الحوار المسرحي بين الفصحي والعامية.. إبراهيم الحسيني نموذجا

الحوار المسرحي بين الفصحي والعامية.. إبراهيم الحسيني نموذجا

العدد 687 صدر بتاريخ 26أكتوبر2020

كانت تجربة إبراهيم الحسيني فى صياغته لنص «جنة الحشاشين» في نسختين إحداهما باللغة العربية الفصحي والثانية باللهجة العامية الدارجة تجربة مثيرة للاهتمام -  فيما يتعلق بلغة الحوار المسرحي . وعندما نستعرض أعماله الأخرى نجد أنه حتى في نصوصه التاريخية مثل نص «جنة الحشاشين « ، و « أيام إخناتون الأخيرة» ، وقد صاغها بالعامية ، وكذلك أعماله الفنتازية مثل « الغواية»  ، و»متحف الاعضاء البشرية « ، « وخارج سرب الجنة» ، وحتى النص الاخير المستوحى من كتاب»الف ليلة وليلة» «وش الديب « مصاغ باللهجة العامية ، وكذا مسرحيتة الساخرة « اخبار .. اهرام .. جمهورية» ، وهو في نفس الوقت يلجأ الي اللغة الفصحي فى نص « عازف الناي» .. إذ تظل مشكلة الفصحي والعامية في لغة الحوار فى المسرح العربي مشكلة اساسية عن مشاكل مسرحنا العربي منذ بداياته فى منتصف القرن التاسع عشر (بشكلة الاوروبي).. إذ أن (الحوار) بالمعني التقليدي  هو (الكلام الذي يتم بين شخصيتين او أكثر حيث أنه يدفع الي تطوير الحدث الدرامي ، وتجليته ، ومن ثم تنتفي وظيفته كعامل زخرفي .. خاصة وأنه يعبر عن تميز الشخصية من الناحية الجسمية والاجتماعيه والنفسية ، وأنه يخلق لدي المشاهد الاحساس بأنه مشابة للواقع أو ما يمكن أن يكون واقعا ، وأنه يوحي بأنه نتيجة أخذ ورد بين الشخصيات المتجاورة ، وليس مجرد ملاحظات لغوية وتنطق بالتبادل ، وهذه ( التبادلية) هي ما أثارت أهتمام منظروا مسرح الحداثة وما بعد الحداثة-  التي تأثر بهما  كاتبنا (ابراهيم الحسيني ) .. فيما عدا نصة التقليدي «جنة الحشاشين»] .. إذ ظل الحوار أداة لاخضاع القضايا في داخل المجتمع الانساني ، وباعتباره كذلك أحد المكونات الرئيسية للواقع ، وموضوعا للاعمال الادبية والدرامية والتصويرية منذ القدم ، اما الأن عندما تفتح القاموس الموسوعي للمسرح يشير (ميشيل كورفان) الي أن (الحوار هو السمة المسرحية الاولي للنوع المسرحي حتى أواخر الستينيات ، وانه تفجر نهائيا حينما أصبحت عناصرة المكونة أي (العبارات) لا يمكن نسبتها بالتحديد الي شخصيات محددة) – كما في نصوص  “ الغواية” ،و”خارج سرب الجنة” ، و”عازف الناي” لابراهيم الحسيني -  لكن الفارق كبير بالنسبة الي المسرح الدرامي التقليدي حيث يوحي للمتلقي بالبحث عن (الموقف) ، وأن الممثلين بأدائة يكونون متجاوزين للعبارات ، أو كأن هذه العبارات لا تكتسب معناها الكامل إلا من خلال علاقتها (بالموقف) وبالعكس من ذلك نجد أن أحد أهم أهداف المسرح -المعاصر-  يكمن في تدمير الموقف ، ومن ثم جعل حدود (الدرامي)، تتقهقر وتتراجع كما في نص “ الغواية” -  علي سبيل المثال-  عندما قسمة الي فصول اربعه .. كل فصل منها يدور حول موضوع بعينة ، وداخل هذه الفصول ينتقل النص من صورة الي أخري دون التزام بالوحدات التقليدية الثلاث كي يصور التشوش والاختلاط اللذين أصابا المجتمع .. مُعتمداً على تقنية الصورة المرئية ، وحيث تصبح الشخصيات مجرد وظائف أو صفات .. او تجريد الشخصية الدرامية بغرض التركيز على بناء السياق العام لموضوع النص ( وهو إجهاض حلم الثورة) .. 
 ويختص المسرح الحديث بصفة أساسية في محاولة تطوير ظاهرة الحوار  باعتبارها أحد المكونات الاساسية  للحياة الانسانية  والواقع - لأن الحوار كذلك يُعد أمراً جوهريا  للوجود الانساني ، ومحاولة لتوليد فلسفة للحوار -  هذا الحوار -  الذي يعني بالاشكالية القائمة بين الذاتية والموضوعيه التي قام الدليل عليها في القرن العشرين ، والذي نشأ عن التوتر الذي ينشأ بدورة عن تمزق وتفتيت المعرفة من ناحية ووحدتها من ناحية أخري في الفكر الانساني .. إذ ان الحوار الحقيقي في المسرح ليس مثل المناقشة بين فردين لتبادل أفكار ذات مغزي كما نري في الحادثة التي قد تتكون من مجرد الفاظ فارغة -  فالحوار إذن هو أداة التحول في مجال المسرح -  إذ أنه يحدث عندما تتلاقي  الادوار ، ويؤدي الي تغيرات وتحولات غير متوقعه كما في حوار (ياجو) على سبيل المثال واستخدامة ببراعه لحوارة مع (عطيل) ليغير كل شيء يسمعه ويراة فللحوار قدرته الداخلية على تسجيل واستشكاف الفوارق في الايدولوجية والمنظور ووضع كل منها في مواجهة الاخر سواء داخل الافراد أو بين الناس ، وهو الذي يحرك كل الاصوات المتغايرة وكشف التناقضات ، وهو ايضا نقيض للايديولوجيا، ولا يتطلب التعبير عن عقيدة ما .. أذ يسمح بوجود وجهات نظر متعارضة ومختلفة -  لكن يظل هناك دائما جانبا مظلما في الحياة يتحدى الوصف الدقيق -  حيث  أننا لا نستطيع أن نصف الناس وصفا دقيقا بإستخدام قواعد المنطق الشكلي فقط .. لذا أري أن كاتبنا عندما لجأ لصياغة أغلب نصوصة باللهجة العامية الدارجة واجهتة صعوبة  التعبير عن عالمة .. فالكلمة فى هذا المسرح توفيقية ، والحوار مثقل بالصمت ، والقاموس محصور في الكلمات ذات الاستعمال الدارج ، واحيانا تكون الهيمنة للانماط اللغوية -  حيث أن الصوت هنا أهم من اللغة وكأنه يُكتب بواسطة الأذن .. يكتب للممثلين  والكلام الذي يخرج من أفواههم -  لا للقراءة فقط -  تلك التي تجعل القارئ قد يفقد المعني والمشاعر .. بخلاف المسرح والتمثيل حيث يدخل الممثل مُتوحداً أمامنا -  كي يحيا مُجدداً -  تخرج منه الكلمات وهي تتنفس الفراغ -  ذلك الفراغ نفسة الذي يحدث الكلام .. فالكلمات لا تثري الفضاء المسرحي فقط بل قائما معتدلا -  فإذا انسحبت .. فلسوف يرتد الديكور ويسقط على الارض -  لان المتفرج يأتي الي المسرح لمشاهدة الممثل الجيد وهو يحيا والذي يمتلك الاداء المتنوع ...
 ونشير الي لجوء ابراهيم الحسيني فى نصوصه الي فنون الصورة ، والي تبدل الاشكال ، ويمزج ما بين الصورة المسرحية والصورة السينمائية ، ويعدد في المناظر، وهي وسائل تكنولوجية -  لكننا  نلاحظ ان التكنولوجيا تقلل من استخدام الكلمات في مجال التجربة والمعرفة ، وذلك لان المهارات العلمية كالتكنولوجيا يمكن ان تُستخدم فى خدمة الخير وفى خدمة الشر سواء بسواء .. ومن هنا يظل الهدف من الحوار هو تحريك المعرفة لمنعها من التحول الي اشكال جوفاء او قوالب شكلية من الحفريات -  لأننا خلقنا ولنا اصوات ومولودين وحولنا الاصوات ومدعوون للتحدث ، ويريد قول كل شيء ، ونهدف الي التواصل ، والفضفضة بكل شيء ، وشرح كل شيء ، والتعرف على كل شيء .. ومن هنا يحاول ابراهيم الحسيني ان يلجأ الي حداثية التكنولوجيا ، والي توظيف (تقنية) تم توظيفها من قبل في المسرح حين يشير الي (انه يمكن للشخصية ان تلعب اكثر من دور) ، وتعني -  كما يقول الناقد – احمد خميس -  جريدة مسرحنا -  العدد (179) ص (15) (تفكيك الاداء التمثيلي والرهان علي متلقي يعرف ان ما يُقدم أمامة ليس إلا (لعبة مسرحية) تحتمل الحقيقة والكذب -  كما انها تحتمل الاندماج والتغريب -  فليس هناك حقائق ثابتة أو رهانات يقينية ، وكل شيء مُتاح ، ويمكن اللعب به).
 والكاتب بهذا التكنيك يكشف لنا كيف تتعقد العلاقة القائمة بين الحوار واللغة حيث من الواضح ان هناك ثمة تناقض في الربط بين مفهوم الحوار والمحادثة -  خاصة عندما يكون الحوار في جوهرة حوار بلا كلمات وينتمي الي عالم الصمت الذي لا تعبر عنه الكلمات ، ولكي نحسم هذا التناقض فإننا بحاجة الي فهم أعمق لماهية اللغة وعلاقة الانسان بها، وهنا يأتي دور المسرح الحديث لكي ينقذنا من هذا التناقض..
 أن تجربة ابراهيم الحسيني في نصة الرصين والمكتوب باسلوب  ارسطي – تقليدي الي حد ما ، والمصاغ بحوار يخلو من سمات جماليات لغة خاصة، ويخلو من الزخرفة اللغوية .. سواء في نص اللغة الفصحي  أو اللهجة العامية.. نشير الي  كاتب يعي تقنيات المسرح بأشكالة المختلفة -  التقليدية والحداثية ، وتؤكد على مهاراته فى هذه التقنيات -  لكه فى تجاربة الحداثية فى النصوص الاخري -  فإني اتصور أنه بحاجة الي البحث عن أساليب وتقنيات مسرحية أكثر بساطة تخلق له تواصلا أعمق مع المتلقي .. أما فى نصوصة التاريخية والمستلهمة من التراث -  فأتصور ان لجوؤه الي اللهجة العامية قد اثر سلبا على هذه النصوص إذا افقدتها خصوصية موضوعاتها وتميز عالمها حيث تتداعي الي ذهن المتلقي مفردات الحوار العامي وقاموس العامية المحصور في الكلمات ذات الاستعمال الدارج ، وهيمنه الانماط اللغوية العامية الدارجة بإشاراتها وايماءاتها ، وما يمكن ان تستدعيه لغة الحياة اليومية المستهلكة.
 ورغم هذه الملاحظات – فإبراهيم الحسيني كاتب مسرحي جاد ودؤوب يبحث  دائما عن التجريب والحداثة في احياء حياتنا المسرحية التي نعاني فيها جميعا.
وفي  نصة الاخير “ حكايه سعيد الوزان” 2014  نشير الي ان الكاتب يستلهم نصة من التراث الصوفي الاسلامي ، ورغم ذلك يكتبه بحوار (عامي) رغم انه مُستلهم من تراث فصيح!   ورغم ذلك فقد وفق في صياغة الحوار العامي بشكل اقرب الي الوجدان الشعبي -  وهنا نتوقف عند (جماليات الحوار) سواء كان بالفصحي او العامية..  فلكل جمالياته الخاصة به -  فالعبرة في جماليات الحوار ببلاغته واصابته للمعني المطلوب ، لكن تظل مشكلة الفصحي واللهجة الدارجة (قائمة) في مسرحنا العربي -  الي ان نصل الي صياغة تأخذ من جماليات الفصحي والدارجة إذا بحثنا عن مخرج لذلك ، واتصور ان هذه المشكلة تظل موضع مناقشة ليس في مسرحنا العربي فقط – بل اتصور انها ما تزال مشكلة في مسارح بلاد العالم الاخري واذكر أن الكاتب الايرلندي (جون ميلنجتون سينج) كان مُصراَ على كتابة حوار مسرحياته بلهجة الريف الايرلندي الذي عاش فيه، ورغم ذلك تمت ترجمة اعمالة الي اللغات الاخري دون مشفة او عنت، وأذكر ايضا اعمال الشاعر الاسباني الكبير (فيديركو جارسيا لوركا)الذى اقترب كثيرا من روح موضوعاته التي كتبها عن الريف الاسباني – علي سبيل المثال -  وفي تصوري انه كلما اقترب الحوار من مفردات الفصحي كلما اصبح الحوار اكثر ثراء وجمالية – فقد نستطيع ان نجمع ما بين جماليات العامية وجماليات الفصحي في كتاباتنا المسرحية العربية.
المراجع :
 «جنة الحشاشين -  ابراهيم الحسيني 
«متحف الاعضاء البشرية « ، و « خارج سرب الجنة « ، ابراهيم الحسيني .
«الغواية» – ابراهيم الحسيني.
«عازف الناي» -  ابراهيم الحسيني .
«وش الديب»  مسرحنا -  أحمد خميس- 2010
« ايام اخناتون الاخيرة» - ابراهيم الحسيني 
«حكاية سعيد الوزن»


عبد الغنى داوود