العدد 689 صدر بتاريخ 9نوفمبر2020
قمامة في كل مكان، بانوراما في الخفلية من الخيش، ملطخة بألوان مختلفة متداخلة بشكل غير منتظم، صناديق خشبية وبلاستيكية ومعدنية مبعثرة علي أرجاء المسرح، أوراق، صمت،ثم موسيقي هادئة وقوية نوعا ما، وكأنها الهدوء الذي يسبق العاصفة، يدخل رجل ضخم الجثة، يرتدي ملابس غريبة، وكأنها عبارة عن مجموعة من النفايات، يلبس قناعا علي وجهه، ذلك القناع الذي يستخدم عند التلوث البيئي، ويمسك في يده (كيس قمامة) أسود اللون بالطبع، يمشي ذلك الرجل الضخم لمنتصف المسرح في خطوة منتظمة، ثم يقف، صمت، يرفع يديه ممسكا ذلك (الكيس)، يحركه ناحية الجمهور وكأنه يقوم بتنفيضه من التراب، ويصدر صوتا، في الحقيقة يصدر ثلاثة أصوات متتالية منتظمة، تتعالي الموسيقي الصاخبة، يدخل الممثلون ويرتدون ملابس غريبة شبيهه لملابس الرجل الضخم، وان اختلفت في التفاصيل الصغيرة، يتراجع ذلك الضخم، وهو الفنان حسام التوني، يتعالي صوت الموسيقي أكثر فأكثر، يبدأ الممثلون في الرقص، بشكل غريب، حركات غريبة، كأنهم مجموعة من مصاصي الدماء أو (الزومبي)، ينتهي الرقص، ويبدأ العرض، بداية مختلفة لعرض مختلف في الشكل والذي يحمل مضمونا قويا، هنا بدأ الفنان المخرج محمد الصغير عرضه بالثلاث دقات التقليدية، ولكنه بدأها بشكل غير تقليدي، فالثلاث دقات لم تكن بالخشب أو حتي المعدن، ولكنها بكيس قمامة، يحمله رجل ضخم، كأنه يريد أن يقول لنا أن كل ما سوف تراه هو عبارة عن نفايات، نفايات في الأفكار والأفعال، وأعتقد أن سبب اختيار المخرج للفنان حسام التوني الرجل الضخم ليبدأ هو العرض بتلك الإشارة أنه يريد أن يقول لنا أن المشكلة حقيقة كبيرة وضخمة، وتحتاج إلي إعادة تدوير وتفكير مرة ثانية، وذلك هو عنوان عرض المخرج محمد الصغير، عرض (ريسايكيل)، أو إعادة تدوير النفايات مرة أخري، تلك الفكرة القديمة، والتي يقال أنها نشأت بعد الحرب العالمية الأولي عند حدوث نقص في الموارد، الحرب العالمية الأولي التي تسببت في دمار شامل لكل من شارك في الحرب، فالدمار يجعلك تفكر في حل خارج الصندوق، كما فعل المخرج محمد الصغير في عرض مشاكله وأفكاره المجتمعية منذ بداية العرض وحتي نهايته.
وبعد انتهاء البداية الراقصة والتي كانت من تصميم المبدع في أفكاره وشكل أعماله مناضل عنتر يبدأ العرض بظهور الفنان صلاح الدالي، وهو يعتبر لدي الشباب الجامعي بالأخص أيقونة من أيقونات الكوميديا والستاند أب كوميدي، يكسر الحاجز الرابع، يبدأ في الحديث مع الجمهور، يتفاعل معهم بشكل كوميدي صارخ، ويتحدث معهم عن مشاكل الزواج، ثم يقوم صلاح الدالي بدعوتنا لمشاهدة أول مشهد في العرض، وهو مشهد صامت، نعم صامت، ولكن ما معني هذا، هل يقصد هنا (محمد الصغير) أننا لا يجب أن نقف صامتين أمام مشاكلنا؟ هل يعني أن صمتنا تجاه مواجهة مشاكلنا هو جزء من المشكلة نفسها؟ أعتقد هذا، بالفعل بداية غريبة، مختلفة، وأعتقد أن هذا العرض قد يكون له نصيب كبير في المشاركة في مهرجان المسرح التجريبي ومهرجانات أخري كثيرة، وقد يكون له نصيب من الجوائز بشكل كبير في المستقبل.
العرض عبارة عن ستة عشر مشهد، تناقش قضايا كثيرة في المجتمع، تجمع ما بين مشاكل الخطوبة والزواج والمحسوبية وعقوق الأبناء ومحاربة الفن الهابط الذي لا يحمل معني، ومشاكل المرأة داخل المجتمع، سواء المرأة العاملة، أو التحرش الجنسي الذي تتعرض له من بعض المرضي، وكأن الصغير يستكمل ما تقوم به سياسة الدولة من محاربة تلك الآفات المجتمعية ومعالجتها بأشكال كثيرة، يتتخلل تلك المشاهد بعض الفواصل الإيقاعية، أو فواصل تمثيلية كوميدية للفنان صلاح الدالي الذي يقوم بالتعليق بشكل ساخر وفي الأغلب بالتفاعل مع الجمهور عن الحدث، أو تقديم المشهد التالي بنفس الشكل وبمضمون كل مشهد علي حدي.
عادة في المقالات النقدية لا يتم ذكر أسماء الممثلين، إلا من تميز في شئ ما يريد الناقد إلقاء الضوء عليه، حتي لا يأخذ شكلا صحفيا، وخصوصا أن هذا العرض هو نتاج ورشة وتدريبات كثيرة، ولا يوجد بطل أوحد، فالبطولة جماعية لمجموعة من الشباب المحترف بالفعل، ولكنني سوف استكمل ما قام به المخرج محمد الصغير من كسر تلك القواعد وأقوم بذكر هؤلاء الفنانين بدون ترتيب منتظم له معني داخل العرض وهم: صلاح الدالي، محمد سراج الدين، محمود حسن جراتسي، حسام التوني، آية خميس، نانسي نبيل، أمل نورالدين، ياسمين عوض، حسام إبراهيم، عالية أشرف، محمد أحمد كيبو، التوأمان إسلام أشرف وأحمد أشرف.
هناك مشهد من المشاهد يناقش قضية الهلع الزائد من الثانوية العامة، بالفعل الثانوية العامة لها مخاوفها، ويقوم البعض أو أغلب الناس من عمل معسكرات مغلقة ومذاكرة بشكل غير طبيعي وزائد عن الحد المطلوب وعن الطاقة الاستيعابية للطفل، وهنا تكمن المشكلة، فذلك يكلف الأسرة أعباء نفسية ومادية كبيرة، وفي الحقيقة الموضوع لا يتحاج أكثر من تنظيم الوقت فقط، فهناك من يستطيع ممارسة الرياضة واللعب مع الأصدقاء والذهاب للمدرسة والمذاكرة وكل ذلك في اليوم الواحد، وينجح بأعلي الدرجات، والنماذج كثيرة، هذا المشهد هو بطولة أصغر أبطال العرض سننا وحجما،(عالية أشرف) جميلة الشكل، قوية في طاقتها التمثيلية، تكاد تبكي من صخب الكوميديا، أو من مأساتها، والتي تنهتي بدخولها لمستشفي الأمراض العقلية، اختار محمد الصغير هذا المشهد لأنه بالفعل من نفايات أفكار مجتمعنا الخاطئة والتي نقوم نحن بأنفسنا بعمل مشكلة كبيرة من لا شئ.
النسوية وقضايا المرأة لا تخلو بالضرورة من هذا العرض، فهناك مشهدان يناقشان قضيتان مهمتان وهما التابوهات والقيود المجتمعية علي المرأة، والتحرش، فنري في المشهد الأول مجموعة من الأمهات يمارسن دس السم في عقولهن بالتحذيرات مثل: “البنت الشاطرة ماتتكلمش مع ولاد”، “البنت الشاطر ما تاكلش لبان في الشارع”، “البنت الشاطرة تتكلم بصوت واطي”، وهكذا، إلي أن تتحول بطلة هذا المشهد (ياسمين عوض) إلي أنسان آلي ممسوخ، بلا عقل تتطبق كل ما قالته لها أمها، فتبدأ بالاحتكاك بالناس، وتصدم من ردود أفعالهم، إلي أن تموت بحادثة من رجل يركب دراجة بخارية افتراضية، ويجتمع الناس، ثم يسمعون صوت مباراة كرة قدم، وينفضوا من حولها، وكأن الجميع رجال ونساء لا يهتمون بتلك الضحية، نعم إن المرأة تمارس القيود علي نفسها وبنفسها، وذلك بمعاونة الفكر الذكوري المتسلط أيضا، أما المشهد الثاني هو مشهد راقص عبقري في الفكر والشكل، يبرز ما تتعرض له المرأة من تحرش جنسي صريح داخل المجتمع من ذوي العقول المريضة، المفاجأة هنا أن العرض ينتهي بمشهد يبعث روح التفاؤل والأمل، وذلك من خلال مساعدة الناس لمرأة حامل علي وشك الولادة، فتري الشهامة والمواقف الحقيقة من الرجال والنساء، ورفض الممثل صلاح الدالي للسفر للخارج، وأنه يعشق هذا البلد بكل ما فيه، وأن هناك دائما فرصة جديدة لإعادة تدوير تلك النفايات الموجودة بعقول البعض، والتي تحاول الدولة قدر الإمكان التخلص منها و وضعها في مكانها الصحيح بشتي الطرق والأشكال.