العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017
في البدء كانت الحركة.. هذا التعبير قد يبدو وكأنه ينطوي على نوع من المزايدة على تعبير آخر أوسع انتشارا وأكثر ترديدا على الألسن والأقلام، يرى أن البدء كان بالكلمة، وقد يبدو نوعا من المناقضة للتعبير الذي يستمد قوته من تردده في عقيدة يدين بها سكان نصف الكرة الأرضية تقريبا. ولكن الراجح أن الذين درسوا فن المسرح باعتباره فن أداء وعرض قبل أن يكون تشكيلا للدراما باللغة، يسلمون بأن الحركة نقطة البدء، متى وعووا التاريخ والمنطق معا. ولكن دائما ما تصادف مناقشة هذه النقطة وتداعياتها عى ترتيب لغات خشبة المسرح بحسب الأهمية، نوعا من اللجاجة والتبجح والعناد في محاولة غالبا ما يكون ميئوسا منها، في تسيُّد الذوق الشخصي الذي يجنح إلى الكلمة والتغني بها وبما حفظ منها باعتبارها الحامل الوحيد للمعنى والفكر، وبالتبعية يصبح ما عداها إما هراء أو تمهيدا للهراء! وربما نسي هؤلاء أو يتناسون عامدين - والله أعلم - أن الهراء قد يسكن وراء أطنان الكلمات بأكثر مما يسكن وراء غيرها من أدوات ونظم التعبير، وما أكثر السفهاء، وما أكثر ما يرصفونه من لغو القول بكلمات، تظل خاوية على عروشها من الجريد! أو ميتة تنعي من دسها في الأكفان ولم يسكنها القبور!
نعم بدأ فن المسرح بالحركة قبل أن تتفق الجماعة اللغوية على المفردات الصوتية وقواعد النحو والصرف والكتابة. فقد وضعتنا كتب التاريخ أمام مشهد افتراضي للحظة البداية، يؤكد هذا الزعم ويرتقي به إلى مستوى الحقيقية التي لا يتسرب إليها شك، فرغم الطبيعة الافتراضية للمشهد فإنه مؤسس على أكثر من ركيزة منطقية ومحتملة ومتسقة مع فهم الاحتياج الإنساني. ويتصور هذا المشهد إنسانا بدائيا عاد إلى كهف يضم بعضا من الجماعة التي ينتمي إليها، وقد راح يحكي لهم معركته مع الحيوان الذي استطاع أن يرصده في البراري حتى تمكن منه واصطاده وحمله إليهم، ليقتاتوا على لحمه، ويتزيوا بجلده. والواقع أن هذا المشهد لا يحدد هذا الحاكي المفترض بوصفه ممثلا، ولا جماعته التي يحكي لها باعتبارها جمهورا نوعيا، وفقط، ولكنه يحدد بالدرجة الأولى الحركة باعتبارها اللغة الوحيدة تقريبا للتعبير، بكل تنويعاتها الممكنة من إشارات الأيدي والأكف إلى إيماءات تتنوع على صفحة الوجه مع تعاقب لحظات السرد، إلى نقلات الأقدام في الحيز الذي اختاره للسرد في الكهف، إلى ما بين كل أولئك من أوضاع جسدية تنهل من الوعي العفوي بالمفاصل الكثيرة التي ينطوي عليها الجسم: الكاحل، الركبة، الجزع، ثم العنق والكتفين، وفي هذا السياق يقدم الحاكي/ الصياد سلسلة الصور المتعاقبة لتطور علاقته بالفريسة أو الغنيمة التي تعد هدف الفعل الدرامي بأسره. ولا غرو أن يكتنف السرد الحركي من هذا القبيل محاولة استعادة إيقاع فعل الصيد نفسه، بما لازمه من أحوال انفعالية مختلفة ومتباينة، وسرعات متنوعة في الأداء. والراجح أن السارد ضفّر مع أدائه الحركي كافة ما يحتاجه وما يختزنه في ذاكرته في الوقت نفسه من أصوات صماء متنوعة الإيقاع بدورها: همهمة، غمغمة، لهاث، انفجار النفس المكتوم، صيحة الانكسار والذعر، أو الظفر والانتصار، وكذا تقليد الفريسة نفسها في حركاتها، وما يصدر عنها من أصوات اختزنها في وعيه وذاكرته.
ولست أظن أن المشهد افترض الممثل الأول صيادا بصورة اعتباطية، بل كان وراء الافتراض وعي بمسار تطور علاقة الإنسان بالطبيعة والكون من حوله. فقبل تمكن الإنسان من الحيوان في البراري، كان الجميع - بشر وحيوانات - يعيشون في حالة سلبية مع الطبيعة، أي على ما تجود به لهم، وهي المرحلة التي كانت تعرف بجمع الثمار، وقد تخللها عدوان الحيوان على البشر، مما أدى إلى أن يتجرد الإنسان للدفاع عن نفسه وعن نوعه معا، استجابة لغريزة البقاء. وفي هذا السياق، تخلى الرجل عن عمله في جمع الثمار للمرأة، وانطلق في حواره الحاد لأجل البقاء مع الطبيعة، إلى أفعال صيد الحيوان وترويضه واستئناسه، باعتبارها أفعالا دالة وقتئذ على دوره الإيجابي في صنع أسباب بقائه واستمراره وحمايته، وتغيير بيئته بما يجعلها موائمة له، بعدما كان يدعو نفسه إلى أن يتكيف معها، ويستسلم لها، وينتظر ما تجود به عليه، فكانت أفعال سيادة لا أفعال إذعان. وعلى هذا النحو، لم يكن فعل السرد وإعادة تجسيد عملية الصيد، فعلا مجانيا، بل كان في الصميم منه فعل احتفاء بالإرادة الإنسانية وقدرتها على أن تبسط نفوذها على الطبيعة، باكتشاف قوانينها وآليات عملها، وبتراكم الخبرة عنها وتداولها بين أبناء النوع!
لم يكن المرء في هذه المرحلة من تطوره وتطور علاقته بالبيئة وأبناء نوعه، في حاجة إلى اللغة المنطوقة/ المكتوبة، أو لم يكن قد اخترعها بعد، ليعبر بها عن نفسه وعن أحواله ويتواصل بغيره. ولكنه وجد نفسه يفجر طاقة جسده التعبيرية، ليصوغ في الوقت نفسه تجربة هذا الجسد في حيز الزمان والمكان، لا سيما وأن همومه لم تكن تزيد على هموم الجسد وحاجته للبقاء وبالتبعية إشباع غرائزه الحيوية، كما أنه لم يكن بحاجة إلى إفساد تجربة الجسد بما يعوض عن رغباته أو يتسامى عليها، أو يخدع أذهان الآخرين عنها. وعلى هذا النحو، تمتعت لغة الجسد بكل ثقل وكثافة وبكارة الوجود في الطبيعة، قبلما يغلفها - أو بالأحرى يشلها - بالعيب، واقتصرت غايتها - من ناحية ثانية - على استعادة تجربة الوجود نفسها وبناء وعى مماثل بها، دون أي وساطة أخرى، تنحرف بها أو تشوهها. ولا غرو أن يهدف فعل التمثيل والسرد الحركي إلى التواصل مع جماعة البشر، فضلا عن المشاركة في التجربة الحياتية بعدما تحولت - قصدا أو اتفاقا - إلى تجربة جمالية/ معرفية معا. واللافت - على مستوى آخر - أن اللغة التي دون بها هذا الإنسان تجربته على جدران الكهف، لم تكن لغة الأحرف والكلمات المجردة، وذات الدلالة الاتفاقية معا، ولكنها كانت لغة الصور والأشكال، كما تتجسد في أقدم اللغات التي احتفظ بها التاريخ مثل اللغة الفرعونية مثلا أو اللغة الصينية في شرق آسيا. وفي السياق نفسه، حينما تكونت فكرة الإنسان عن الله بوصفه قوة خفية غير منظورة تتحكم في ظواهر الكون والطبيعة، ويمكن أن تدمر في الوقت نفسه أسباب بقائه، لم يجد لغة يعبر بها عن صلته بالله، تقربا إليه وابتغاء لمرضاته وكفا لمضرته، سوى لغة الحركة التي صاغ بها صلواته، وقدم بها قرابينه، وملأها بعلامات الخضوع والإذعان، والضراعة والرجاء، وتلقى بها نذر الغيب، بمثل ما تلقى البشائر.
وعلى أية حال، كانت الحركة لغة ينحتها الإنسان من أفعال جسده مباشرة التي يستجيب بها نحو رغباته ويلبي حاجاته في مستوى الوجود الأفقي على الأرض، وقد تطورت وزادت تعقيدا وثراء بتطور أنشطته في إنتاج حاجاته: من الصيد إلى نثر البذور ودفنها في التربة، إلى رويها بالماء الذي يجلبه من النهر، إلى الحصد والجني والتخزين، إلى اكتشاف النار وتعدد وظائفها في إنضاج الطعام وصهر الخامات وبالتبعية تطوير الأدوات، إلى أفعال الدفاع عن نفسه ضد من اعتبرهم أعداءه. وعلى مستوى الوجود الرأسي حيث يستشرف عالم الآلهة، وقوى الغيب غير المرئية وغير المفهومة، ويحسب أنها تؤثر تأثيرا حاسما على حياته في الكون والطبيعة، صاغ بالحركة أيضا الطقوس والشعائر والعبادات وقدم خلالها القرابين. وفي المستويين، كانت الحركة أصدق عناصر وعيه التقني الذي يمتد إلى الأدوات التي يستخدمها، مثلما يمتد إلى المواد الخام التي يعيد تشكيلها، في عملية الإنتاج لما يشبع غرائزه ويلبي حاجاته، وكانت أصدق تعبيرا عن مشاعره وانفعالاته المتنوعة ومتباينة الدرجات. لغة نقية صافية بلا وسيط بينه وبين أفعاله ورغباته وحواسه، لأنها في الأصل لغة أفعاله ورغباته وحواسه! وفي كل محاولة استعادة تحول التجربة الحياتية لتجربة معرفية/ جمالية، احتفاء - في الوقت نفسه - بالإرادة الإنسانية المنتصرة على الطبيعة.
وإذا كان المسرح ولد من رحم الطقوس الدينية، والاحتفاء بخصوبة الأرض والنساء مما أدى إلى مركزية عضو التذكير “فالوس” في الاحتفال الجماعي لدى الإغريق القدامى مثلا، فقد ولدت لغته الأولية من رحم الوعي بالحركة، أي لغة الجسد وتجربة وجوده الحيوي على الأرض بممارسة الإنتاج. ولعل ذلك ما يعود ليفسر اشتقاق كلمة المسرح “theatre” من فعل إغريقي يعني بالرؤية وبالمشاهدة، لا بالسماع والإصغاء، يعني بحاسة البصر لا بحاسة الأذن، لأن عناصره الأولى وثيقة الصلة بثقافة بصرية/ جسدية، لا سمعية/ كلامية، وخبراته تتشكل في حيز المكان وليس حيز الزمان، وتعني بالحضور بالجسد في قلب التجربة، لا بالغياب والاكتفاء باختزان الخبرات في الكلمات. وعلى الرغم من ذلك، ومع اعتراف “أرسطو” بالأصول التي تخلق منها فن المسرح، فإنه ما لبث أن أزاح كل العناصر البصرية جانبا، ليستمد الأثر الكلي من تدفق الكلمة على الأذن!
ولكن يبدو أن اختراع اللغة الكلامية بالاتفاق على معاني الأصوات ودلالة رسم الحروف ودورها البارز في التفكير المجرد أو النظري، أثر سلبا على لغة الحركة، وامتصها هي نفسها في الكلمة المنطوقة، وامتص تدريجيا وجود الجسد بل وأشاع الخجل منه. ولا غرو أن يتزامن اختراع اللغة وتطورها تاريخيا مع نشأة وتطور المجتمع الأبوي ونمط العائلة على أنقاض المجتمع الأمومي، وفرض مفهوم التملك على العلاقة بالمواد الخام وأدوات الإنتاج، بديلا للمشاعية البدائية والعلاقة الحرة بالطبيعية القائمة في الوقت نفسه على الندية والمساواة بين الجنسين. فكانت اللغة الكلامية لغة اصطناعية كالتملك وما إليه من تداعيات، فشحنت بكل آليات القمع والكبح لكل ما كان طبيعيا، لا سيما مفهوم القيم: العفة، الطهارة، الشرف، الخيانة.. الخ، مما أدى - على مستوى آخر - إلى اكتساب الجسد، في الوقت نفسه، شفرة اجتماعية وجنسية واضحة، تحمل بعدا طبقيا يميز بين الرجل/ المرأة من ناحية، ويبسط هيمنة الذكر على الأنثى من ناحية ثانية.
وفي هذا السياق، الذي ازدهرت فيه لاحقا الأديان الكتابية/ السماوية، على حساب المعتقدات الطبيعية التي تخلقت في إطار علاقة البشر أنفسهم بالطبيعية، فاحت اللغة الكلامية، وعلى نحو مطرد بكل ما يجب ستره أو تغييبه، أو إنكاره والتعالي عليه من الجسد، بوصفه عيبا أو عورة أو محرما أو مناط خزي، وذلك حرصا على نمط العائلة الأبوية ودفاعا عنها، وتبريرا لها، وعملا على إعادة إنتاجها نقية الأنساب في الزمن. وإن كانت آليات كبح وقمع المرأة في البيت/ القصر/ الكوخ، مظهر المجتمع الأبوي، الذي وشم بالتبعية قيمه على أفخاذها، فإن كبح وقمع لغة الجسد كان باطراد مظهر فنون الأداء، وقرين بأسباب زيفها أو ضعفها، وتشتيت الانتباه فيها! وعلى هذا النحو، نجد أن لغة الحركة فرض عليها الصراع مع لغة الكلام، بتزايد الميل إلى طمس الوعي بالجسد وتبلد الإحساس به، وفي الوقت نفسه أضفى عليها طابعا طبقيا. فكلما ارتفعت المكانة الاجتماعية وزاد الاعتماد على العمل الذهني، تهوي مكانة لغة الجسد/ الإشارة/ الإيماءة/ الحركة، وعلى العكس كلما تهاوت المكانة الاجتماعية، وقل الاعتماد على العمل الذهني مقابل زيادة عبء العمل الجسدي، تفشو محاولات التمرد على قيم المجتمع الأبوي، وتزدهر بالتبعية لغة الجسد في أشكال التعبير عن الوعي الاجتماعي، بما فيها المسرح.