فينومينولوجيا الصوت في المسرح (2)

فينومينولوجيا الصوت في المسرح (2)

العدد 791 صدر بتاريخ 24أكتوبر2022

 بالنسبة إلى باديو، إبداع العمل المسرحي هو حركة الفكرة من “ السرمدية “ الى “ الزمن “ – أي محاولة إظهار المجال الفلسفي للفكر المحض في العالم الزمني الناقص . وعلي الرغم من أن باديو يضع حدودا دقيقة علي هذا المسرح عموما – مستبعدا الرقص والتمثيل الصامت والارتجال البحت غير المتكرر – فان مسرحه يرتبط بالأداء الذي أشير إليه في هذه المقالة . وهو أن : أولا، يتجمع الجمهور بقصد المشاهدة، ثانيا، الممثلين الحاضـرين مـاديا،  بأصواتهـم وأجسامهـم، يحتفظون لهم بالغرض الصريح لهذا الجمهور المتجمع، وثالثا ، مرجع نصي أو تقليدي، ويمكن القول بأن هذا العرض هو التمثيل .
من الممكن القول إذن أن مسرح جوهر مسرح باديو وما يتعلق بالأداء عموما متعاطفين ومترابطين إن لم يكونا متوافقين . وبالتالي ،فسوف نستخدم المصطلحات بتبادلية سببية . والأساس هو أن فكرة الحركة من السرمدي إلى الزمني قابلة للتكرار ولكنها غير متطابقة . لا تكتمل فكرة المسرح بالفعل المسرحي، بل إنها المتممة له . فكل أداء وكل إعادة وكل إحياء، الخ، لا يعبر عن فكرة المسرح بشكل نهائي، بل يوفر طريقة واحدة ممكنة نستطيع من خلالها تجميع هذه الفكرة .
 والحقائق خيالية وواقعية . وهي تلك الأشياء التي تنتقل لنا من خلال تجربتنا . فالأوهام البصرية حقائق، والقصائد حقائق، والروايات حقائق، والأكاذيب حقائق. وهي حقائق لأنها تجربتنا، وهي حقيقية لأنها تكلمنا علي مستوى فهمنا للعالم – مستوى ذواتنا الإدراكية، ذلك الجزء الأسير في علاقات معينة مع الآخرين . وهي ذات معنى لأن هذا المعنى مشترك . وهذا هو أصل الاستجابة لمحفز عشوائي – فنحن قادرون علي فهم أن الأشياء يمكن أن تنقل المعنى ومن ثم يمكننا القيام بذلك . فصورة السيدة العذراء التي تظهر علي شريحة خبز متفحمة لا يتم تصغيرها بهذا الشكل – ولكي تكون الحقيقة حقيقية فلا بد أن تكون حقيقية لمشاهد واحد لمرة واحدة، مع أنه لابد من مشاهدتها .
 ان ما تفعله صيغة الحقيقة هذه هو فصل خاصية الحقائق القابلة للتحقق عن تصنيفات المعنى . فهي تستبدل القابل للتحقق  بذي المعنى . وبذلك أعترف بالنقص النسبي لعالمي الإدراكي . فأنا لا أستطيع أن أعايش إدراك الآخر وفهمه .
 عندما اتجه نحو الإدراك، وأنتقل من الإدراك المباشـر الى التفكير في الإدراك، فإنني أعيد تجسيده، فأجد في أعضاء إدراكي التي تعمل تفكيرا أقـدم (أسبـق) من ذاتي تكـون تلك الأعضاء أثرا له. وبنفس الطريقـة أفهم وجود الآخريـن .  
 وهنا مجددا، ليس لدي سوى أثر الوعي الذي يفلت مني في الفعل، وعندما تلتقي عيني في عين آخـر أعـيد تجسيد هذا الوجود الدخيل بنوع من الاستبطان .
فلا سبيل أمانا لتحقيق التجربة، فكل تجاربي هي نتيجة تفسيري الواعي للعالم الإدراكي الذي أعيش فيه . وبالتالي، من خلال عزل خاصية التحقق، نرفع خاصية المعنى إلى أهمية نسبية .
الأداء والزمنية :
 وللحديث عن الأداء، كما تفعل ايلين دايموند، باعتباره “ فعلا وشيئا مفعولا “، نشير إلى علاقة معقدة بين فكرة المسرح والزمني: تظهر فكرة المسرح، كما يزعم باديو، في زمن أدائه القصير، حركة من ذاتها في عالم لا يمكن تخيله (ولكن يمكن تخيله في ذاته) من الفكرة المحضة إلى إدراكها الحتمي والجزئي في المجال الزمني . وبهذا المنطق، أجادل بأن طرح فكرة المسرح يشتمل علي ثلاث حركات متشابكة في الزمن :
1- ممارسة سابقة ( المعاني التي قُدمت فعلا )
2- العملية الحالية ( المعاني التي يتم تقديمها )
3- المستقبل المتخيل ( المعاني التي لم تُقدم بعد)
 بالطبع، إن التزاوج بين الزمنية والمعنى ليس فريدا في الأداء، انه يترابط بشكل فريد مع مشاهديه والشيء المشاهد لكي يولّده.
 الأداء هو عالم خاص منعزل عن الحياة اليومية من خلال الارتباطات التعاقدية والإثارة الاجتماعية، وليـس محكـم              الغلق تماما ولكنه عالم مبتكر، ويتم تصوير كل عناصره الموقع والبيئة والتكنولوجيا والترتيب المكاني والشكل والمضمون والقواعد والممارسات – وتنظيمها واختيارها في نهاية المطاف من خلال طلبات المشاركين .
 الفعل والقصد المنجز لهما قصد محدد من أجل الأداء، توليد متعمد لفكرة المسرح «شخص يؤدي فكرة المسرح وآخر يشاهد». ويتجاهل تعريف اللحظة الأدائية أن فكرة المسرح تولد كعمل أداء واع، إنها عالم مبتكر، أو بالأحرى عالم مُعد – أي أنه عملية إبداع منظم بأهداف ووظائف محددة . وهذا التعريف للأهداف هو ما يساعدنا علي دراسة المسرح بالرغم من طبيعته الزائلة، ونقصانه، وخصائصه الخيالية .
 ويقول باتريس بافيس عن المسرح، «تمنح هذه السيمفونية العارضة للأجسام والأشكال والألوان والخطوط للصوت لونه وهويته، وترحب بكل الأصوات والضوضاء وتعرضها، في جو لم يكن متوقعا، يغذيها  ويخترقها، وكأنه يقتحم العالم الخيالي الشخصي لكل مشاهد ويدخله». هذا الأداء، ومحاولة الفرص هذه، تختلف عن السينما وحاجتها إلى الجمهور، فالسينما تذبل وتموت في قاعة العرض الخالية من المشاهدين، وتختلف عن الموسيقي في عدم قابليته للتكرار، حيث يمكن تسجيل الموسيقى وإعادة تسجليها من جديد، ويختلف عن الفنون البصرية التي تتحمل الفحص المتكرر للمشاهدين، ويختلف عن الشعر والنثر اللذين لا يحاطا بالأضواء والأصوات والأزياء  والزمن الداخلي للأداء نفسه .
 ابتكار الأداء في ذاته هو تخيل – إسقاط لما يعتقد حاليا في المستقبل المحتمل . ويسكن هذا الاسقاط حدود الوثيقة التاريخية، المواد المقدمة هنا ( الحبكات والخطط والتفسير وتوثيق التدريبات، ما إلى ذلك ) ليست الحدث نفسه، ولكنها آثاره الممتدة إلى الأمام في الزمن فضلا عن الامتداد إلى الخلف . وهنا نعتمد علي بناء والتر بنيامين للتاريخ : “التاريخ هو موضوع بنية موقعه وليس زمنا متجانسا وفارغا، ولكنه زمن مليء بحضور الآني . وبالتالي نظرا لميل المؤرخين ( وبالطبع مصادرهم) إلى إلحاق المواد التاريخية بمفاهيمهم – تقديم الافتراضات والرموز والقيم والميول إلى مهمة قراءة التاريخ وكتابته – إذ يجب أن نلاحظ أن هذه “الآنية” هي مظهر تداخلي : من خلال التفاعل الآن، نتفاعل مع الماضي والمستقل في وقت واحد ؛ فمن خلال التفاعل علي الإطلاق، نؤسس أنفسنا في المنطق المتعلق بالحدث الجوهري لحدث المسرح وهي موضوع إخلاصنا مع ذلك الحدث .
 يقول باديو “يبدأ مسار الحقيقة بحدث غير قابل للتأسيس. وتجد فعلها في ذات نهائية تواجه غير المتوقع“. تثير صياغة باديو لحركة فكرة المسرح من السرمدية الى الزمنية هذا الأمر . ففكرة المسرح كحدث فكري، تمثل بالضرورة الحدث في ذاته . وكما أشرنا من قبل، لا تصل الينا سرديات الأداء كاملة بل تصل الى ذروة ليست كاملة في حد ذاتها . وهذا يدع قرارات الإعداد التي يتم اتخاذها في عملية صنع الأداء مقبولا كفعل مقيد، الأمر الذي يتطلب أن يخلق الشاعر مسرحا لإحجامه الأكثر حميمة – أماكنه اللامبالية وأقصر أفراحه – لكي يتنبأ بالفكرة .
 والتنبؤ بالفكرة هو من أعمال الإعداد – انه التلقي المتخيل لنظام العلامات التي نبتكرها في الأداء لجمهور متخيل . ويبني ميرلوبونتي فينومينولوجيا تسمح بذلك – قائلا “ لا توجد حياة داخلية ليست هي المحاولة الأولى للتواصل مع شخص آخر“. ورغم ذلك، فان انفتاح معد الصوت علي الصوت المُعد هو نوع من الاستماع الاستبطاني، وجود الذات في توليد شيء تشاهده الذات . فالمُعد الذي يجب أن يتخيل الاستماع كذات وكآخر، وأثناء معالجته، يتصرف وكأنه ذات في حالة إخلاص للحدث .
     ورأينا عند هيدجر أن العمل الفني يرتبط ارتباطا وثيقا بصانعه وبيئته : يوجد العمل الفني من خلال الفنان، ومع ذلك لا يمكن أن يوجد الفنان إلا من خلال العمل، ومن خلال معرفتنا للفن كفن يمكننا أن نجد الفن في في العمل الفني والفنان . ويبدو ترابط الأصول وتماسكها، والذي هو أمر ميئوس منه، شيئا عقيما، ولكنه يكمن في قلب الكثير مما هو إنساني : فما هي اللغة بدون المتكلمين والكلام، وما هو الفكر بدون المفكر وما يفكر فيه ؟ تنشأ هذه الأشياء وتتجلى في العالم ليس فقط من خلال الفعل الإنساني بل أيضا من خلال العلاقات البشرية المتبادلة، وهي عقدة كثيفة من الإيمان والفهم والمعرفة وصنع الأساطير والتاريخ والخيال والعنف والكرم .
 وكفعل للإعداد، يعمل هذا التفكيك والتجريد من خلال نوع من النزعة العملية (البراجماتية): دعونا نتناول جوهر هذا المبدأ الذي أطلقه الفيلسوف البراجماتي شارلز ساندرز بيرس :  
 تأمل التأثيرات التي قد يكون لها تأثير عملي، فنحن نفهم هـدف تصورنـا . وعندئذ يكـون تصورنا لهـذه التأثيرات هو مفهومنا الكامل للشيء .
وهذا هو الذي يسمح لمجالنا السيميوطيقي أن يتوظف بما يتجاوز خيال المُعد، حيث تشير إلى أن قدرة الأشياء التي تعني بالضرورة تشير بأن الأشياء تعني فعلا، وأن المعاني تتجاوز، مثلا “ الزرقة “ أو أن “ الموجة الجيبية sine-wave” ممكنة ومتضمنة في الإضاءة الزرقاء ومصاحبة لموجة جيبية للنغمة .
 والمبدأ البرجماتي مفتوح أيضا بشكل أساسي، مما يعني أن الأشياء موجودة في العالم ليس فقط مع المعاني التي نشأت معها، بل أيضا بالمعاني التي اكتسبتها  أو تراكمت في الزمن منذ ذلك الإنشاء . وهذا يوحي أيضا بأن المعاني التي لم تتراكم بعد هي جزء من تصورنا لهذا الشيء – “ ثلاثية برلين “ للموسيقار الانجليزي ديفيد بألبوماتها الثلاثة في عصر الحرب الباردة في برلين، ولكنها تتأثر الآن بشكل لا ينفصم بانهيار الشيوعية وظهور برلين اللاحق كوجهة لمبدعي كل الأنواع الفنية . ومن المثير للاهتمام أن فرضية بيرس الأساسية تعكس وجهة النظر البراجماتية هذه للمعنى في الصوت :
هناك أشياء حقيقية تستقل سماتها عن آرائنا تماما،  وتلك الحقائق تؤثر علي حواسنا وفقا للقوانين العادية، وتختلف أحاسيسنا تماما مثلما تختلف علاقاتنا بالأشياء، ومع ذلك ، يمكننا أن نتأكد، من خلال الاستـفادة من قوانين الإدراك ، كم تكون الأشياء حقيقية، وأي إنسان لديـه خـبرة وعقــل كافيين سوف يتوجه إلى الاستنتاج الحقيقي الوحيد .
في إعداد الصوت نتعهد بتحديد المحمولات العملية المتصورة بأن هذا الصوت ربما يمتلك في سياق أداء معين، أن ينشئ داخل الإعداد مجموعة من التقاليد – قوانين منتظمة – تسمح لعناصر هذا الصوت، لأنها حاضرة في الإعداد، أن تنقل المعنى وفقا للشروط التي يضعها العرض نفسه .
 وبالنسبة لبيرس، فان موضوع الإدراك الفوري – أي الظواهر المادية التي يدركها المُدرك ( المتلقي) – مفتوح علي العقل باعتباره مدركا percepuum . وهنا نتأمل الشيء كما يتم تفسيره في الحكم الادراكي الفوري، المتناظر مع العصر، باعتباره “ظهور” أو “ تجلي” . ومن هذا الإدراك ينتقل المُدرك الى مزيد من الحكم علي الظاهرة – النظر في التأثيرات التي ربما يمتلكها . والموضوع في تصنيف الصوت ليس هو الموضوع الذي يظهر لحواس الإدراك بشكل ملموس، مثل المقعد أو اللون الأصفر . واستنتاجا من المثال الذي يقدمه أوكالاهان ونودز : عندما اسمع صوت الباب يُغلق، فهل يكون موضوع الإدراك هو الباب، أم هو تأثير الصوت مع إطار الباب ؟ . وبالنسبة لهيدجر، بالطبع “ نسمع غلق الباب ولكننا لا نسمع أبدا الأحاسيس الصوتية أو حتى مجرد الأصوات“. وهذا يعني بالضرورة أن صوت الشيء هو شيء الصوت، فرنين الصوت هو موضوع الإدراك نفسه . ويمكننا المضي قدما علي في هذا علي المستوى الذي يشير إليه دون ايد بأنه “ البسيط»، حيث أن صوت الصوت يعادل بشكل مباشر صوت الشيء : يمكن ربط صوت إطلاق النار بتمثيل البندقية علي خشبة المسرح – دعامة واقعية، وإيماءة أو كلمة لا أكثر ولا أقل . وربما شوهدت النسخة المطابقة للبندقية AR15 التي أطلقت، في ارتدادها المحاكي لرعشة الجزء العلوي من جسم الممثل، وربما يكون هذا هو تحريك الإبهام لأسفل باتجاه الأصبع الذي يشير، في الإيماءة الكلاسيكية التي لا حصر لها في ألعاب الأطفال . المهم في إدراكنا هو التقارب بين الحدثين البصري والصوتي الذي يعتمد على الإدراك علي المستوى البسيط . ويكتب ايد :
تتم مواجهة الأصوات كأصوات لأشياء . لقد كان ذلك صوت آلة ثقب الصخور بكل اقتحامها المزعج . وهناك، اريك ينادي ليزلي الآن . وتلك كانت بالتأكيد شاحنة مرت بنا وليست سيارة ... هذه القدرة العادية للسمع تحتوي بداخلها ثراء في التمييز والقدرة علي التنبؤ بالفروق الدقيقة في البنية السمعية، وبها نعرف ما يشير له سمعنا ومكانه .
فعل الإعداد : أن تكون موجودا دون أن تكون موجودا :
يجب أن يكون معد الصوت قادرا أن يميز هذه القدرة في ذاتها لكي يفهم ببساطة؛ فيجب أن يكون قادرا علي المدرك باعتباره مظهرا لآخر. فلا يتكون إعداد الصوت كممارسة من إنتاج الصوت الظاهر في الأشياء الواضحة – فبالرغم من تجردها فربما تكون من نظائر العالم الحقيقي. إنها تشمل الخصائص الأساسية للصوت نفسه – فالنغمة ودرجة الميل والجرس والسعة والمدى تمنح الأصوات الأصداء العاطفية للحالة المزاجية، والبنية والنطاق الدينامي، ويربطها بالفعل والجو العام كسجل وتمهيد موسيقي وعنصر وحدث . ولذلك، بينما يوجد نوع من القيمة الأداتية في الأشياء التي تصدر الأصوات وكأنها تصدرها في ذاتها ( المنبه علي خشبة المسرح، والتليفون خارج المسرح وغلق باب الشقة )، فليس مطلوبا من معد الصوت ببساطة أن ينشئ هذه الأصوات الموضعية المكانية التمثيلية . وبدلا من ذلك، هناك مهمة جمالية في الترحيب بكل الأصوات والضوضاء وتوضيحها، وهو العمل الغامض والمشروط لعمل فن الصوت في الأداء المسرحي . ويلاحظ براون الجوانب التالية التي تشمل الهدف الوظيفي لإعداد الصوت للأداء المسرحي :
القابلية للسمع – التحفيز – الموسيقى – التبديل الصوتي – تغيير الصوت – امتداد المكان /الزمن الدرامي – الحالة المزاجية .
 من الملاحظ عدم وجود أي من هذه النقاط السبع التي تكمن في قلب إعداد الصوت كمجال تقني ( بدلا من المجال الإبداعي أو مجال الإعداد) يوجه نفسه مع ظهور الاستماع البسيط . فهذه النقاط ليست مختصة بكون صوت ذلك الشيء موجود، أو حتى صوت ذلك الشيء خارج خشبة المسرح . في الحقيقة، يتوجه هذا الهدف جماليا : عناصره الفردية هي الطرق التي يحضر من خلالها الصوت كملحق أو كتعزيز للعمل الذي سيتم تقديمه . تأمل مثلا المقطوعة الموسيقية الأيقونية “رقصة الشيطان“ والمعروفة أيضا باسم “فكرة ديك بارتون“ التي كتبها المؤلف الموسيقي في هيئة الإذاعة البريطانية  شارلز ويليامز بأوتارها المحمومة  التي تحرك مشاعر الإثارة والحركة السريعة والمغامرة . فالعناصر التركيبية والتقليدية للفكرة والايقاع السريع والأوتار المحمومة والنفير الجريء تستحضر جوا معينا من أجواء المغامرات البريطانية . وحلقات الإذاعية “ ديك بارتون»، و«العميل الخاص» (1946) التي اذاعها Light Programme في هيئة الإذاعة البريطانية حتى عام 1951، والتي أدخلت نفسها بصرامة في ذلك الوقت في وعي الجمهور .
من الواضح أن الفكرة، المستخدمة في جميع مظاهر بث الشخصية، وليس صوت كينونة ديك بارتون، العميل الخاص، كشخصية نشأت في الإذاعة، فمن المرجح أن يشير صوت ديك بارتون العميل الخاص إلى صوت الممثل نويل جونسون، أو  تسلسل المؤثرات الصوتية في الحياة اليومية ( وقع الأقدام، والمعطف الذي يرفرف في الهواء ) التي ابتكرها مهندسو الصوت في هيئة الإذاعة البريطانية لإظهار الشخصية . وبعد حوالي 60 سنة ومع حقيقة المئات ( وربما الآلاف) من موضوعات المغامرات المناسبة لا يزال مسلسل «رقصة الشيطان» للمؤلف شارلز ويليامز راسخا بقوة في معجم المفردات الصوتية . ويسمح فهمنا المستمر لمقطوعته الموسيقية بالتخلص منها واستخدامها كمؤثرات كوميدية في سياقات أخرى، مثل فيلم الرسوم المتحركة “ فأر الخطر Danger Mouse” (1981) و “ ونظرات ميتشيل وويب That Mitchell and Web Look›s” (2006)، وتتكرر في مخطوطات “ مغامرات السير ديجبي تشيكن” .
 يعكس هذا المثال مخططا معقدا في استماعنا : أننا بينما نحضر الاستماع في الوضع البسيط الذي ترتبط فيه أصوات شيء ما بالحالات المزاجية أو الأجواء، فان معنى الصوت متعدد الطبقات والمعقد : لكي نفهم القصد الساخر من مطاردة رسوم الكارتون التي تتضمن “ فأر الخطر “ ورفيقه “ بينفولد “ والذي هو من موسيقى اللحن الأصلية التي سجلتها موسيقى “ رقصة الشيطان “، وكانوا واعين بالقصد الجاد للموسيقى الأصلية . إن تجاور جديتها مع الرسوم المتحركة لحيوانين يسعدنا، حتى بدون معرفة المسرحيات الإذاعية الأصيلة التي قدمت الموسيقى لجمهورها . وهذا يبرز قدرتنا علي الاستماع الخيالي، ويمكن أن يحدث هذا علي المستوى البسيط باعتبارها أصوات : أي أن هذه الأصوات ليست نتاجا مباشرا لموضوعها ولكنها ربما  تكون وصفية لها بشكل أكبر أو أصغر لها .
 ولتوضيح حجتي أكثر سوف انتقل إلى التحليل المرئي . ففي كتاب مارك روثكو Mark Rothko “ الأخضر والبرتقالي على الأحمر Green and Tangerine on Red “ (1956)، إذ تحضر قوة وحيوية الألوان الثلاثة من خلال إشارات عاطفية متضاربة : الفرح/ الحزن وما إلى ذلك . وبدون لوحة الكلمات أو اللغة الرمزية المتفق عليها مسبقا التي توضح هذه الإشارات بصراحة، فان روثكو قادر على دمج ارتباطاتنا الحالية بالألوان الزاهية والبرتقالية مع الحالات العاطفية الايجابية أو النشطة والألوان الداكنة والأخضر مع حالات الكآبة والحالات المزاجية السيئة – تلك الحالات التي تظهر ألوان اللوحة وشكلها . ويستخدم قدرة المشاهدين علي التخيل في نفس الوقت مع قدرتهم في الإبداع الخيالي، مثلما يعتمد المعد علي حكم وتوقع المشاهدين لعمل الإعداد نفسه بأنه حساس وذي معنى .
 وفي هذا نرجع بوضوح إلى تنبؤ باديو بفكرة أنه في الفعل الإبداعي لإعداد الصوت ( الفنان الذي يبتكر عملا فنيا)، فإننا نعمل في المجال الذي يحدث قبل تقديم العمل للمشاهدين . وفي عمل الإعداد، يجب علي المعد أن يشارك في الطاقات التي يستمد منها الصيغة الخيالية للاستماع لكي يتنبأ أو يصوغ الطريقة التي يمارسها المشاهد في لحظة الأداء . وبالتالي فان التأكيد في عنوان هذا الجزء هو “ أن تكون موجودا بدون أن تكون موجودا“.
..............................................................................
كريستوفر وين: باحث ومعد صوت في مجال المسرح والأداء المعاصر ويعمل أستاذا بجامعة ملبورن باستراليا .
هذا المقال هو الفصل الثالث عشر من كتاب «فينومينولوجيا الأداء: نحو الشيء ذاته Performnce Phenomenology :To The Thing Itself”
إعداد: ستيورارت جرانت – جودي ماكنيللي رينودي – ماثيو واجنر، والصادر عن Palgrave Macmillan 2019


ترجمة أحمد عبد الفتاح