الرقابة والرقيب الداخلي في المسرح

الرقابة والرقيب الداخلي في المسرح

العدد 761 صدر بتاريخ 28مارس2022

تظل الرقابة تطارد المبدعين من الكتاب حتي في مجرد عنوان النص فقد أصرت الرقابة على إلغاء عنوان مسرحية «السفيرة عزيزة» 2015 والمنشورة عام  2008 (كتاب المرسم الإبداعي) من تأليفي ..حتى لا يعترض صانعوا الفيلم السينمائي «السفيرة عزيزة» 1961، بحجة (الملكية الفكرية) فيتحول العنوان إلى «السفيرة» رغم أن أوبريت «عزيزة ويونس» التي كتبها شاعرنا الكبير (بيرم التونسي) و التي عرضت في القاهرة عام 1945 -ومن قبلها عرض «السفيرة عزيزة» من (مسرح الصلات) من تأليف وإخراج : عبد النبي محمد (1936)، وكذلك مسرحية «السفيرة عزيزة» تأليف عبد العزيز عبد الظاهر وإخراج عبد الرحمن الشافعي(2005)، والرقيبة لا تدري!! ويا للعجب!! 
ونبدأ بالإشارة إلى رسالة الدكتوراة التي قدمتها (د. وفاء كمالو) بعنوان “الإبداع المسرحي وسلطة الرقابة” 2002 والرقابة والمسرح في الستينيات، وتاريخ الرقابة على المسرح المصري قديم بدأت بالوزارات الأمنية حتي وصلت إلى وزارة الثقافة، وتنتهي (د.وفاء كمالو) في أن (سلطة الموروث، وسلطة النص المقدس، وسلطة الأنا العليا الذي يمتد ألياته عبر القهر،والقمع، والمنع.. المعلن إلى الموروث، وسلطة النص المقدس (أي الدين) وسلطة الأنا العليا، والحس العام، وأنها جميها عوامل قد تضافرت لتبحث في أعماق (المبدعين) رقيبا أشد قسوة وصرامة من أجهزة المنع السافرة، ولذلك فإن المبدع المفكر الجرئ الذي يمتلك مقدرة تجاوز رقيبة الداخلي، سيدفع الثمن بلا تردد...
وتستشهد (د. وفاء) في هذا السياق بما يقوله الروائي (إدوارد الخراط) 1926- 2015 (بفشل الجهود التنويرية التي استغرقت من ثقافتنا سنوات هذا القرن كله «القرن العشرين والواحد والعشرين”، وسقوط مشروع العقلانية والحوار المفتوح أدى إلى نكوص كبار المفكرين الذين تصدوا لهذه المهمة الفكرية عن التمسك بالحرية بكل معانيها، وقبولهم التنازل، مرة بعد مرة.. مما يكاد يفضي بنا الآن إلى براثن الظلامية والردة الحضارية، وإذا كان (الأخر) في ميدان الثقافة والفكر والإبداع، ظلاميا قمعيا، لا عقلانيا بادراك أن الحكم الوحيد هو (العقل).
 وتتفق (د. وفاء كمالو) في الرواية التي يطرحها إدوارد الخراط التي تؤكد علي أن غموض مفكرينا ومثقفينا عن التمسك بالحرية، وقبول للتنازلات سيفضي بنا إلى الظلامية والردة الحضارية بالفعل، حيث قد تحققت هذه الرؤي حين يشهد واقعنا الثقافي الآن حضورا بارزا لردة فكرية ومخيفة تتبلور عبر أحد قضايا التفكير والتفريق المرفوعة التي رفعت ضد الراحلة (نوال السعداوي) 1931 -2021  وفي هذا الإطار أقام اتحاد الكتاب ندوة حول (حرية التعبير) تضامنا مع نوال السعدواي، وزوجها (شريف حتاتة) بعد دعوى التفريق بينهما، وقد نشرت وقائع الندوة في جريدة «الوفد» بتاريخ 19/6/2001، وجاء فيها (أشار د. سيد البحراوي رئيس لجنة الحريات بالاتحاد إلى أن اتحاد الكتاب يرفض المساس بعقائد المبدعين والجماهير، وأن مواجهة الفكر تكون بالفكر، وأوضح (إبراهيم الدسوقي) عضو الهيئة العليا بالوفد أن المنظومة السياسية في مصر فاسدة وهي التي فتحت الطريق لمثل قضية نوال السعداوي، وطالب بمراجعة شاملة للتشريعات المتعلقة بحرية الرأي، وطالب الكتاب والمفكرين أن يتضافروا من أجل إجراء إصلاح سياسي بمصر .
وأكد المفكر الإشتركي (أحمد نبيل الهلالي) 1922 -2006  أن الدستور المصري مزدحم بالنصوص التي تكفل الحرية لكن الممارسة تحول النصوص) لواضحة إلى نصوص شائهة، وقال: أن فلسفة المشرع في حرية الفكر تتلخص في أن يفكر المواطن كما يشاء، وأن تعبيره يكون كما يشاء الحاكم، وأن يظل تفكيره محصورا داخل عقله، ويحذر من الاسترسال، وعلى المستوى الثقافي شهدت الفترة (1959-1964) العداء السافر للرؤي اليسارية، و يسفر ذلك عن أسباب الاضطهاد والقمع التي تعرض لها المفكرون والمبدعون التي حملت رؤاهم ملاحما نقدية، وفي إطار الكشف عن أبعاد دلالات الممارسة الرقابية تأتي شهادة (رأفت الدريري) (1937-2018) الذي يقول: (تعتبر مسرحية “كفر التنهدات” هي أول مسرحية أحقق بها موهبتي كمؤلف مسرحي بالرغم من تأثرها بمسرحية «أليكثرا” (إيسخلوس) و”الذباب” (لسارتر)، وهي تدور حول طاغية يُقتل، ويدور البحث عن القاتل، وقد تحمس المخرج(كرم مطاوع) لإخراجها، ولكن لأسباب خفية أرسلها إلى مسرح الطليعة -وقتئذ- بتقرير للرقابة يوحي لها بضرورة رفض المسرحية لان الطاغية في النص هو (عبد الناصر) وبالفعل رفضت المسرحية بناء على تقرير رقابي بان النص يدور حول أي شخصية الحاكم عبد الناصر، وكما جاء في مقال (د.رفعت السعيد) بعنوان (الحركة الشيوعية وانعكاساتها علي الصراع السياسي في الوقت الراهن) مجلة (قضايا فكرية – ص(29) ويشير الكاتب المسرحي (رأفت الدويري) أن الجهة المنتجة وهي مسرح الطليعة التي قدم لها مسرحيته (جسر التنهدات)، وأن المسرح تبني منظور السلطة والقمع والمصادرة التي تتبناه الرقابة، وتعتبر هذه الالية هي إحدى السمات المميزة للعقلية المتخلفة، وتُعرف بظاهرة (التماهي بالمتسلط) ويمكن تفسيرها من خلال الدراسة النفسية للمجتمعات المتخلفة -  حيث يشير (د.مصطفي حجازي) أستاذ علم النفس إلى هذه الظاهرة قائلا (يشكل التماهي بالمتسلط أحد المظاهر البارزة في مسعي الإنسان المقهور لحل مأزقه الوجودي من خلال التشبه بالمتسلط، وتمثل عدوانيته وطغيانه،ونمط حياته وقيمة، والتماهي بالمتسلط هو أقوى عوامل مقاومة التغير، وهو عملية لا واعية تتلخص في تمثل وجود الأخر، وبناء الذات علي هذا النسق، وجهه من أوجه وجود الأخر) (مجلة فصول عدد (3)) 1991 (مصطفي حجازي «التخلف الاجتماعي سيكولوجية الإنسان للقهر)
وعن (الرقيب الداخلي) الذي هو أنكي وأشد وأكثر بشاعة من جهاز الرقابة الرسمي يشير الكاتب المسرحي الكبير(محمد أبو العلا السلاموني) إلى تجاربه مع هذا الرقيب الداخلي) في كتابة «تجربة الكاتب المسرحي» «سيرة ذاتية» ليروي تجربته في اقتباس مسرحية (أرثر ميللر) بعنوان «السحرة» 1975 - لكنها أوقفت بعد عدة أيام بتهمة الشيوعية بقرار من رئيس هيئة المسرح وكذلك أوقفت لنفس المؤلف مسرحية «الأرض والمغول» 1976  لان احد المسئولين في الثقافة الجماهيرية في ذلك الوقت (محمود سامي) قرر إيقافها، وظلت ممنوعة لمدة عقدين من الزمان لأن (السلاموني) قد سبق اعتقاله في بورسعيد أثناء عرضة لمسرحيته «رواية النديم في هوجة الزعيم»، ويتوالي مسلسل الإيقاف لمسرحيات (السلاموني) مثل “المزرعة”  1971 إخراج عباس احمد،  وبعدها بسنوات “أبو نضارة” 1983 في مسرح الطليعة بحجة أن بطل النص يهودي وماسوني وليس رائد المسرح المصري -  رغم أن (المؤلف تعاقد عليها وتقاضي أجرها، وبعد عشر سنوات منعت له مسرحية «أمير الحشاشين» 1933 وكانت من إخراج المخرج الكبير (سعد أردش)، وكذا مسرحية “رسائل الشيطان” التي لم تعرض بعد أن كون رئيس قطاع الفنون الاستعراضية لجنة أخرى داخلية بحجة الخوف علي المسرح أن يهاجمه الإرهابيون.. رغم أن الرقابة وافقت عليها!!
وفي عام 2002 -  كتب السلاموني مسرحيته «الحادثة» التي جرت في شهر سبتمبر التي طاردوها بين المسارح إلى أن استقرت في مسرح الطليعة ليتم عرضها أمام مقاعد خالية وكانت تتناول أحداث ضرب برجي التجارة العالمية في نيويورك..
ولنستشهد برأي الكاتب المسرحي (سليم كتشنر) “مسرحيون في الحركة الوطنية“ هيئة الكتاب –2017 والتي ينتهي فيه إلى (من النتائج المهمة لهذه الدراسة-  رصد تجارب مسرحية حوصرت، وتمكن أعداء المسرح أعداء الثقافة والفكر من وأدها فلم تخرج للنور أو عرضت لليالي معدودة ثم تمكنت احدي الجهات من إيقافها، فالأمن يتدخل أحيانا لإيقاف بعض هذه التجارب المسرحية، وفي أحيان أخري تتدخل الرقابة لمنع العرض، أو يمثل مديرو المسارح رقابة من نوع خاص ويتطوعون لإيقاف بعض هذه العروض .. غير أن المثير للأسئلة انه في أحيان كثيرة تتوقف العروض لأسباب غير معلومة).
ويشير الكاتب (سليم كتشنر) إلى رصد بعض ملامح هذه الظاهرة وهي : أولا : عروض تدخلت الجهات الأمنية بشكل مباشر لمنع عرضها أو إيقاف عروضها مثل عرض رواية «رواية النديم عن هوجة الزعيم»  من تأليف محمد أبو العلا السلاموني، وإخراج عباس احمد لفرقة قصر ثقافة بورسعيد، حيث داهمت الشرطة المسرح في ليلة الافتتاح ديسمبر 1974، والقت القبض علي المؤلف والمخرج وكافة عناصر العرض، وعرض لم يُذكر عنوانه الكاتب من أشعار حلمي سالم، وإخراج سامي صلاح، وبطولة حياة الشيمي وكان مقررا عرضه في (قاعة ابورات) بالقاهرة في 1973، وحاصرت قوات الأمن القاعة، وتم منع العرض لان المشاركين فيه يساريون، وعرض “النار والزيتون” لمنتخب جامعة عين شمس تأليف الفريد فرج، وإخراج محسن حلمي  علي مسرح محمد فريد بمناسبة (لقاء ناصر الفكري عام 1976 وكان من المفروض عرضة لثلاث ليال متوالية، وتدخل الأمن ومنع العرض بعد ليلتين، وعرض «محاكمة الست اللي اكل دراع جوزها» إخراج محمد سمير حسني لفرقة بني سويف القومية عام 1976 فتدخل الأمن بشكل مباشر ليلة البروفة الأخيرة والغي العرض، وعرض «الندم» من تأليف وإخراج (عباس أحمد) لفرقة بورسعيد وتدخل الأمن بشكل مباشر بعد البروفة الأخيرة وأوقف العرض، وعرض «عسكر وحرامية» لألفريد فرج» وإخراج عباس احمد الذي كان يعرض في شوارع بولاق الدكرور وتدخل الأمن وأوقف العرض بعد عشر ليلا فقط، ثانيا عروض تدخلت الرقابة علي المصنفات الفنية بالرفض أو إيقاف العروض بعد افتتاحه مثل عرض «الباسبور” 1973 لفتحيه العسال علي مسرح السلام وبطولة (سميحة أيوب) واخرج (رشوان توفيق) وأوقفته الرقابة بعد عرض ليلة واحدة، وعرض “ابو ذر الغفاري” تأليف السيد حافظ وإخراج عباس احمد لفرقة السامر وأوقفته الرقابة بعد (14) يوم عرض فقط. ثالثا: عروض تطوع مدير المسارح لإيقافها وهي: عرض «سيف الله» تأليف أبو العلا السلاموني، وإخراج  حافظ احمد حافظ،علي مسرح الطليعة 1979 وتدخل مدير المسرح وأوقف العرض بعد البروفة الأخيرة، وعرض “أمير الحشاشين” تأليف أبو العلا السلاموني عام 1993، وتدخل المدير وأوقف البروفات بعد اكتمالها، وعرض «المحروسة2014» تأليف سعد وهبة، وإخراج مراد منير بالمسرح القومي 2014  بطولة (سميحة أيوب)، وأوقف  مديرو المسرح العرض بعد ستة  شهور من البروفات المرهقة، رابعا: عروض توقفت لأسباب غير معلومة وأهمها عرض «اللجنة» عن رواية (صنع الله إبراهيم) وإخراج مراد منير لفرقة المسرح الحديث عام 2008 بطولة (نور الشريف) وتوقف افتتاح العرض بعد ستة اشهر من البروفات الجادة، وعلل مراد منير ما حدث أنه نتيجة مشهد في المسرحية كان (التوريث) في عصر مبارك.. بينما تواتر في أوساط المثقفين أن ما حدث كان عقابا (لصنع الله إبراهيم)-  الذي رفض (جائزة ملتقي القاهرة للرواية العربية) في أكتوبر 2003 -  معللا رفضه (لأن الجائزة صادرة عن حكومة غير قادرة على منحها) - معلنا إدانته لأوضاع مقلوبة إذ تحتضن القاهرة سفارة لإسرائيل وسفارة للولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الذي يُذبح فيه العرب في فلسطين والعراق ومسببا الحرج للحكومة المصرية ولوزير الثقافة الذي كان حاضرا الاحتفال في دارا الاوبرا المصرية.
وهنك سلطة أخرى تدخلت لمنع بعض العروض وهي (الازهر الشريف) مثل تأثر الله -أو الحسين شهيدا» 1989، تأليف عبد الرحمن الشرقاوي، وإخراج كرم مطاوع في المسرح القومي، وعرض «سيف الله» أو «خالد بن الوليد» 1979 تأليف أبو العلا السلاموني، وإخراج حافظ احمد حافظ في مسرح الطليعة بحجة منع ظهور الصحابة والشخصيات المقدسة علي خشبة المسرح،أما عرض « وعليكم السلام» أو « عفوا أيها الا   « 1991، تأليف (نبيل بدران)، وإخراج فهمي الخولي، والذي كتب هو نفسة تقريرا – بعد إجراء عدد كبير من البروفات لعدة أيام حضرها عدد كبير من الجمهور يقرر فيه كمدير للمسرح انه غير مسئول عن عرضة لأنه تتناول موضوع السلام مع العدو الإسرائيلي، وتكررت الواقعة مع الكاتب الكبير (محمد أبو العلا السلاموني) في عروض “أمير الحشاشين”  1992 بسبب تعرضه للجماعات الإرهابية، و(ابن دانيل الذي تعاقد علي انتاجها وقبض اجرها ولم تقدم علي خشبة المسرح، و” أبو نضارة” عن يعقوب صنوع، 1987 حدث نفس الشيء كما حدث في المسرحية السابقة، و” الحادثة” اللي جرت 2002 التي تم دفنها منذ الليلة الاولي في مسرح الطليعة لأنها تتناول موضوع الهجوم على برجي التجارة العالمي في أمريكا.
وتذكر الناقدة (د. وفاء كمالو) في رسالتها للدكتوراة التي سبق الإشارة اليها أن الرقابة في الستينيات والسبعينيات إلى بعض العروض التي منعت في البداية، وتمت الموافقة على عرضها فيما بعد مثل (المحروسة، السبنسة، وبير السلم) لسعد وهبة وفي الستينيات والسبعينيات، «عفاريت مصر الجديدة» لعلي سالم، و«البغل في الإبريق» لفايز حلاوة، و«المسامير» و«سبع سواقي» لسعد وهبة، «زعيط ومعيط» ليسري الجندي، «وشحتوت في المصنع» لصالح سعد .
وأخيرا ذلك (العرض الموؤد) «اللعبة» لمنصور محمد، ومصطفي عبد الحميد 1991 -  الذي توقف عرضة بعد ليلة افتتاح المهرجان الدولي للمسرح التجريبي 1991  لأنه يحمل بعدا نقديا وسياسيا، وضاع مخرجة  شهيدا لهذه الواقعة، وحتي في مسرح القطاع الخاص الذي قدم فيه أبو العلا السلاموني أيضا مسرحيته « المليم بأربعة»  وتم إيقاف العرض خوفا من المخرج وصاحب المسرح (جلال الشرقاوي) من أن تهاجمه الجماعات الإرهابية التي هددت بإحراق المسرح، كما يقول، وهلم جرا، ولنذكر أن السلطة سمحت بمسرحية «كوميديا أوديب» أو «انت اللي قتلت الوحش» ما بعد هزيمة 1967  المنكرة، التي تقدم بعد وموافقة النظام نظرا لظروف الهزيمة،  وتغاضت عن النقد اللاذع للسلطة لكي ينفس الشعب عن غضبة بالضحكات من الهزيمة المرة !!!


عبد الغنى داوود