«النقطة العميا» لعبة وقلبت جد

«النقطة العميا»  لعبة وقلبت جد

العدد 855 صدر بتاريخ 15يناير2024

هي المرة الأولى التي ينتابني فيها شعوران متناقضان في اللحظة نفسها بينما أشاهد عرضًا مسرحيًا، فالعروض التي تقدم في القاعات عادة ما تجعلني أشعر بالتورط في الأحداث وكأنني أحد الأبطال، خاصةً حين أرى عيون الممثلين متجهة إلي وتخاطبني، لكن هذا العرض جعلني أشعر أنني أشاهده من خلال شاشة فالممثلون على غير العادة جعلوني أشعر وكأن حاجزًا زجاجيًا يجعلني أراهم بينما هم لا يرون غير أنفسهم، فهم مستغرقون تمامًا بكامل حواسهم في اللعبة المسرحية التي يلعبونها، فالأداء حقيقي ورصين متسق مع الحالة، حتى الكوميديا فهي موقف يراه المتلقي بينما لا يشعر به من يقدمه، هنا أجد منهج «ستانسلافسكي» متجسدًا عمليًا أمامي، حيث الخضوع التام من قبل جميع الممثلين للشخصيات التي يؤدونها واعتمادهم على الصدق الداخلي الذي يظهر بوضوح في مدى معايشتهم للواقع الذي تعيشه تلك الشخصيات، مع انفصالهم التام عن الواقع الفعلي.
فواقعهم عبارة عن قضية عناصرها: متهم، جلاد، قاضٍ، ممثل ادعاء ومحامٍ، جميعهم يمارسون أدوارهم باحترافية شديدة، لم يكن الحوار مباراة فنية كما اعتدنا أن نطلق عليه، لكنه لعبة بازل تتجمع القطعة تلو الأخرى لتكتمل اللوحة «القضية» في ذات الوقت، فباكتمال القضية يكتمل العرض المسرحي الذي يضم عددا من العناصر سوف أتناولها فيما بعد. 
«النقطة العميا» عرض مسرحي مُعد عن قصة قصيرة بعنوان «العُطل» للكاتب السويسري فريدريش دورينمات (1921-1990)، والتي نشرت في كتاب بعنوان «العُطل» يضم ثلاث قصص هي «النفق»، «العُطل»، «أبو حنيفة وأنان بن داود»، الذي صدر عن دار الكتب خان بالقاهرة عام 2020، ترجمة سمير جريس.
وتدور الأحداث حول تعطل سيارة آدم السمري الذي يجسد شخصيته «نور محمود»، بينما هو عائد إلى منزله بعد إتمامه إحدى صفقاته التي اعتاد عليها، فهو رجل أعمال ناجح على الرغم من صغر سنه، في ليلة شتاء عاصفة، مما يضطره إلى اللجوء لأقرب بيت ليجد بداخله ثلاثة أساتذة في القانون هم: د. عادل أستاذ علم النفس الجنائي ويجسد شخصيته «أحمد عثمان»، د. كمال أستاذ في القانون الجنائي ويجسد شخصيته «أحمد السلكاوي»، د. حكيم قاضٍ متقاعد ويجسد شخصيته «حسام فياض»، ومعهم الخادمة داليا والتي تجسد شخصيتها «هايدي بركات»، يلعبون لعبة غريبة تدعى المحكمة وتكتمل عناصر اللعبة بحضوره، ليجد نفسه متورطًا في لعبة يراها مسلية في البداية حتى يجد نفسه في قبضة المحكمة ويحاول الهرب من هذه اللعبة من دون جدوى.
أعد القصة وأخرجها مسرحيًا بحرفية الفنان أحمد فؤاد، فجعلها مصرية تمامًا بلغة عامية بسيطة بمفردات عصرية بخفة دم وروح وفي ذات الوقت برصانة تليق بطبيعة النص وبالمسرح، فجمع بين المتعة والإثارة والاحترام ولغة المسرح كما يجب أن تكون، كما أنه لم يخرج عن محور القصة الأساسي والبعد الفلسفي الاجتماعي الذي تدور فيه الأحداث، وقد اختار له هذا العنوان «النقطة العميا» حيث يراها كما قدم لها في «بانفليت العرض» النقطة التي يمسح فيها عقلك تلقائيًا أي غلطة يحاول ضميرك أن يسجلها، النقطة التي يخفي فيها العقل كل الأفعال مهما كانت شريرة من الضمير، هذه النقطة التي حين تكتشفها سيتغير سير الأحداث (180) درجة.
الحقيقة أنني توقفت كثيرًا أمام هذه العبارة والتي تعمد المخرج أن يكتبها بالعامية أيضًا كما كتب النص، كما توقفت أمام العرض الذي يفتح نوافذ عديدة بداخلنا للكشف عن هذه النقطة، فمن منا بريء تمامًا لم يرتكب ذنوبًا حتى ولو من دون قصد؟ الحقيقة لا أحد وهو ما أكده هذا العرض الثري بفكرته وتناوله سواء بالكتابة أو بكل طرق الأداء التي طرحته، فالأداء لم يكن تمثيليًا فحسب فكل مفردات العرض وظفت بحرفية لتؤكد على عمق القضية التي يطرحها، من ديكور الفيلا الذي صممه أحمد أمين والذي جاء بمستويين، أعلى يتدلى منه حبل المشنقة ويحوي لوحات مرعبة قامت برسمها الخادمة والجلاد في ذات الوقت وهي الشخصية التي تجسدها «هايدي بركات»، وجزء سفلي هو حجرة الصالون أو الاستقبال التي تضم أبطال اللعبة، والجزء الخفي في الداخل الذي انبعث منه صوت السجين الذي حُكم عليه بخمس سنوات والذي يدل على أنها ليست مجرد لعبة بل أنها (لعبة وقلبت جد).
السلم الذي يضم نوافذ تم توظيفها كشاشات عرض نرى من خلالها تفاصيل الجريمة التي ارتكبها البطل.
إضاءة أبو بكر الشريف التي تعمل في حركة دائرية بين سخونة وبرودة وإثارة وغموض، موسيقى محمود أبو زيد الصاخبة في البداية والتي تضاءلت مع الأحداث لنشعر ببكائها مع النهاية. ملابس نور سمير عبرت بدقة عن كل شخصية فالكوفية الحمراء الطويلة التي تحيط برقبة البطل تدل على طبيعته الشبابية المنطلقة والمندفعة، الروب الذي يرتديه القاضي حتى وإن كان منزليا فهو شديد الوقار، ثم البدلة الأنيقة من بعده والتي تؤكد على تفرده وانتمائه لطبقة رفيعة، تقترب طبيعة ملابس ممثل الادعاء من ملابس القاضي، أما المحامي فملابسه بها عشوائية بعض الشيء، أما داليا فعلى الرغم من عصرية ملابسها وما تتسم به من شياكة إلا أن مكياجها والمشابك التي تقبض على الشعر وتحد من حرية الحركة تبرز طبيعتها العنيفة، كذلك الميكانيكي بملابسه ومكياجه الذي يدل على طبيعة عمله.
وبالطبع فإن الأداء التمثيلي هو البطل الأول في العرض فنجد نور محمود، في أول تجربة مسرحية له، وعلى الرغم من ذلك فقد قدم الشخصية ببراعة شديدة حيث الشاب المغرور والذي يتعامل مع كل الأمور بسخرية ولامبالاة، بل وعنجهية وكبر أيضًا، فهو الشاب الذي على الرغم من حداثة سنه نجح في تحقيق ثروة مالية ويمتلك سيارة فارهة ورب لأسرة، لكنه في سبيل ذلك يدوس على القيم والأخلاق التي جعلته يرتكب جريمة قتل من دون إسالة نقطة دم واحدة، ولكنه لم يعبأ بذلك ولم يشعر بالذنب مطلقًا إلا حين واجه حقيقته داخل هذه اللعبة التي جعلته يرى حقيقته لأول مرة. 
رجال القانون الذين يحاولون تحقيق العدالة التي لم يتمكنوا من تحقيقها على أرض الواقع فلجأوا إلى هذه اللعبة بعد تقاعدهم جميعًا هم: أحمد السلكاوي الذي جسد شخصية المحامي المخضرم الذي يستطيع قلب الحقائق وإيجاد الثغرات لصالح موكله، لكنه يفشل بسبب عنجهية موكله وغروره الذي جعله يتعامل مع الموقف بسطحية إلى أن يجد نفسه متورطًا أمام نفسه أولاً، ثم أمام قانون هذه اللعبة.
أحمد عثمان الذي جسد شخصية ممثل الادعاء بذكاء شديد من قبل الشخصية التي يجسدها والممثل معًا.
حسام فياض جسد شخصية القاضي برصانته وهدوئه ووقاره وتوحد معها على الرغم من كونها لعبة، لكنه مارس دور القاضي داخل اللعبة وخارجها لكونه قاضيا متقاعدا.
 هايدي بركات جسدت دور شخصية ملغزة على الرغم من قلة المساحة عن باقي الأبطال إلا أنها الشخصية الوحيدة التي لم نتعرف على تاريخها أو عملها قبل أن تلتحق بهذا العمل، فهي ليست مجرد خادمة بل مشارك أساسي في اللعبة ولديها مبررات تجعلها تقبل المشاركة في هذه اللعبة على الرغم من عدم الإفصاح عنها إلا أن ذلك يصل للمتلقي من خلال أدائها لشخصية تقوم بالأعمال المطلوبة منها بمنتهى الدقة والانضباط والجدية.
 عمر صلاح الدين جسد شخصية الميكانيكي في بداية العرض وهي شخصية خفيفة الظل مرحة، جاءت بمثابة الترحاب بجمهور العرض قبل الدخول في تفاصيل الحدث، كما جسد من خلال النافذة شخصية الضحية التي صعد على جثتها البطل.
الأداء التمثيلي لكل أبطال العرض جاء معتمدًا على كل وسائل التعبير من الحركة الموظفة بذكاء شديد من دون أية أخطاء وكأنها حركات تليفزيونية أو سينمائية، كذلك الإيماءات سواء كانت بالوجه أو بحركات الأيدي، أو بالجسد كله. العرض يقدم على مسرح الغد بقيادة الفنان سامح مجاهد.


نور الهدى عبد المنعم