العدد 786 صدر بتاريخ 19سبتمبر2022
تظل قضايا المرأة ومعاناتها هي شغل شاغل بين شعوبنا العربية مهما اختلف الثقافات واللغات ما بين الشرق والغرب، فالمرأة طرح ذو إشكالية معقدة نتيجة ضعفها الإنساني وسطوة التفكير الذكوري في مجتمعاتنا واستغلال ضعفها في العالم أجمع لاسيما مع الأنماط الاستعمارية. من هنا كان الطرح الرئيس للعرض المغربي “شا طا را” رغم اختلاف ثقافة المغرب العربي عن بقية الشعوب العربية نظرا لقربهم من الدول الأوروبية لاسيما ارتباطهم بشمل وثيق بفرنسا وثقافتها. لكن ذلك لم يمنع من وجود نفس المشكلات والمعاناة المتأصلة في محيطنا الجغرافي والإقليمي. حيث تبحث المرأة دائما عن شخصيتها وذاتها في مجتمع منغلق على أفكار بائدة إلى حد كبير.
قدمت مسرحية «شا طا را» ممثلة لدولة المغرب ضمن عروض مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته التاسعة والعشرين. وهو من إخراج/ أمين ناسور .تتحدث المسرحية عن ثلاث شخصيات لثلاث نساء مهاجرات: “شاني” و”تاليا” و”ربيعة”، لتقديم ثلاث حكايات منفصلة ومتداخلة في الوقت نفسه، أبطالها نسوة لكل واحدة منهن حكايتها ومعاناتها الخاصة. الأولى (شاني) تمثل أفريقيا وهي جنوب صحراء أفريقيا. و”تاليا” مواطنة من الشرق و”ربيعة” مواطنة من المغرب. التقوا معا في ملجأ في أوروبا. و”شا طا را” هو مصطلح باللغة المغربية أو الأمازيغية يعني سوق الروبابيكيا أو الأشياء القديمة المستعملة.
وفيه تم تركيب الثلاثة اقصص للشخصيات لثلاث بثلاث لغات وثلاث أبعاد لكن بمصير مشترك حيث تجمعهم فكرة المرأة المهاجرة. والحديث هنا عن مشاكل المرأة في المجتمع مثل العنف ضد المرأة ومشاكلها الاجتماعية والاقتصادية. فتلتقي تلك الثقافات الثلاث ليكتشفن في النهاية أنه يجمعهن هم واحد, وأن قضية المرأة المهاجرة ليست قضية لغة وليست قضية حدود. ولكن توجد عدة قضايا مختلفة فيها كل واحدة منهن تحمل معاناة مختلفة وتنشد مستقبلا مغايرا لما تعيشه في وطنها وتذهب إلى الضفة الأخرى من أجل البحث عن خلاص من مشكلاتها ومعاناتها في وطنها.
“شاني” من أم أفريقية وأب أجنبي ولها بنت صغيرة. انطلقت في رحلة العذاب النفسي حيث تتحمل الكثير من الصعوبات النفسية والجسدية والفكرية والفلسفية, بمجموعة من الأحاسيس. فالمعاناة النفسية تتمثل في هدم فكرة الأب الغائب, وهو موجود وحاضر في نفسية الشخصية. فالمرأة التي من جنوب الصحراء ولدت من أب أبيض في علاقة غير شرعية فلاهي أفريقية ولا هي غربية . الأفارقة لا يعترفون بها لأن لونها يختلف عن لونهم, والبيض في الغرب لا يعترفون بها لأن لونها لا يشبههم. وهذه الفتاة هاجرت من أجل البحث عن أبيها وعن هويتها وتبحث هن حضن أب يحتضنها بعد وقوعها في معاناة بعد فعلته مع أمها وقد ذهب. ولعل الدلالة هنا تشير إلى آثار الاستعمار الغربي للقارة الإفريقية التي م ازالت تعاني منها حتى الآن حيث انصرف الاستعمار لكنه ترك جروحا عديدة لم تندمل بعد.
“تاليا” هي المرأة الشرقية وتؤدي دورها باللغة العربية الفصحى وهي شخصية لها خصوصية مختلفة في إطار أبعاد ثقافية وتاريخية ونفسية بكل ما تحمل من حب وأمل وعشق ورغبة في تغيير نمط الحياة والذهاب إلى ما وراء البحار والتطلع إلى حياة جديدة مختلفة. هي هاربة من زواج القاصرات بعد أن تزوجت من شخص كبير في السن ثم هربت نتيجة حرب الصراعات القبلية والعشائرية فالتقت في ملجأ بحبيبها منذ الطفولة فقررا أن يهاجرا إلى الضفة الأخرى بحثا عن مستقبل جديد. ولكن وهما في البحر يغرق الحبيب وهو ينقذها وتعيش بهذه المعاناة.
المرأة الثالثة “ربيعة” المغربية أحبت شخصا وقعت معه في المحظور فحملت منه وتنصل من المسئولية وتركها لمصيرها. فأرادت أن تلد الطفل في أرض أخرى غير الأرض التي عانت فيها. ولكنها في رحلتها تجهض ويجهض معها حلمها.
اعتمد الديكور على تشكيل سينوغرافي في الفراغ يتكون من شاشة عرض ثابتة في الخلفية ذات شكل سداسي وأمامها في الفراغ المسرحي على الخشبة ثلاثة أشكال متحركة صممت أيضا على شكل سداسي لكل واحدة بحيث يتم تغيير توظيفها طبقا للحدث الدرامي فتبدو في البداية كمقاعد مضيئة تجلس عليها الممثلات الثلاث حتى تبدأ كل واحدة في سرد معاناتها, ثم يتم تكبيرها مع تغيير وضعها الرأسي لتبدو مثل أقفاص السجن وكأن النساء خلف القضبان, ثم تتحول الأقفاص إلى طوق نجاة للتواصل مع الضفة الأخرى, وهكذا في كل مرة يكون لها شكل مختلف واستخدام مغاير. أما الشاشة السداسية الثابتة في الخلفية فقد تم توظيفها في عرض عناوين مشاهد المسرحية مع عرض لوحات توضيحية لها (المطر, المخاض, الولادة, الطائرة… وهكذا)؛ مع عرض بعض لوحات تجريدية متموجة في بعض الأحيان. يضعنا المخرج أمام رؤية توصف بأنها هندسية تعتمد على تشكيلات سداسية تتحرك بحرية. حيث تروي كل امرأة همومها ومشاكلها. استطاعت كل ممثلة بجدارة من توصيل رسالتها ومشاعرها وأحاسيسها المختلفة معبرة عن كل ما يجيش بصدرها وعن صنوف المعاناة المختلفة بأداء تمثيلي متقن اعتمد على الحكي وعلى المعايشة معا. وحقق المخرج هنا مشاهدة فرجوية مع تقنيات فنية جميلة مثلت فيها شجون الموسيقى الحية لحظات معايشة عميقة مع الإضاءة البسيطة المعبرة . فكانت الموسيقى الحية ركن أساسي في صناعة العرض فصارت تمثل تعبيرا دراميا موازيا لدراما العرض وبتعبير آخر هي ميزان لضبط إيقاع العرض.
استعان المخرج بقصائد محمود درويش وأحمد جندول؛ حيث شكلت المقاطع الغنائية دعامة أساسية لأحاديث تلك النساء؛ وهي الدعامة اقتربت بالعرض المسرحي من الدراما الغنائية, حيث كان وجود الشعر ضروريا لأن المعاناة هنا بها شاعرية مثقلة بمجموعة من أحاسيس الشجن والحزن العميق لتعبر الشخصيات عن مكنوناتها الداخلية بعمق في الكلام وشجن في الطرح.
قدم العرض فرقــة تفســوين للمســرح الأمازيغــي بالحســيمة، وهي فرقــة حديثـة بالريـف المغربـي، تم إنشـاؤها عـام 2004 ، وقدمـت العديـد مـن العـروض باللهجـة الريفيـة المغربيـة، وشـاركت فـي المهرجـان الوطنـي المغربـي. عرض «شا طا را» تأليف/ سعيد أبرنوص، وقام بتشخيص أدوار المسرحية كل من/ أمل بنحدو وقدس جندل وشيماء العلاوي، بمصاحبة الفنان/ ثيفيور في الأداء والغناء، والأداء الموسيقي للعازف/ إلياس المتوكل، فيما أشرف على السينوغرافيا/ طارق الربح. إخراج/ أمين ناسور. وحصد العرض جوائز مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي, حيث فاز بجائزة أفضل أداء جماعي مناصفة مع عرض «هيدراوس» النمساوي, وجائزة أفضل مخرج, والجائزة الكبرى كأفضل عرض مسرحي متكامل.