المسرح الحي: موجز تاريخ الاستعارة الجسدية (1-2)

المسرح الحي: موجز تاريخ الاستعارة الجسدية (1-2)

العدد 686 صدر بتاريخ 19أكتوبر2020

 “ انها اذن مسألة جعل المسرح وظيفة، بالمعنى الصحيــح للكلمة، شيئا متمركزا ودقيقا مثل تدفق الدم في الشرايين” 
(أنطونين آرتو – “ مسرح القسوة “ (المنفستو الأول)
“ هذا يعني أن الجســم مثل المســرح، هو مكان، ومثــل  الاختبار معد للحماية والحفظ علي حد سواء”
 (أليس راينر، “الأشباح: الموت المضاعف وظاهرات المسرح”)

 الآن، أصبحنا جميعا علي دراية باستعارة المسرح الحي. وتشق حياة الدراما وحياة خشبة المسرح والفن الحي طريقهم باستمرار خلال النقد والنظرية وممارسة المسرح ودراسات الأداء في القرن الماضي أو أكثر . والتشابه راسخ في دراسات المسرح والأداء لدرجة أننا نستطيع بالكاد أن نسجل غرابة الفكرة . ويقدم عنوان مؤتمر المسرح عام 2010 عنوان “ مسرح حي : المسرح والوسائط والبقاء Theater Alive : Theater، Media Survival” أفضل مثال . ومع ذلك إذا نظرنا عن كثب، نجد أن هذا الشكل يحتوي علي افتراض أساسي يحتاج إلى المزيد من الاستفسار: مفهوم المسرح نفسه كجسم حي ومتكاثر ومحتضر .
 وفي هذه المقالة، سنعاود زيارة التاريخ الحديث لجسم المسرح . لتوضيح صمود هذه الاستعارة وآثارها الأعمق علي دراسات المسرح والأداء . وبعد قرن من الحياة والموت والبعث من جديد، فقد تكون هذه الصياغات النظرية، كما نجادل، محدودة . فلم يكن المسرح نفسه ولن يكون شيئا حيا، كما أنه ليس جسما، رغم أنه ينشأ من خلال الأجسام الحية . ومثل هذه الاستعارات تحجب السبل التي تسعى من خلالها الأشكال المسرحية الي دمج أشكال أخرى أو حتى احتلالها . في الواقع، ربما يكون تكامل الاستعارة الجسدية أقل في صياغة الكل العضوي من تكوين التخصيص العشوائي في أشكال فنية أخرى . فمن وجهة نظرنا، تعمل الاستعارة الجسدية في المقام الأول علي تلطيف الحدود الخشنة للشكل الفني الذي افتقر منذ نشأته إلى أنطولوجيته الخاصة . والأكثر من ذلك عندما نقارن المسرح بالجسم الحي  فسوف نميز بالضرورة شكل الفن ومكوناته التاريخية  . أي أننا عندما نشير إلى مسرحية أو عرض مسرحي ككائن حي فإننا نشير الي تفرده وندرته وذاتيته الخاصة – أي نجعله كائن حي . وهناك خطر حقيقي في هذا من تنظير المسرح كشكل من أشكال الحياة وتشبيهه بجسم الإنسان يمكن أن يضفي الشرعية علي المناهج المعترف بها في مجالنا ويجسدها، لأن التأكيد علي الحياة والموت والميلاد من جديد، ومطاردة المسرحيات الفردية أو العروض والعناصر، قد يخدم، في أسوأ الأحوال، مصالح التحليل التاريخي قصير النظر . وبدلا من مقارنة المسرح بشكل الحياة او الجسم، نقترح في ختام هذا المقال تعريفا للشكل الفني يقودنا إلى القرن الحادي والعشرين : ألا وهو المسرح باعتباره شبكة  . 
ورغم ذلك، دعونا نبدأ بدراسة الاقتباسين اللذين ظهرا في بداية هذا المقال . فكل منهما يقدم معالجة إرشادية لعلاقة المسرح بالجسم و فبالنسبة لأنطونين أرتو، يصبح المسرح نفسه شكل جسدي ؛ وبالنسبة لأليس راينر، يصبح المسرح موقع مجسد embodied site . وهذا يعني في شعر أرتو أن المسرح يشبه الآلية الجسدية التي تنتج تأثيرات فيسيولوجية وسيكولوجية مثل الدورة الشريانية والأحلام في المخ، بينما تفهم راينر المسرح باعتباره جسما وسردابا يحتفظ بمواد ميتة عبر الزمن . وفي أقل من قرن، تتحرك علاقة المسرح الاستعمارية بالجسم من علاقة مركزة علي الترويج لوظائف إعطاء الحياة  لشيء مكرس لحفظ الأشياء الميتة . فكيف حدثت مثل هذه الحركة ؟ 
 ولكي ننظر إلى كيفية اعتبار المسرح جسد حي أو ميت علي مدار القرن الماضي، فان الأمر يتطلب أن نسأل أولا، ما هو الجسم ؟ . الجسم طبقا لقاموس وبستر هو “ المادة الفيزيائية المنظمة للحيوان أو النبات، سواء كان حيا أو ميتا “ وهو كذلك “ شيء يجسد شيئا ما أو يعطيه حقيقة ملموسة “ . وبالتالي، ربما يكون الجسم ذلك الذي يحافظ بدنيا علي الحياة أو الموت، أو ذلك الذي يجسد الأشياء، ويعطي شكلا للواقع الملموس . وقد تناولت العديد من الدراسات في العقدين الأخيرين مسألة كيفية توظيف المسرح بالقياس الي الأشكال الجسدية أو باعتباره شكلا جسديا . فمثلا في كتاب “ مساحات جسدية Bodied Spaces” يقترح (ستانتون جارنر Stanton Garner) أن “ المكان المسرحي مساحة جسدية “ بمعنى أنه يتكون من أجسام موجودة داخل مجال إدراكي، ولكنه أيضا مكان جسدي بمعنى أكثر جوهرية من المعنى الجسدي، الموجه في إطار الجسم الذي لا يوجد  باعتباره موضوعا للإدراك بل باعتباره موقعه الأصلي، أو نقطة الصفر بالنسبة له. كما يلاحظ (جارنر)، فان تصميم منظور المسرح هو في حد ذاته منظور جسدي، مستمد من وجهة نظر الجمهور الذي ينبثق مجال رؤيته من جسمه الحي وتنفسه وبصره . وتعني مناقشة علاقة المسرح بالجسد، بالتالي، أن نسأل كيف يكون الممثلون والمتفرجون والمساحة المسرحية وحتى العمارة المسرحية مجسدين هم أنفسهم أيضا . ويقدم تحليل (جارنر) الفينومينولوجي علماء ذوي مفردات غنية لتناول الصور المجسدة في الممارسة المسرحية، ومع ذلك يدعو إلى دراسة أعمق لما نعتبره إضافة مهمة للاستفسار : كيف نظّرنا للمسرح نفسه باعتباره جسدا، مثل جميع أجساد البشر والحيوان، يتنفس وتجري فيه الدماء ويتكاثر ويموت . هذا المسرح الحي مجازيا لا يتميز استطراديا بأن الموقع الذي يسكن مكانيا الأجسام الحية ( أو الميتة) يقدمها فقط، بل انه أيضا جسما حيا ( وميتا) . 
يدين استفسارنا لدراسة (و .ج. ت ميتشيل ( W.J.T. Mitchell “ ماذا تريد الصور : حياة الصور وحبها What Do Pictures Want? The Lives and Loves of Images”، حيث يهدف إلى إلقاء نظرة علي أنواع الحيوية أو الصلاحية التي تنسب إلى الصور، أو الواسطة أو الدافع أو الاستقلالية أو الهالة أو الخصوبة أو الأعراض التي تجعل تحويل الصور الي علامات حيوية والتي أعنى بها ليس مجرد علامات للأشياء الحية، بل علامات للأشياء ككائنات حية . واذا استبدلنا المسرح بالصور في صياغة (ميتشيل)، فقد ندرك التوصيف المألوف للمسرح كجسم حي أو حيوي، مدفوع بالرغبة والشهية، وتُنسب إليه الخصوبة أو العقم مثل جميع الأجسام حتى موته النهائي . في حين أن ( ميتشيل) يعرض إلى حد ما صياغة دقيقة للصور الي حد ما باعتبارها أشياء حية ولديها رغبة، فغالبا ما يتم استدعاء اختيار الممثلين المتعمد للأدوار في مسرح حي وميت لتمييزه عن الأشكال الفنية الأخرى في الخطاب المعاصر . وكما يلخص ( ستيفن دي بنديتو ) بدقة، “المسرح ليس مجرد شكل من أشكال الفن البصري، ولكنه أيضا شكل موسط وحسي وتحفيزي، حيث تجعل الاستراتيجيات التركيبية للمتخصص من خشبة المسرح كائنا حيا يتنفس . 
في الواقع، من خلال حصر اللغة النقدية الغربية الحديثة، من الصعب العثور علي وصف أكثر انتشارا للمسرح من وصفه بالجسم الحي، اعتمادا علي مكانة حياته الدائمة لاستمرار وجوده وأهميته . تأمل مثلا تأكيد (و.ب. وارزين) أن الدراما يجب أن تقوّم في سياقها الأصلي وفي ثقافتنا علي حد سواء، حيث تواصل المسرحية حياتها، أو ننظر في مكان آخر الي عناوين بعض أهم الاسهامات في مجالنا، مثل كتاب  (ادوين ويلسون ) و( ألفين جولدفارب) “ تاريخ المسرح الحي Living Theater : A History” ( عام 2000) . ومع ذلك يمكن الاستشهاد بالاتجاه في أماكن أقل وضوحا . ففي الإصدار الأول لمجلة دراما ريفيو في الألفية الجديدة، فمثلا وضع (ريتشارد شيشنر) العنوان التالي لافتتاحية المجلة “ المسرح حي في الألفية الجديدة “ . فمن خلال تخليه عن إعلانه المتكرر السابق عن “ موت المسرح”، يقر (شيشنر ) بأن المسرح قد نجا في الواقع في القرن الحادي والعشرين . إذ يستشهد (شيشنر) بفنانين مثل يوجينو باربا، و اليزابيث لو كومت، وروبرت ويلسون، و آن بوجارت، وسوزوكي تاداشي كدليل علي حيوية المسرح.  وبغض النظر عن القديم أو الجديد أو المستعاد يعيش التقليدي/الكلاسيكي جنبا الي جنب مع الشعبي والتجاري والطليعي . وعلي الرغم من أن الإشارات إلى فناني المسرح تضمنت حصريا تقريبا أولئك الذين بدأ مشوارهم في الستينيات والسبعينيات، فان (شيشنر) لا يعزو الفضل في هذا الصمود غير المتوقع للمسرح الي الفنانين ولكن الي المسرح الكلاسيكي الذي تم تهذيبه كشكل متطور . اذ يقول “أثبت المسرح حيويته لأنه قابل للتكيف ومفتوح علي نوع فني أو آخر “ . والمثير هنا ليس أن ( شيشنر) يعكس موقفه السابق ولكنه يفعل ذلك بتمييز المسرح باعتباره حيا ومتطورا علي حد سواء، فهو الوسيط الذي تزيد قابليته للتكيف من فرص نجاته التطورية . 
ومع وضع هذا في الحسبان، ما هو الماضي الذي يستحضره جسم المسرح الحي والميت وما هي التطورات المستقبلية التي يتنبأ بها ؟ وما هي الآثار المترتبة علي المنظور النقدي الذي يعتبر المسرح كائنا حيا مكتملا بجسد يولد ويتكاثر ويموت – والذي يبدو في السنوات الأخيرة أنه – قد يعود من الموت . وقد تطور مفهوم المسرح الحي خلال النصف قرن الماضي عبر المناقشات الأنطولوجية والفينومينولوجية الأساسية حول تميزه عن أشكال الوسائط الحية الأخرى، التي استلزمت تفكك التمييز بين المسرح باعتباره حياة theater as living والمسرح باعتباره حيا theater as live . ومن خلال تتبع هذه التحولات والاتجاهات بايجاز، ربما نكشف عن التطورات السابقة في تاريخ المسرح كجسم وآثارها المستقبلية علي الاتجاهات الجديدة في نظرية المسرح . وفي ختام هذه المراجعة نضع في اعتبارنا الطرق التي أصبح بها مجالنا مشبعا في العقود الأخيرة باستعارة المسرح باعتباره جسما منتجا، وبديلا، وشبحا (وأحيانا الثلاثة معا) مصنوعا، وفقا لمصطلحات ( رولان بارث)، من نسيج من الاقتباسات . وبالتالي يبني مقالنا علي اعتبار كيفية التعبير عن المسرح في الخطاب النظري المعاصر باعتباره جسدا عالقا في مخاض الحياة الآخرة، وهو جسد يظهر مستقبله في أعقاب زواله . 
• المسرح الحي؟
من بعض النواحي، من المنطقي أن نبدأ من النهاية، أو بمعنى آخر،  لكي نتحدث عن حياة المسرح، يجب أن نواجه موته المحتمل . وكما يلاحظ ( ميتشيل)، تصبح تعريفات الحياة صعبة نوعا ما، وبالتالي تتطلب أبسط الصياغات : “ الشيء الحي هو الشيء الذي يموت “ . ولا ينبغي أن يكون مفاجئا، إذن، أن كثيرا من حياة المسرح المزعومة أو تبدو وكأنها تنبع من زوالها المهدد دائما والقائمة الشاملة للضحايا المحتملين مع الوقت . وبنظرة سريعة علي كتاب ( جوناس باريش) “ التحيز المسرحي المضاد Anti-theatrical Prejudice “ ( 1985) يكشف عن هجمات وتهديدات بالموت ضد المسرح، علي حد قوله، “ ليس فقط من قبل الأخلاقيين ولكن أيضا من قبل الفلاسفة الكبار – أفلاطون والقديس أوغسطين وروسو ونيتشه . ويسأل ( باريش) “ هل يشير عدائهم للمسرح الي فشل إنساني أساسي؟” . يستدعي استفسار (باريش) تفسيرين، ولاشك أنه أكثر من ذلك بكثير : إما أن الفشل البشري الذي يشير إليه ينتمي إلى أولئك الذين يشاركون من بيننا في في دعم النموذج أو التقليل منه، أو بطريقة أخرى، ينتمي الفشل البشري إلى وساطة المسرح نفسه . بمعنى آخر، هل هناك شيء في المسرح، إنساني بشكل لافت مثلنا وبالتالي، ربما يتحتم عليه ممارسة السقوط ؟ 
وعلي الرغم من إمكانية تتبع العواطف المسرحية المضادة خلال السجل التاريخي، إلا أن تشبيه المسرح بالجسد الحي تحت التهديد الدائم، في سياق الفترة الحديثة، في المقام الأول، يصبح سائدا ولاسيما في هذا المجال . ويضع ( مارتن بوشنر) حداثة المسرحانية المضادة باعتبارها موجهة، جزئيا ضد الجسم الفلسفي للممثل، مشيرا إلى أن عنف “ الجدل الرمزي ضد وجود الممثل علي خشبة المسرح ربما لا يكون بارزا في أي مكان آخر كما هو الحال في كتابات ( ادوارد جوردون كريج) . ومع ذلك، فمن قبيل المفارقة إلى حد ما، أن التحول إلى تنظير المسرح ليس باعتباره علامة للأشياء الحية، بل علامة علي أنه كائن حي لم تظهر لأول مرة في الحداثة في نظريات (كريج) فقط، بل أيضا في نظريات زميله المسرحي المضاد ( أدولف آبيا ) . فقد تناول كل من ( كريج) و( آبيا) تقاليد المسرح كجسم حي،وكائن حي، بما في ذلك هيكله والدراما والناس والعروض، حتى لو طهرناه من الفيسيولوجيا والفردية الفريدة للمؤدين البشر . وباعتبارهما مصممين للمسرح، فقد تجاهلا غالبا الجسم الفردي المعيب للممثل من أجل الجسم الجماعي المثالي للمسرح . فمن المعروف أن ( كريج) رأى الدمى كممثلين مثاليين لأنهم بعيدين عن الضعف ورعشات الجسم. ولكن حتى في خضم هذه العواطف الفيسيولوجية المضادة، نرى ظهور تحول مجازي استطرادي، ربما يبدأ بشكل بلاغي فقط، في الإشارة الي المسرح كجسم حي . فكتاب (كريج) “ المسرح الحي A living Theater” (1913)، وكتاب (آبيا) “ عمل الفن الحي : نظرية المسرح A Work of Living Art : A Theory of the Theater” (1927) اقتبسا الكائن الحي الذي يمكن تعريفه بشكل أقل كثيرا علي أنه فن ( فاجنر) المركب “ Gesamtkunistwerk” من تعريفه كنسق متكامل للجسم الحيوي الميكانيكي Biomechanical . وقد ذهب ( آبيا) إلى أبعد من ذلك لكي يضم أجسام كل من المتلقين والممثلين ويوحدهما داخل جسم مسرحه العضوي . وقد كتب عن “ الوحدة العضوية “ يقول “ نحن المسرحية والمسرح، لأن جسمنا الحي هو الذي يخلقهما . فالفن الدرامي هو الإبداع التلقائي للجسد، وجسمنا هو المؤلف الدرامي “ . ومن خلال هذه الكتابات وغيرها، غالبا ما خلط (آبيا) بين المسرح والجسم، مقارنة المساحة الموجودة داخل جسم الإنسان بالمساحة الموجودة في المسرح، فنحن لا نملك المساحة فقط، من الناحية الميكانيكية، بل نحن مركزها أيضا، لأننا أحياء . فالمساحة في حياتنا : تخلق حياتنا المساحة ؛ وجسمن يعبر عنها . لا تشير مفاهيم (آبيا) للجسم إلى شخص واحد ( مثل الممثل أو المتلقي الواحد) ولا تشير إلى مكان واحد، بل انها تقترح بالأحرى الي تكوين مجازي يتضمن مجموعة من الأجسام والأماكن . 
ومن جانبه سعى (كريج) إلى صياغة جسم مسرحي باعتباره جسما مثاليا ومنهجيا علي حد سواء . والرسم التوضيحي علي غلاف كتاب “ المسرح الحي”قدم رسما توضيحيا للشكل البشري، المصمم رياضيا في نموذج ليوناردو دافنشي “الانسان الفيتروفيViruvian Man” . وبالعودة إلى رسم ديكارت التخطيطي، فقد جادل (كريج) نفسه (في إشارة إلى الباليه الروسي) أن جوهر الفن هو الجسم الميكانيكي المنفصل عن أجسام المشاهدين : فكمال الجسم مادي . فهو يناشد حواسنا وليس من خلالها . وفي كل كتاباته النظرية تقريبا عن الأداء، حاول ( كريج) أن يستوعب السلطة الجسدية للممثلين في المسرح نفسه، باستبدال ا\لجسام البشرية الفردية بجسم مسرحي آلي . وبالنسبة لهجمات (كريج) علي الأنساق البيولوجية وفيسيولوجيا الممثلين الذين يظهرون ضعف الجسد واهتزازاته، احتفظ كريج بالاستعارة الجسدية وأعاد صياغتها . 
أوضح (تيم أرمسترونج) في كتابه “ الحداثة والتكنولوجيا والجسد “ (1998) الطرق التي حولت بها التكنولوجيا مفاهيم الجسد الحي الحديث من الذات العضوية والحيوانية البحتة الي مجموعة من الأنساق الميكانيكية والبيولوجية : “ في بداية القرن “ يكتب “ كان الجسد آلة تعيش فيه الروح : مكان الطبيعة الحيوانية التي احتاجت تنظيم واع “ . وبتتبع تطور التقنيات الطبية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وضع (أرمسترونج) في اعتباره الطرق التي تحول من خلالها الجسم الي مجموعة معقدة من النظم الميكانيكية الحيوية المختلفة والتي تم تحديدها في مصطلحات الديناميكا الحرارية . وقد طبقت عليه تقنيات أخرى : المخدرات و التطعيم والكهرباء، علاوة علي مختلف الأنظمة الخارجية المعدة لتحسين تركيبته وشكله وتدفق الطاقة خلاله . وقد كان هذا، علي ما يبدو، الجسم الحديث الذي استحضره (كريج) و ( آبيا) عندما وصفا أن المسرح الحي لم يعد يعتمد علي أجسام الممثلين الأفراد، بل تكون كسلسلة من الأنظمة الميكانيكية ذات الطابع الفيزيائي . وبالتالي يتناسب تهجين المسرح، بالعناصر النابضة بالحياة والأنظمة الميكانيكية، مع هذا المفهوم الجديد والحداثي للجسد والذي ربما تم تمثيله بشكل لافت للنظر في مسرحية ( كارل كابيك Karel Capek)  “U.R.U” ( التي كتبها عام 1920 وعرضت عام 1921) . وبالتالي كان المسرح الحي الحداثي البنية المعقدة التي تُمنح  تعقيداتها ووظائفها الميكانيكية من خلال الحيوية . وحتى في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، لاحظ المصمم (روبرت ادموند جونز) في كتابه “الخيال الدرامي The Dramatic Imagination” (1941) أن الدراما ليست محركا يعمل بأقصى سرعة من الافتتاحية حتى إسدال الستارة في النهاية، ولكنها كائن حي . ولكن دفاع (جونز) عن الدراما ككائن حي مرتبط بدفاعه ضد الحداثة المعادية للشك الفيسيولوجي في الجسم البشري المادي للممثل، الذي لا يمكن تنظيم وظائفه أو الحفاظ عليها بشكل صحيح . 
لقد استُغل هذا الجسم المسرحي الهجين بواسطة علماء التكنولوجيا المعاصرين واستمده أرتو بشكل مستحيل في تصريحه “ لا مزيد من الأعمال المسرحية الرائعة” عندما اقترح أن المواجهة علي خشبة المسرح لها مظهرين عاطفيين ومركزين حيويين وجاذبيتين عصبيتين وهي شيء تام وحاسم، مثل لقاء جسدين معا في الحياة . في هذا السياق، يبدو أن المسرح يولد من فعل الالتقاء الجسدي . وبالرغم من كل تناقضاته تجاه الجسد ( بما فيها جسده) يمزج أرتو مرارا وتكرارا مفهومه المثالي للمسرح بالحواس، الجسدية، مما يطمس الفاصل بين المسرح كما يحدث في زمن محدد والحدود الجسدية لمشاهديه . ومع ذلك، تتبع نظرياته عن المسرح كنوع من الجسد (المنحرف) تناقض الحداثيين المسرحيين في أداء الجسم، ويسعى مرة أخرى الي توسيع استعارة الجسد من وجود منفرد إلى مساحة مسكونة أكبر، وهو ما يسمي في مكان آخر “ المصنع الملتهب” . ومن أرتو أخذ (جيل ديليوز) و (فيليكس جواتاري) مفهوم الجسم بدون أعضاء، الذي يقوم علي مسرحية أرتو الإذاعية “ العمل بقضاء الله  “To have done with judgement of God “، حيث حرية الجسد هي الإلغاء الصريح . “ عندما تكون قد جعلت منه جسدا بلا أعضاء، فسوف تكون قد خلقته من كل ردود الفعل التلقائية واستعدته الي حريته الحقيقية “ . وسوف يكون المسرح وأجسامه، كمواقع تدمير مضمونة بشكل متبادل، خشبات مسرح جديدة لأداء الإدراك التكنولوجي . والمسرح الحي، بالنسبة (لأرتو) مثل الجسم الحي، كان فعالا أساسا في أنه يمكن أن يكون فاسدا ويعاني، عن طريق تحويل نفسه من خلال المعاناة . وعلي هذا النحو، أصبح أرتو وسيظل محكا حاسما لاستعارة المسرح الحي في النصف الأخير من القرن العشرين، والتي تحققت في صور المعاناة والأجسام المكافحة. 
ونظرا لخطاب أرتو الممتد عن الألم والمعاناة، فمن المدهش أن كتاباته يمكن أن تصبح مؤثرة ولاسيما في سنوات ما بعد الحرب . ففي مركز المسرح في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية، أدت تداعيات فظائع الحرب العالمية الثانية الى تأكيد مركزية نظرية الحياة في المسرح في الخمسينيات والستينيات . وفي مقابلة أجريت عام 1963، مثلا، يناقش ( روجر بلين ) عروضه لمسرحية (جان حينيه باعتبارها فن المسرح الحي حيث تصبح الأدوات والديكور وجميع العناصر المادية مماثلة للكائنات الحية : 
   خذ مثلا الهاتف . وضعه علي طاولة علي خشبة المسـرح  لا بأس بهذا . ولكني أريد أن يكون هذا الهاتف قادرا علي الكلام . وأن يكون له حياة خاصة به . إذ يجـب أن يكـون كائنا حيا . ويجب أن تكون الأدوات مكونة مما تراه ومـا رأيته . ويجب أن يكون الديكور حـيا ويتحــرك ويتنفـس يجب أن يكون إنسانيا . 
في عالم يتجرد فيه كل شيء من إنسانيته، فربما كان الجواب الوحيد هو استعادة الإنسانية في جميع جوانب خشبة المسرح . بالنسبة ل ( بلين) علي الأقل، قدم فن (جينيه) و (بيكيت) بديلا قويا وفي الوقت المناسب لما سماه الواقعية الغبية في المسرح الشعبي . وهنا، تتماشى موضوعية الإدراك مع الموت، بينما تعزز الذاتية الصفات الحية والإنسانية في المسرح . فمن المؤكد أن تحول ما بعد أينشتاين الي نسبية المنظور قد أثر علي تعريف ( بلين ) للواقعية الشاملة، ومع ذلك فانه بالنظر إلى ما بعد الحربين العالميتين، فان الاقتباس المذكور آنفا يدعو إلى تفسير أيديولوجي أيضا . فإدراك إعداد المشهد علي أنه كيان يمكنه التحرك والتنفس، كما يشير ( بلين) هو بحد ذاته فعل تحريري يمكن كسر كل القيود من خلاله . وليس من المستغرب، إذن، أن أنانية مسرح ما بعد الحرب واستحضارها لمكوناتها (التليفون والديكورات) حية  أو إنسانية، يؤدي مباشرة إلى الثقافة المتطرفة في الستينيات بتأكيدها القوي علي الحياة، والبعد الجسدي للمسرح باعتبارهما أحد أدواتها السياسية القوية . 
ليس المحتوى مجرد صورة سلبية أو تشبيه أو تمثيل آخر للحياة، فالمسرح نفسه  يبدأ في فترة ما بعد الحرب ليأخذ خصائص ومميزات وسمات ووساطة الجسد الحي المتكاثر والميت . وبجانب هذا التحول المفاهيمي، يمكننا العثور علي إلحاح سياسي يوجه هذا التصميم التنظيري، كما تدعي ( اليزابيث جروسز) في كتابها “ الأجسام المتقلبة Volatile Bodies “ (1994) : “ بعيدا عن كون الجسد مصطلحا خاملا وسلبيا وغير ثقافي وغير تاريخي، فيمكن رؤيته كمصطلح حاسم، وموقع التنافس، في سلسلة الصراعات الاقتصادية والسياسية والجنسية والفكرية “. وبإعادة إحياء الجسد في الخطاب المسرحي فيما بعد الحرب كجسم حي، يصبح المسرح التضاريس المجازية الممزقة من خلال أعمال تمزيق وتشويه هادفة ألحقها به أولئك الذين يحاولون تحدي حيويته . وكما يتكهن ( هانز ثيز ليمان )، “ لم تكن فكرة التشابه هي التي حفزت المقاومة المتحفظة الشديدة ضد نزعة الحداثة نحو التفكيك والمونتاج “، وكأن الهجوم علي شكل الفن المتكامل بحد ذاته هجوم علي الإنسان . 
والأكثر شهرة، أن ( جوديت مالينا ) و (جوليان بيك ) مجموعتهما المسرحية المنسوبة إلى ما بعد أرتو بعنوان “ المسرح الحي “ 1949، ولاحقا أطلق (بيك) علي سيرته الذاتية عنوان “ حياة المسرح “ 1972، وهو ما يظهر في العنوان لإلقاء الضوء علي حياته الخاصة كحياة للمسرح ذاته . وحتى النظرة الخاطفة علي عناوين هذه الحقبة  كشف عن انشغال بارز بإلحاق المسرح كأجزاء مصاحبة لجسمه الحي . علي سبيل المثال كتاب ( ألآن س دونر ) “ حياة تصميماتنا The Life of our Design “ (1949)، وكتاب “ المسرح الحي The Living Theater” تأليف ( المر رايس )، وكتاب “ حياة الدراما The Life of the Drama” تأليف ( اريك بنتلي) (1964) ومقال ( بيتر بروك ) “ المسرحية هي الرسالةThe Play is the Message “ (1965) . اذ يجادل ( بروك ) في صياغته الأيقونية “ يجب أن نحاول اكتشاف المسرحية ككائن حي، ثم نستطيع تحليل اكتشافاتنا “ . ظهر هذا الاتجاه الذي يؤكد علي حيوية المسرح أو الشيء الحي في العديد من التكرارات بما في ذلك تلك التي أكدت علي الخصائص الحية لكل من الممثلين والجمهور، مثل اشادة ( روبرت بروستيان) بالمسرح الحي عام 1959 في عرض  مسرحية “ الليلة نرتجل Tonight We Improvise”  تأليف (بيرانديللو) “ لفهمها الفريد أنه لا يمكن أن يوجد مسرح حي بدون جمهور حي “ . وقد أدى هذا النقد إلى استمرار الحس النقدي للمسرح نفسه باعتباره كيانا حيا شبه مستقل وعزز اعتبارات المسرحيات المستقلة والعروض وحتى دور المسرح نفسها كجزء من الجسم الحي للمسرح . 
   ................................................................................
 • سارة باي شينج تعمل أستاذا مساعدا وخرجا لدراسات التخرج في المسرح بجامعة بافلو،  ومن أبرز كتبها “ تحديد القصدية في الأداء Mapping |Intentionality in Performance “ 2010 
 • آمي ستراهلو هولزافيل استاذ مساعد المسرح في ويليام كولدج . وأهم كتبها “تأثيرات الواقع : المسرح في فجر العصر الفلسفي Reality Effects: Theater in Dawn of Philosophic Age “ 


ترجمة أحمد عبد الفتاح