العدد 888 صدر بتاريخ 2سبتمبر2024
ما بين دلالات العرض المسرحى والدلالات التى تظهر هموم وشخصية المخرج تكمن الحقيقة، فكونك مخرج مسرحى هذا شيء مهم يتطلب الكثير من الجهد والخبرة ولكن الأهم أن تصنع فارق ،هذا الفارق الذى ينبع من تجربة ذاتية أو إقتناع تام بما قررت تقديمه إلى الناس ، كأنك تقول ..هذا ليس عرضى المسرحى ولكن هذا أنا، لذلك فى العرض المسرحى “سفر الرؤيا” لفريق “مودرن تياترو..مشروع صوفى” بقيادة المخرج “طارق عزت” جاء التعريف واضح بما يملكه “طارق” من قناعات تنم عن إنسان له من الهموم والأهداف ما يستحق الحياة ليبعث لنا من كتاب الموتى طريق جديد للنهار.
كيف بدأت «التغفيلة؟
فى معجم المعانى الجامع تجد جملة “غفَله عن الشيء” بمعنى“ أذهله عنه،جعله غير منتبه لما يجب الإنتباه إليه”، وهو ما بدأ به المخرج عرضه المسرحى «عن كتاب الموتى –مقدمة إبن خلدون-مختارات من الفلسفة الصوفية_قانون ماعت “ ليرسم لنا كيف تكون «التغفيلة»، من خلال «مولانا العابد العاصي التائب مولانا الجويلى بن عيسي بن يونس حبيس الحوت” ..هكذا كتبت فى الدعاية للعرض عن مقام هذا الرجل العابد العاصى التائب الذى مع قليل من البحث عنه تجد أن لا وجود له من الأساس ، هنا قرر طارق صنع تغفيلة مزدوجة ما بين تغفيل شخصيات العرض بمقام»له بوابة بين عالمين» خالى من أى شيء له قيمة ظلوا لسنوات يقصدونه طالبين التبريكات وبين تغفيل الجمهور فى قصة تبدأ أمامهم بشخصية مولانا الذى يستحوذ على كل عناصر العمل متحكما فى السرد والقصة ومفاتيح الحكايات فتنكشف لهم التغفيلة فى النهاية عن زيف وكذب بل وجريمة قتل أيضا ،ويتم تغليف هذا كله برائحة التصوف ودمجها فى حالة روحانية مع الرقص المعاصر، حتى أن أحد ممثلى العرض يمسك قنينة تحتوي على عطر ما ويعطى للجمهور نفحة منه على أياديهم،وهو طرح ربما ليس جديداً عن وهم أضرحة الأولياء ،ولكن المختلف هنا هو أن هذا الوهم يتحكم فى مصير العديد من البشر حين يرفضون إعمال العقل والإكتفاء فقط بما تسلموه من أجيال سابقة..مع إضفاء أجواء لمصر القديمة يحكم الصراع داخلها قانون ماعت.
كيف ينجح عرض مسرحى بدون إمكانيات؟
«الشاطرة تغزل برجل حمار» ..ورغم تحفظى على عدم منطقية هذا الفعل ،لكن المغزى منه هو كيفيه إستثمار أقل الإمكانيات المتاحة لصنع شيء ما ، فيبدأ “سفر الرؤيا “ داخل قاعة مستطيلة لا تصلح من الأساس لمثل هكذا عروض فلا إمكانيات صوتية ولا إضاءة ولا خشبة مسرح ولا ..ولا .. ولا شىء، فقط مجموعة من الممثلين بملابس لشخصيات مختلفة من عصور مختلفة ولكل منهم دلالته التى نفهمها توالياً مع مرور وقت العرض،ومعهم بعض قطع الديكور ..فى العمق باب منقسم يفتح ويغلق وأمامه ما يشبه “الشاذلونج” المزدوج وعلى اليمين فى منتصف القاعة “نصبة شاى وقهوة” مع إستخدام بعض مقاعد الجمهور ضمن الإحداث ،وبعض الأقمشة الفرعونية معلقة على الجدران..هكذا هى الإمكانيات وفقط، وما يستحق الإشادة هو إستخدام كل شيء منها بدقة ومنطقية تتماس تماماً مع الرؤية الإخراجية ،ليقتحم عقلك من بداية العرض السؤال المنطقى «ماذا لو أتيحت إمكانيات أكبر لمثل هكذا عروض؟”.
تمثيل الهواة بدقة الإحتراف
طريقة الكتابة التى قرر إستخدامها مخرج العرض وضعته فى مأزق كبير صعبت عليه مهمة تسكين الأدوار بشكل يظهر الإمكانيات الحقيقية لكل ممثل ،فهذا النوع من طريقة الدمج لجمل حوارية بين الواقع والخيال والعامية والفصحى تجعل الممثل تائه بعض الشيء فى كيفية قراءة أبعاد الشخصية التى يجب أن يفهمها ..ليعرف من أين يأخذها وإلى أين يصل بها،لذلك كان الأداء التمثيلى لكل ممثلى العرض بلا إستثناء أكثر من جيد لتمكنهم من كيفية رسم الملامح لكل شخصية بإجتهاد شخصي ،ربما أراد المخرج عن قصد إختبارهم فى ذلك وربما لا،ومن العلامات المضيئة فى التمثيل بالعرض كانت «مريم راضي “ التى قدمت دور “ ماعت» بأداء غاية فى الدقة متمكنة من صنع التوازن المطلوب ما بين الحركة الجسدية وتعبيرات الوجه المناسبة والأداء الصوتى، ويصاحبها فى أغلب مشاهدها بأداء يبدو مفاجأة بالنسبة لي «طارق عزت» كاتب ومخرج العرض فى دور “المعتصم” ، ورغم إجادته فى الأداء إلا أننى لا أفضل بشكل شخصي تعدد هذه المهام لشخص واحد، لأنه أمر ضد التركيز الحقيقي مهما كان هذا الشخص متمكن من أدواته، فرغم إجادة طارق عزت للتمثيل وتمكنه من أدواته إلا أنه كان هناك بعض “الهنات “ الصغيرة مثل تعبيرات وجهه ونظراته التى كانت في أحيان قليلة لمخرج العرض وليست للشخصية التى يؤديها، فربما لم يجد ممثل تتناسب إمكانياته مع هذا الدور ،أو لقلة إمكانيات العرض أراد التواجد بين الممثلين لمساندتهم أو وضع حل سريع لأى مشكلة تحدث،ومن المواهب الهامة فى العرض الممثلة”سوسن محمود” التى قدمت دور “الخالة ماريا” جالسة أحياناً على “نصبة الشاى” تصنع القهوة ل”يحيي” الذى قام بدوره بإجادة الفنان”باسم بوكا”، وأحيانا أخرى تسرد لهم الحكايات ،ثم راقصة تدور معهم لتشاركهم أفراحهم وأتراحهم، يحسب أيضاً للمخرج الإستعانة بمواهب حقيقية رغم أنها المرة الأولى لهم فى عالم التمثيل ومنهم “ محمد زكريا” الذى قام بدور”وجيه” هذا الشخص المتسلط الأناني الذى يرغب فى الحصول على كل شيء ملك لشخص أخر، ليقدم لنا مشهد يغوص فى الواقعية عن تسلط الرجل وعناده فى الحصول على إمرأة ترفضه ،كما فعلت “كريمة” التى قدمت دورها “نورا مجدى” بإتقان شديد يخطف الأنظار ،ويتعمد “وجيه” التغافل عن “حليمة” التى تحبه وترغب فى إسعاده دون إكتراث منه وأدت دورها الفنانة”إنجى سامى”،فى نفس التوقيت الذى تقوم فيه”كريمة” بحث الشيخ”جميل” على التقرب منها دون خجل أو تردد ليرضخ لها هذا”الشيخ” فى النهاية والذى قام بدوره الموهوب”احمد حسن”، ويقدم لنا المخرج مفاتيح أخرى للإجابة عن تساؤلات يطرحها العرض من خلال شخصية «صحراء» زوجة المعتصم الشاهدة على الكثير من الأحداث لتحمل مع نهاية العرض بعض الإجابات لم تم طرحه من بداية العرض وقدمت هذا الدورالفنانة” دينا سيد” والتى يبدو من تمكنها فى الأداء أنها صاحبة موهبة كبيرة فى التمثيل، وتشاركها فى طرح هذه الإجابات إبنتها”زينب العرش” التى قامت بدورها “مروة خالد” لتقدم لنا وصلات متتالية من الموهبة سواء فى التمثيل أو التعبير الجسدى، والشخصية الأخيرة هى “ قطر الندى” هذه الفتاة التى لا تعرف ماذا تريد وما هدفها فى الحياة، ونحن أيضا لم نعرف.. ، وقدمتها ببساطة دون إفتعال الممثلة «دعاء عكاشة» التى يبدو أن لديها الكثير لم يخرج بعد.
التجريب فى فضاء مغاير
يظل اللغط مستمر فى عالم المسرح عن معنى واضح للتجريب فى المسرح، ولأن التجربة ”أى تجربة” تخص صناعها فليس من الضرورة أن يراها المتلقى كذلك، إذا نحن أمام واقع أن اللاتعريف للتجريب هو الأقرب للمنطق”من وجهة نظرى”، وفى “سفر الرؤيا” يجرب “طارق عزت” فى كل العناصر تقريباً، فلا نص مسرحى مكتمل من البداية وبالتالى لا تحديد لأبعاد الشخصيات والخطوط الدرامية بشكلها المعهود،ولا إلتزام واضح بديكور يفرضه النص المسرحى، فيمكن ببساطة إستبدال بعض ملابس الشخصيات بملابس أخرى دون خلل بأهداف الشخصية التجريبية، وينسحب ذلك على الديكور والإكسسوارات وباقى العناصر، تأتى هنا المغايرة فى فضاء تجريبى مختلف صنعه المخرج ليعلن بوضوح للجمهور” أنا أجرب معكم وبكم .. لا يتوقع أحد أن يرى عرض مسرحى تقليدى مكتمل الأركان فلا شيء بيننا فى الحياة مكتمل الأركان.. ولكن هى بنا نجرب سوياً»..لنجد أثناء العرض كيفية تطويع عناصره بما يتناسب ومكان العرض، ليجعله من العروض المسرحية التى يمكن عرضها على خشبة مسرح أوفى قاعة وربما فى الشارع أو حتى فى غرفة بالمنزل، أن تغامر بكل هذه التفاصيل المغايرة معاً وتحيد عن السائد فأنت تضع نفسك فى مهب الريح، لأن بحر التجريب تتلاطم فيه الأمواج على الدوام، فهل يملك “طارق عزت” ما يجعله واقفاً بثقة فى المنتصف ما بين اللانهاية لبحر ثائر وبين الشاطىء البعيد.. لننتظر ونرى.
التجربة المسرحية ”سفر الرؤيا” لفريق “مودرن تياترو-مشروع صوفى” للمخرج “طارق عزت”، شارك فيها ستايلست «انجى سامى»، كوريوجرافيا « احمد برعى”، إضاءة”سارة ممدوح”، ماكياج ”مريم راضي”، تصحيح لغوى ”منة هاشم” و”محمد زكريا”، مساعد مخرج ”مريم راضي”، تدريب الرقص المعاصر ”أحمد حسن”، مخرج منفذ ”إسراء محمد”.