إن فرقة فاطمة رشدي ستحيي ليلتين على «مسرح سينما أبيب اليهودي» لتمثل روايتين عربيتين. فأين وطنية فاطمة رشدي التي كانت تتغنى بها؟ وهل هناك عربي يجري في عروقه الدم العربي يذهب ليحضر هاتين الحفلتين؟ أين عمل هذه الفرقة .. من عمل فرقة رمسيس؟ ترى ماذا يفعل الطلبة؟».
بعد أيام قليلة، أرسلت فاطمة رداً على هذا الكلام، فنشرته الجريدة، تحت عنوان «فاطمة رشدي ترد على المرآة»، جاء فيه الآتي: «حضرة الصحافي القدير رئيس تحرير مرآة الشرق الغراء المحترم، تحية وسلاماً وبعد: قرأت بمزيد الدهشة والاستغراب ما كتبته بعض الجرائد الوطنية الغراء فذهلت لما جاء فيها! ولما كنت والحمد لله أشرف وأرفع من أن أرتكب مثل هذه الخيانة الوطنية أتيتكم بكلمتي هذه مسردة لحضرتكم الحقيقة لتتكرموا بنشرها على صفحات جريدتكم الغراء فيطلع عليها إخواني الشباب الذين أنزلهم من نفسي أسمى منزلة! لما كنت في بغداد أرسلت أمامي جرياً على عادتي مندوباً عني يُدعى «علي يوسف» ليتفق مع أصحاب المسارح في سوريا وفلسطين، ولأسباب أجهلها اتفق لي في القدس مع صاحب «مسرح غير وطني». ولما علمت ذلك ثارت ثائرتي وطردته من خدمتي، وصممت على ألا أمثل على هذا المسرح ولو كلفني ذلك مئات الجنيهات؛ ولكن مع الأسف الشديد وجدت طريق القدس الشريف ساعة أن أردت اجتيازها مُعبدة بإشاعات باطلة مخالفة للحقيقة الواقعة، فصعب عليّ اجتيازها بل استحال، لا خوفاً من تأثير هذه الإشاعات على عملي بل لأنه لا يوجد في القدس مسرح وطني خال غير مسرح الروضة الذي أبى فضيلة مديرها تأجيره لأسباب تمس غيرنا فلا يجدر بنا إذاعتها. وبالختام أرجو الله تعالى أن يوفقنا جميعاً إلى ما فيه خير الشرق وإسعاده. [توقيع] المخلصة فاطمة رشدي.» فعلقت الجريدة بقولها: «قطعت جهيزة قول كل خطيب».
وحتى نضع الأمور في نصابها، بجب أن نعرف أن التعامل مع الأماكن والسلع والبضائع والأشخاص – أي كل ما له علاقة بـ(الاستعمار الإنجليزي، أو الصهيونية، أو اليهود) – يُعدّ اتهاماً بالخيانة وعدم الوطنية في هذا الوقت داخل فلسطين!! لذلك لم تكتفِ فاطمة رشدي بنشر كلمتها – والتي تدافع فيها عن وطنيتها – في جريدة «مرآة الشرق»، فنشرتها مرة ثانية في جريدة «الحياة»، وثالثة في جريدة «الجامعة العربية»، التي علقت على كلمة فاطمة، قائلة: « عندما علم الرأي العام أن السيدة فاطمة رشدي ستمثل في مسرح غير وطني، شمله الأسف، وعجب لكبيرة ممثلات الشرق العربي إن تعمد إلى أمر يسيء لسكان هذه البلاد العربية. وقد جاء كتاب حضرتها الآن محققاً ما يعرفه أهل فلسطين عن وطنيتها وعواطفها الشريفة. فنحن نشكر للسيدة فاطمة هذه الوطنية ونقدرها لها كل القدر».
العروض ونقدها
تخطت فاطمة رشدي هذه الأزمة، وحضرت إلى فلسطين، ومثلت في نابلس وحيفا ويافا عدة مسرحيات، منها: «مصرع كليوباترا، وسلامبو»، فقام نادي جمعية الشبان المسلمين بتكريمها. وعندما ذهبت إلى يافا كرمتها أيضاً الجمعية الخيرية الإسلامية، وطالبتها بتخفيض أسعار التذاكر بناءً على أحوال البلاد الاقتصادية! ونشرت جريدة «الحياة» في أواخر مايو 1930 كلمة، جاء فيها: « كتب إلينا السيد سليم الطيبي رئيس جمعية شبان القرى رسالة من يافا، يرحب فيها بقدوم السيدة فاطمة رشدي. وجاءتنا رسالتان من يافا أيضاً يرجو فيهما موقعوهما من السيدة فاطمة رشدي أن تخفض أسعار التذاكر ليتسنى للجميع التمتع بمشاهدة آثار فنها الرائع».
أما جريدة «النفير» فقالت في آخر يوم من مايو: « أقامت فرقة السيدة فاطمة رشدي الشهيرة حفلتين في يومي الجمعة والسبت من الأسبوع الماضي، مثلت في الأولى «مصرع كليوباترا» وفي الثانية «سلامبو». وفي يوم الأربعاء الماضي مثلت رواية «شهوزاد» وتبرعت بنصف الريع لجمعية السيدات العربية بحيفا». وأخيراً قالت جريدة «الحياة» في أوائل يونيو تحت عنوان «السيدة فاطمة رشدي وشباب نابلس»: « إن الأثر الحسن الذي تركته السيدة فاطمة رشدي سابقاً في فلسطين، حدا بالشباب النابلسي إلى إكرام وفادة هذه النابغة العالمية، التي أخذت بناصية التمثيل وارتقت به ... وقد استقبلها الشباب الناهض عندنا من خارج المدينة، وقدم إليها باقات الزهور وأقام لحضرتها وللأستاذ عزيز عيد حفلة تكريم شائقة في دار جمعية الشبان المسلمين، حضرها صفوة رجال البلدة وشبابها الناهض. وعلمنا من مصدر ثقة أنها تبرعت للجمعية النسائية بحيفا بحفلة من حفلاتها، وكذا الحال مع الجمعية الإسلامية المسيحية بيافا، فإزاء هذه المكرمات لا يسع الشباب النابلسي المثقف إلا أن يحيي السيدة فاطمة ويشكرها على إحساناتها المتوالية. [توقيع] «محمد علي النمر - نابلس»».
عزيز ضومط
أغلب الصحف الفلسطينية – كما مرّ بنا – تقوم بالإعلان عن الفرقة المسرحية، أو تنشر بعض أخبارها، أو مشاكلها .. إلخ؛ لكننا لم نجد مقالة نقدية، تحمل بشائر النقد المسرحي! ومن هنا لفت نظري مقالة من هذا النوع بتوقيع «ناقد»، نشرتها جريدة «النفير» أواخر مايو، عنوانها «مصرع كليوباترا .. كلمة عن تمثيلها»، قال فيها الناقد: «: ذهبت إلى مسرح النادي المختلط لأشاهد فرقة فاطمة رشدي تمثل رواية «مصرع كليوباترا»، التي أفاض عليه شاعر الإلهام والعبقرية أحمد شوقي بك جلباباً ضافياً من السحر والجمال والروعة اللفظية والمعنوية ما يجعلها درة نادرة في الأدب العربي القديم والحديث! ورغم هذا الجمال وهذه الروعة، سقط شوقي بك في الوضع [أي التأليف]، كما لم يكن أميناً في سرد حقيقة كليوباترا التي أجمع عليها مؤرخو العالم. أما أخطاء الوضع المسرحي فقد أُصلحت بحذف بضعة مشاهد مُملة من الرواية، لا قيمة تمثيلية لها. وأما ما له علاقة بالتاريخ فليس هذا أوان بيانه ... وكان بوسع المؤلف أن يرينا وطنية قوية تظهر في صفوف الشعب كوطنية «حابي»، تثور على كليوباترا نفسها وعلى الرومانيين الذين بدأوا يمدون سلطانهم على مصر، ثم تضرب روما حركة التمرد تلك وتخضع البلاد .. عندئذ تكون الرواية أقوى وأدعى إلى بث الوطنية الصحيحة في نفوس الشعب! أما التمثيل فقد كان رائعاً متقناً إتقاناً بلغ الغاية القصوى، مثلت السيدة فاطمة رشدي دور كليوباترا، ويستحيل على كل إنسان أن يصف فاطمة وهي تمثل دورها ففي كل حركة فن، وفي كل لفظ براعة ودقة، أضف إلى ذلك السحر الخاص والميزة الشخصية البارزين في فاطمة. وقد كانت جماع الغرائز الجموحة من لذة وطموح وإباء، ففي الفصل الأول ظهرت مثال المرأة السياسية الحكيمة الغيورة على مصلحة بلادها، المضحية بهواها وميولها في سبيل المجد. وفي الفصل الثاني كانت مثال المجانة والاستهتار والتبذل في الحب العنيف والإغراق في طلب الملذات. وفي الحق إنها كانت مجموعة طلية للسحر والجمال والدلال والبراعة. وفي رأيي أنها بلغت القمة والمنتهى في هذا الفصل ولا أعتقد أن في وسع أية ممثلة مهما كانت ومهما أوتيت من السمو والتفوق أن تحاكي فاطمة في اتقانها هذا الفصل! ولا ننسى مظهرها الحزين الكئيب ونفسها المكلومة في الفصل الثالث عندما دخل «أوكتافيوس» الإسكندرية ظافراً، وجيء إليها بجثة مارك أنطوان مضرجاً بدمه. وعندما تبين لها أن أوكتافيوس يريد أن يأخذها إلى روما سبية كأسيرة حرب، ثارت لعزتها وكرامتها وعرشها فتقدم على الانتحار! وكانت فاطمة عظيمة قوية حتى في جلال الموت! وأما مارك أنطوان «بشارة أفندي واكيم» فقد كان في جسمه الطويل المهيب وصوته الرنان وفنه السامي مثال الرجل العظيم الموزع بين الحب والواجب، بين المجد وسكرات اللذة! كان الرجل الضخم في ماضيه، الجليل في حاضره. ولكن حب الغواني أعماه فضل سبيله وقبل أن يكون عبداً للجمال، أسير الهوى والغرام، انظر إليه في الفصل الثاني – في المأدبة التي أعدتها له كليوباترا – تجده مثال الرجل المستهتر الذي يبيع عرشه وتاجه وجنسيته أيضاً في سبيل قبلة من كليوباترا. وكان في الفصل الثالث مثال العظيم إذا أصيب في عزته فأحاقت به المصائب فتألم وتأوه! هو اليأس في ميدان الفخار وفي حومة المتع واللذات، فما أقواه من دافع على التخلص من الحياة. هذا هو بشارة واكيم في دور مارك أنطوان. فما أسماه وما أنبله. أما «حابي» الذي قام به الشاب النابه يوسف حسني، فقد كان شخصية صادقة للشعب المصري ..... إلخ، ولا ننسى أيضاً أسطفان أفندي روستي «أوكتافيوس»، ولا إبراهيم أفندي النجار «زينون»، ولا السيدة بهية أمير «هيلانة»، ولا الباقين فقد أجادوا كلهم وحق لهم الثناء».
ثم تطرق «الناقد» إلى الحديث عن المسرحية الأخرى التي شاهدها، قائلاً: « مثلت الفرقة رواية «سلامبو» وهي قصة خرافية تعود إلى أيام قرطجنة الفينيقية التي كان فينيقيو سوريا بنوها في أفريقيا الشمالية فازدهرت ونمت، وانتهى بها الأمر إلى منافسة روما فمحاربتها، وبما أن عدد الفينيقيين قليل اضطر القرطجنيون إلى تجييش الجيوش المرتزقة لمحاربة روما. والرواية كلها تدور حول محور واحد هو الشعور بالواجب الوطني وتقديمه على الحب ثم تضحية النفس على مذبح الحب! زد على ذلك بيان عبودية الناس للآلهة الزائفة في ذلك الحين. أما التمثيل فقد كان جيداً، وقام الممثلون بأدوارهم خير قيام، ونخص بالذكر السيدة فاطمة رشدي في دور سلامبو ويوسف أفندي حسني في دور ماتهو، وعباس أفندي فارس في دور هاملكار».
كشفت جريدة «النفير» يوم 31 مايو 1930 عن اسم هذا الناقد، وهو «عزيز ضومط»، وسبب هذا الكشف، أن الجريدة أرادت أن تنشر مقالة لضومط، كتبها عن «فاطمة رشدي» بمناسبة تمثيلها في حيفا! وبالفعل نشرت الجريدة المقالة بتوقيع «عزيز ضومط»، عنوانها «فاطمة رشدي كبيرة ممثلات المسرح العربي»، نقتبس منها هذه العبارات: «... اسم فاطمة رشدي التي خدمت الفن بما قامت به من جهود أعترف لها بها في الشرق كافة. وإن نحن أنعمنا نظرنا في تاريخ حياتها قليلاً لوجدنا أن قوة الإرادة هي أول مميزاتها. ولا شك أن هذه الإرادة القوية هي التي خطت بها هذه الخطوة الواسعة في سبيل تكوين الفرقة التي تحمل اسمها كما سبق وحملت فرقة «مدام راجان» وفرقة «سارة برنار» اسمي مؤسستيها. وإن نحن فكرنا بما هي عليه ممثلتنا الكبيرة من حداثة السن عقدنا عليها كبار الآمال وتنبأنا لها بمستقبل مجيد ...... ولفاطمة رشدي ولع خاص بالقيام في أدوار سبق أن قامت بها سارة برنار الخالدة ولا أعلم إذا كان ذلك عفواً أم تعمداً. فأدوار هملت والنسر الصغير وسواهما اشتهرت بهما فاطمة وكما سبق ومثلتها بنجاح مدام برنار ..... وعلى الإجمال إن الممثلات اللاتي يجدن الأدوار المختلفة التي أجادتها فاطمة هن قليلات جداً في العالم. وبهذه المناسبة أذكر زميلة لها ألمانية تدعى «اليصابات بركتر» اشتهرت في المدة الأخيرة على مسارح برلين تشبه فاطمة رشدي كل الشبه في قدها وتمثيلها، ولا فارق هناك إلا جمال الوجه الذي تبرزها فيها ممثلتنا. بيد أن الياصابات لها من المؤلفين الروائيين الألمان عدد لا يستهان به يشجعونها ويشحذون غرار عزمها بابتكارهم الأدوار التي تناسبها وتلابسها ويجعلونها خصيصاً لها في رواياتهم حتى إذا اعتلت خشبة المسرح أجادتها وأتقنتها وانتزعت الإعجاب من الجماهير. ولو تسنى لفاطمة ذلك الشاعر أو الشعراء يكتبون لها ما يلائمها من الأدوار لبزت كل ممثلة أخرى ولفاخر الشرق الغربيين بممثلاته. [توقيع] «عزيز ضومط .. حيفا»».


سيد علي إسماعيل