مسرح أبو العلا السلاموني متعدد الشكل.. موحد الهدف

	مسرح أبو العلا السلاموني	    متعدد الشكل.. موحد الهدف

العدد 826 صدر بتاريخ 26يونيو2023

في البدأ وجب التوضيح
هذه الدراسة كتبتها عن القدير محمد أبو العلا السلاموني عام 1998 وقد فرح بها الرجل فرحا كبيرا اعتبرته أنا وساما يحملني مبكرا مسئولية كبيرة. وقد تمثل فرح السلاموني بالدراسة في أنه اختارها لتكون ضمن كتابه الأخير الصادر حديثا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. وهو شرف مضاف خصني به الراحل العظيم مع نخبة من الزملاء والأساتذة.
لذلك آثرت أن تكون هذه الدراسة هي مساهمتي في ملف (مسرحنا) عن كاتب كنت أختصره –ومازلت- في وصف أظن أن الكثيرين ممن تعاملوا معه عن قرب سيوافقونني عليه، وهو (رقة المجاهد).  
على الرغم من انتماء الكاتب، محمد أبوالعلا السلاموني، إلى جيل السبعينيات من كتاب المسرح المصرى، ذلك الجيل الذي آل على نفسه أن يبحث عن صيغة خاصة للمسرح العربي، تتوافق شكلا ومضمونا مع البيئة النفسية والاجتماعية لمتلقيه، رغم هذا فإنه كان صاحب صوت متميز، لا ينهج نهج الكثيرين من زملائه الذين رفضوا الأشكال الغربية للمسرح قولا، ولم يستطيعوا تحقيق هذا الرفض فعلا.
فقضية السلاموني الجوهرية، هي كيفية الاتصال مع الجماهير. وبالتالي، لا يرى حرجا من استخدام كافة الأشكال التي أفرزها المسرح، سواء كانت من الغرب أو من الشرق، أو حتى مفردات الفرجة الشعبية كالحكواتي والمحبظين وخيال الظل والسامر الشعبي وغيرها.
وفي إطار هذه الأشكال المسرحية المتعددة، يبقى للسلاموني -اتفاقا مع أبناء جيله– الاتجاه نحو التراث، سواء كان ذلك التراث تاريخا رسميا أو حكايات شعبية، سواء كان استلهاما لحادثة أو قراءة في أعماق شخصية بعينها. وهكذا خرج علينا السلاموني بمسرحيات عدة منها «الثأر ورحلة العذاب» عن الشاعر العربي الملقب بأمير الصعاليك «أمرؤ القيس»، و»سيف الله» عن القائد الإسلامي الكبير خالد بن الوليد، و»رجل في القلعة» عن التجربة الديموقراطية المصرية الفريدة التي أُجهضت بعد سنوات قليلة إبَّان تولي محمد علي باشا حكم مصر، و»مآذن المحروسة» عن وجود الحملة الفرنسية في مصر وكيفية مقاومتها شعبيا، و»رواية النديم عن هوجة الزعيم» عن الثورة العرابية وآثارها، وغيرها من الأعمال التي اتكأت على تراث الأمة ولم تقدسه؛ بل عارضته في مناحٍ كثيرة.
وإذا كان المتابع لكتابات السلاموني سيلفت نظره وبقوة هذا الملمح المتمثل في سطوة التاريخ (شعبيا أو رسميا) على أغلب أعماله، الذي يستلهمه (أحداثا أو شخصيات) يعيد صياغتها دراميا لما يراه فيها من تماس مع الواقع الآني. فإن ذلك المتابع أيضا –وبتدقيق أكثر– سيكتشف أن لكل عمل من تلك الأعمال شخصيته المستقلة. أو بمعنى أكثر وضوحا، إن كل مسرحية من مسرحيات السلاموني هي تجربة قائمة بذاتها، طارحة دون غيرها شكلها المتميز والفريد، لا تكرار ولا ترديد لشكل، ولا وقوع في أسر قالب مسرحي بعينه. إنك تكاد –باعتبارك قارئا لهذه الأعمال– أن ترى أكثر من كاتب بأكثر من موضوع بأكثر من شكل. إنها مقدرة فريدة على التحرر أثناء الكتابة، وقدرة عجيبة على الخروج من أسر الذات، وعلاقة غاية في الإدهاش بين الكاتب (باعتباره ذاتا) والمادة الدرامية (باعتبارها موضوعا) والشكل الدرامي (باعتباره وسيطا).
 وفي إطار هذا التحرر الذي يميز السلاموني، تجبرك أعماله على أن تتناولها من داخلها، تفرض عليك شكلها وتجربتها، وتدفعك للتعامل معها عبر منهجها النقدي، رافضة لأي أساليب جاهزة للرؤية والتحليل, اللهم إلا في تلك الحدود الدنيا لماهية الدراما والصراع والشخصيات والحوار. فمن بين هذه الأعمال ستجد التراجيديا، كما سنها اليونانيون والممثلة عنده في «الثأر ورحلة العذاب»، وستجد بعدها التراجيديا المُطعمة بالملحمية والتغريب وكسر الإيهام عبر أساليب «المسرح داخل المسرح» و»التشخيص عبر التشخيص» مستهدفا العقل والوجدان في آنٍ واحد، والممثلة عنده في «رجل في القلعة».
وستجد بعدهما السامر الشعبي القديم الذي حاول الرائد يوسف إدريس استلهامه باعتباره أداة مسرحية مصرية فريدة، ولكنه أخفق في تطبيقها في «الفرافير» التي جاءت مضمونا ذهنيا فلسفيا مستعصيا على شكل شعبي بسيط، فوقعت في التناقض القاتل، ولم يبقَ منها سوى ريادتها وسبقها. وهو ما تنبه له السلاموني فجاء «سامره» شعبيا خالصا (شكلا وموضوعا) كما تمثله «رواية النديم في هوجة الزعيم». فالشكل عند السلاموني لا ينفصل عن المضمون. والمحبظون وخيال الظل ليسا مجرد حليتين شعبيتين يضيفهما لنصوصه لتتزيد بالفلكور، ولكنها أشكال حية تفرضها الموضوعات وتفرض نفسها على الموضوعات، وهو ما يتجلى بوضوح في «مآذن المحروسة» حيث حكاية الشعب عن كفاح الشعب ضد الفرنسيين وقائدهم نابليون.
تلك في تصورنا هي أهم ملامح مسرح السلاموني، ذلك الجهد الأصيل والجاد في خلق حالة مسرحية عربية جادة نستفيد من أشكال فرجتها دونما أن تطغى على معنى المسرح، ودون أن يطغى الفهم الغربي الخالص عليها. وفي السطور القادمة سنحاول التدليل على هذه الملامح عبر اختيارنا لثلاثة نماذج من أعمال الكاتب، ونحن في اختيارنا لهذه الأعمال نؤكد أنها مجرد نماذج لحالة التحرر الإبداعي لديه، موقنين أن بقية الأعمال تستحق دراسة أطول وأعمق، ومؤكدين أن اختيارنا لهذا البعض ضرورة تفرضها حدود المساحة ومجال الكتابة.

تراجيديا عربية 
في مسرحيته «الثأر ورحلة العذاب» اختار السلاموني البناء التراجيدي الإغريقي شكلا مسرحيا يصب فيه مضمونه الدرامي الخاص. ممثلا في اختياره للزمن الدائرة فيه أحداث مأساته، ليكون زمن الجاهلية قبل ظهور الإسلام، فيصبح الحديث عن «الإلهة» و»القدر» حديثا ذا معنى، وليصبح صراع بطله –امرؤ القيس– مع القدر، متحديا الإرث الخاص بتحكم الآلهة في مصائر البشر، يشابه إلى حد التطابق صراع أبطال التراجيديا الإغريقية مع أقدارهم آنذاك. كذلك اختار السلاموني بطل مأساته شخصية ينطبق عليها كثير من الملامح التي نصت عليها قوانين التراجيديا الإغريقية. فهو امرؤ القيس، ملك ابن ملك – سليل عِلية القوم، أولئك الذين تجدر بهم المأساة ويجدرون بها.
أيضا حاول السلاموني –وعبر لوحته الأولى القصيرة نسبيا– أن يرسم ملامح بطله ليؤكد بها جدارته بحمل مأساة تقف نِدّا لمآسي الإغريق. فمنذ اللحظة الأولى يطرح علينا الكاتب بطله خارجا عن الناموس، رافضا لمنطق آبائه وأجداده المؤسس لحياة الصحراء في تلك الفترة، إنه الناموس الذي يقسم البشر إلى نوعين لا ثالث بينهما. أو كما يعلنه في بدايات اللوحة الثانية «.. إما سيدا يملك كل الأشياء.. أو عبدا لا يملك شيئا دون استثناء»!
ذلك هو الناموس الحاكم لتلك الصحراء (المدينة في النسق الإغريقي). والخارج عنه هو خارج عن الكون، خارج عن منطق الحياة. ولا بُدّ له من عقاب يصبح به لغيره عبرة ومثالا ليعود للكون الاتزان. وهو عقاب جوهره «الخروج» أيضا، إما موتا.. أو نفيا.. أو جنونا.. أو...
ولأن أمرؤ القيس رفض الانصياع لهذا الناموس، فقد حقّ عليه الخروج (موتا)، فالملك «حجر» يحكم على ابنه بالموت –في اللوحة الأولى (المحنة)– ويأمر مربيه بأن يخرج به ولا يعود إلا ومعه عيناه دليلا على موته. لكن المربي –وعلى شاكلة ما تم مع أوديب– يُشفق على الابن العاق ويتركه في الصحراء، مكتفيا بالخروج (نفيا)، ويعود بعيني جؤزر ليُخبر (الأب/ الملك) أنه قتل الابن.
هذا الملمح الأول لشخصية البطل الذي يصوغه الكاتب في لوحته شديدة الدلالة -ورغم قصرها النسبي– هو الملمح الأساسي الذي سيبني عليه الكاتب مأساة بطله، تلك المأساة التي ستتشكل فيما بعد عندما يقترف هذا البطل خطأه التراجيدي القاتل، عندما يتخلى عن وعيه الذي كان يتسلح به، ذلك الوعي الكاشف لحقيقة الناموس الرافض له، والذي يكشف عنه امرؤ القيس بإجابته على سؤال مربيه في اللوحة ذاتها.. هل تعتقد أنه يكرهك –يقصد أباه– إلى هذا الحد الذي يريد ذبحك؟!» بقوله «إنه يدافع عن نفسه..»؛ بل ويضيف: «لو كنت مكانه لفعلت ذلك..»!! نعم.. فمن اختار أن يكون ملكا عليه أن يكون كذلك بالفعل، عليه أن يحافظ على استقرار الكون الذي أصبح فيه ملكا، وعلى اتزان الناموس الذي نصبه ملكا، ولو اضطر في ذلك إلى قتل الابن الرافض لهذا الناموس. ولذلك أيضا لم يكن امرؤ القيس حزينا لخروجه؛ بل على العكس، كان هذا الخروج هو ما يريده بالفعل، إنه التعبير المادي عن رفضه لقانون عالم يراه أضيق من أن يحياه. ومن هنا أيضا يأتي رفض امرؤ القيس –في البداية– للقيام بأخذ الثأر لأبيه؛ إذ إنه لا ينتمي إلى هذا العالم (عالم الأب – والثأر – وإرث الملك) وحتى حين، قبل مهمة الثأر –بعد ذلك– لم يقبلها إذعانا لذلك الناموس، ولكن إمعانا في رفضه.
فحينما ذهب، تحت إلحاح شقيقته «هند» ومعلمه «ربيعة» ليحتكموا إلى الآلهة، ذهب ليؤكد لهما رفضه لهذا العالم، فهو موقن بأن الآلهة «صاحبة الناموس» ستنطق بضرورة أخذه بثأر أبيه، لكنه فوجئ بأن الآلهة تثنيه عن هذا الثأر. فما كان منه، اتساقا مع رؤيته لزيف هذا العالم، إلا أن يكمل تحديه ورفضه للنهاية، فهو لم يرفض الثأر لمجرد كونه ثأرا، ولكن لكونه تعبيرا عن عالم (قديم) يرفضه ويتحداه، لذلك كان من المنطقي أن يكون رفضه لحكم الآلهة هو التعبير الأعمق عن كسره لهذه المنظومة، ولو اضطر في ذلك إلى أن يأخذ بثأر أبيه الرافض له.
ومن هنا، لا يمكن القول بأن الخطأ التراجيدي عند أمرؤ القيس هو قبوله لثأر أبيه. أو بمعنى آخر، عصيانه لحكم الآلهة. لكن خطأه التراجيدي يكمن فيما هو أبعد من ذلك، وما ستكشفه اللوحة السابعة «اللعبة» عندما قَبِل امرؤ القيس مقابلة القيصر لطلب مساعدته في حربه ضد كسرى المنذر. في هذه المقابلة اضطر أمرؤ القيس أن يتعامل مع قيصر باعتباره ملكا.. باعتباره حاكما .. باعتراه أبا.. كأحد تعبيرات ذلك العالم الذي رفضه من قبل. إنها اللحظة التي تخلى فيها عن حلمه كي يحقق حلمه.. وذلك هو المستحيل.. ذلك هو خطأه التراجيدي القاتل.
وتلك هي مأساة أمرئ القيس كما صاغها أبو العلا السلاموني، وكما حاول عبرها أن يؤكد أن عالم التراجيديا ليس قصرا على الإغريق (وإن كانوا هم صانعيها)، ومفندا الزعم بأن التاريخ العربي –حكايات وشخصيات– أضعف من أن يحتمل بناء تراجيديا بما يقتضيه هذا البناء من خصائص يفتقدها عالم الصحراء الأحادي. وربما لذلك القصد –التحدي- هو ما جعل السلاموني يصوغ مسرحيته «الثأر ورحلة العذاب» صياغة تراجيدية أمينة محققا داخلها كافة العناصر بدءا من «البرولوج» الافتتاحي» مرورا بالصراع التقليدي (الإنسان – القدر – الآلهة) وصولا إلى الخطأ التراجيدي بمواصفاته الكلاسيكية.

تحد جديد 
وفي تحد جديد يتجرأ السلاموني على هذا البناء التراجيدي التقليدي، مستخدما إياه في واحدة من أروع أعماله –رجل في القلعة– استخداما مختلفا تماما. بل يمكن القول بأنه استخدام تجريبي وصل إلى حد مزجه بأسلوب مسرحي آخر عُرف بأنه مناقض له تماما.
 في «رجل في القلعة» يتناول السلاموني فترة تاريخية أثرت تأثيرا خطيرا في الكيان الاجتماعي للشعب المصري وهي فترة تولي «محمد علي باشا» حكم مصر. وذلك في محاولة منه للبحث عن السر الكامن وراء عدم احتفاظ الشعب المصري –سوى بضع سنوات– بتجربة الديمقراطية، التي تجلت في اختياره لحاكمه وفرضه على الباب العالي العثماني، وتعهد هذا الحاكم بالرجوع إلى الشعب في قراراته.
في هذا العمل يفاجئنا السلاموني باستخدامه لشكلين مسرحيين عرفناهما متناقضين، وهما البناء التراجيدي المتراكم والمعتمد على فكرة الإيهام المسرحي، وشكل «المسرح داخل المسرح» المستهدف لكسر الإيهام! 
تأتي بداية المسرحية مع نهاية الفترة التي يفترض أن يتناولها الكاتب. فها نحن نرى «محمد علي» في سنوات عمره الأخيرة عجوزا مريضا ذا عقل ذاهل، يواجه شبح السيد عمر مكرم المتوفى منذ سنوات ولا يستطيع الخلاص منه؛ بل إنه يتردد على قبره يستجديه الإجابة على سؤاله الدائم (لماذا تركه وحيدا في مواجهة جيوش أوروبا المتحالفة ضده؟).
ومع هذا الداء العضال الذي أصاب الباشا، يحاول كل من في القلعة أن يساعده على الشفاء، كل بطريقته. فزوجته ترى أن الحل في إقامة حفلة «زار» تساعده على الاستشفاء من أسياد تتلبسه(!). على حين يرى «ديوانه» أن مرض الباشا سببه شعور ما سكن نفسه تجاه الميت الحي «عمر مكرم». شعور قد يكون عقدة ذنب ترسبت في نفسه بعد حكم النفي الذي أصدره ضد عمر مكرم. وقد يكون محاولة –فات أوانها– لإرضاء ضميره. فقد كان عمر مكرم بمثابة الضمير الحي لمحمد علي الذي خانه في لحظة بدأ معها صعود درجات سلم السقوط. وإذا كان هذا هو سرّ مرض الباشا، فلن يشفى منه إلا بعودة عمر مكرم مرة أخرى، وتصريحه بغفرانه وعفوه عن الباشا وإعلان رضائه عن كل ما فعل. وبالفعل، يتفق «ديوانه» مع «السيد صالح» حفيد السيد عمر مكرم الذي يشبهه تماما – على أن يلعب دور جده في لعبة جماعية سيعيد فيها تشخيص الأحداث الماضية، ليشاهدها ويشارك فيها محمد علي، عسى أن يكون في هذا التشخيص تطهيرا لروحه.
 وبموافقة السيد صالح، تبدأ اللعبة.. لعبة تشخيص ما مضى من أحداث بدءا من ثورة الشعب المصري ضد واليه «خورشيد باشا» وعزله، واتفاق النقباء برئاسة عمر مكرم على اختيار محمد علي واليا، مرورا بخيانة محمد علي لميثاق الشرف الذي وقعه مع نقباء الشعب وصعوده إلى القلعة يصدر منها قراراته بشكل فردي متسلط، وصولا إلى دماره وهزيمته على يد جيوش أوروبا المتحالفة مع السلطان العثماني، وعودته أخيرا حاكما على مصر فقط التي عادت بدروها ولاية عثمانية.
من خلال تشخيص هذه الأحداث، تطالعنا الملحمة التراجيدية المتمثلة في بطلي العرض (محمد علي، عمر مكرم) باعتبار كل منهما بطلا تراجيديا يحمل داخله أسباب سقوطه الكامنة في فهمه الخاص لطبيعة الذات الإنسانية وقدرتها.
فالأول –محمد علي– يرى في ذاته قدرة عالية أثرتها انتصاراته وفتوحاته التي تناسى معها دور الجماعة وقدرتها، فتنكر لها، وكان جزاؤه أن تنكرت هي له حين احتاجها لصد غزو القوى الاستعمارية وتركته يهوي من عليائه وحيدا دون نصير أو مجير.
أما الثاني (عمر مكرم) فعلى النقيض، جاء متساميا مترفعا ناكرا لذاته، يرى في الجماعة خير عون، تاركا لها دوما –وبشكل مثالي– تقرير مصيرها ومصيره، فانتهى به الأمر إلى أن تخلت عنه الجماعة –مجموعة النقباء والعلماء– ووافقت على نفيه خارج القاهرة.
وهكذا، وبمنطق الوسط الإغريقي الذهبي، الذي يرى أن الفضيلة وسط بين رذيلتين، يدين السلاموني طرفي الصراع في مسرحيته (عمر مكرم – محمد علي)، مؤكدا على أن كلا منهما كان وراء إجهاض التجربة الديموقراطية المصرية.
وعلى الرغم من هذه الروح التراجيدية التي تغلب على نص السلاموني، والتى برزت بوضوح في قدرته على رسم بطليه، وتصارع منطقيهما والانتصار أخيرا لسقوط المنطقين، رغم هذا فإنه حاول جاهدا أن يخرج من أسر هذه الروح، بتطعيمها بملامح كاسرة للإيهام، تجلت في استخدامه لفكرة اللعبة أو «المسرح داخل المسرح» حرصا منه على أن يكون متفرجه شاهدا على عصر ماض لم يعشه، مستخلصا منه دروسا قد تفيده في الحكم على عصر يحياه.
فقد كان من السهل على السلاموني أن يصوغ مسرحيته بشكل تراكمي يبدأ مع ثورة الشعب على «خورشيد باشا» وينهيها بالنهاية المأساوية التي آل إليها محمد علي.
وكان من الممكن أيضا أن يبدأ من حيث بدأ، دون الاعتماد على فكرة إعادة التشخيص، ومعتمدا فقط على أسلوب الاسترجاع السينمائي «فلاش باك» ليعرض علينا سبب ما رأيناه في البداية، إلا أنه أصر على أن يستخدم أسلوب إعادة التشخيص مستهدفا في ذلك عقل المتفرج متيحا له فرصة الحكم على ما يراه.
«رجل في القلعة» إذن تجربة مسرحية فريدة، تحمل بداخلها تحديا من نوع جديد، لا يلجأ إلى لَيّ عنق الأمور لإثبات قدرات وهمية، ولكنه تحد يفرضه وعي الكاتب بهدفه ورسالته المنشودة من عمله المسرحي.

السامر يليق بالنديم 
في مسرحية «رواية النديم عن هوجة الزعيم» يؤكد السلاموني مرة أخرى على تواؤم الشكل والموضوع عنده. فعلى الرغم من استخدامه لشكل «السامر»، أحد أهم أشكال الفرجة الشعبية القديمة، فإنه لا يأتي في مسرحيته كمجرد حلية فولكلورية تؤكد قدرته على المشاركة في تلك «الموجة»، التي طغت على المسرح في السبعينيات والثمانينيات. ولكنه يأتي استخداما أقرب إلى الحتمي أو قل استخداما يفرضه الموضوع والهدف المنشود منه. ففي المشهد الأول –أو البوابة الأولى بتعبير المؤلف– يمهد السلاموني لشخصياته ولموضوع مسرحيته تمهيدا مبررا لاستخدامه لهذا الشكل الخاص «السامر».
يبدأ المشهد بحوار دال وكاشف بين «عبدالله النديم» وتابعه «حسن» عن تاريخهما وواقعهما، فالنديم هارب من السلطة الغاشمة التي أجهضت الثورة وقبضت على قائدها، أحمد عرابي، ونفته خارج مصر. لكن هروبه ليس عن خوف من مصير النفي أو القتل، ولكنه وسيلة تتيح له استكمال مسيرة الثورة والكشف عن أسبابها الحقيقية، وإزالة غبار التزييف الذي ألقاه عليها الخديوي والإنجليز وأعوانهما. لذلك يختار «النديم» في هروبه أن «يحكي» عن ثورة عرابي الحقيقية لأهلها الحقيقيين (الفلاحين).
وما دام النديم قد اختار أن يحكي، فلا بُدّ من أن يختار شكلا ملائما يحكي عبره. وهو هنا سيكون السامر بالضرورة، لماذا؟!..
أولا: لأن السامر هو أشهر الأشكال وأقربها إلى متلقي تلك الفترة (الفلاح في أواخر القرن التاسع عشر).
وثانيا: لأن شكل «السامر» سيتيح للنديم (الهارب) فرصة التنكر في صورة «مشخصاتي جوال»، الأمر الذي يكون خلالها قد ساهم بقدر كبير في إزالة غبار التزييف العالق بالثورة.
وثالثا: لأن السامر وبما يحمله من إمكانات «التمثيل داخل التمثيل» سيتيح للكاتب –السلاموني– فرصة صنع حدثين دراميين، منفصلين تاريخيا، ولكنهما مرتبطان موضوعا، ويراهما المتلقي يحدثان أمامه في اللحظة نفسها.
وفي إطار هذا التمهيد المبرر للشكل وللموضوع، يعرض علينا الكاتب بقية شخصياته التي ستشارك في اللعبة المسرحية (السامرية) (الأغا، العمدة، بهوات القرية، الشمام الأول، الشمام الثاني، المأمور...)، وهو في عرضه لهذه الشخصيات يصنع حدثا مسرحيا (آنيا) سوف يتداخل (فيما بعد) مع الحدث المسرحي (المصنوع) الذي يجهز له النديم وتابعه. وها هو التابع (حسن) يستدعي على طريقة (السامر) بعض الشخصيات الواقعية لتشارك في اللعبة المسرحية، معتمدا في اختياره على توافق الواقع الاجتماعي الآني للشخصيات مع الواقع الاجتماعي المراد تشخيصه.
(حسن: والآن.. يا كرام.. قبل ما ندخل في روايتنا، عايز رجالة جدعان.. كانوا في الجهادية، حاربوا مع عرابي الجيوش الإنجليزية، مين يقول أنا هوه...).
ومن الطبيعي هنا، ووفقا لمنطق السامر أيضا، أن يطرح الفلاحون أنفسهم لتشخيص جيش عرابي، ومنهم أيضا من يطرح نفسه لتشخيص أعوان عرابي (عبدالعال حلمي، محمد عبيد، علي فهمي).
وهنا لا يترك السلاموني الفرصة للسؤال: وكيف سيشخص فلاح دور أميرلاي في الجيش؛ إذ يجيب على لسان كل فلاح بأن «أنا خدمت معه في كتيبته أو في موقعة حربية أو...»، إذن فهذا الفلاح الذي سيمثل دور محمد عبيد أو دور علي فهمى أو دور عبدالعال حلمي.. سبق وأن رآه عن قرب في الواقع، وبالتالي سيجتهد في أن يؤدي دوره، وإن كان في حدود ملامحه الخارجية (وقفته، طريقته في الحديث، إلقائه للأوامر على الجنود... إلخ).
وإذا كان الفلاحون –أصحاب ثورة عرابي– قد طرحوا أنفسهم لأداء دور جنود الثورة وقوادها، فالأمر يكون أكثر طبيعية حين يختار «حسن» أدوار أعداء الثورة ليقوم بها العمدة، وبهوات القرية والأغا والمأمور، والشمام الأول والثاني.
بل وإمعانا في خلق حالة من التداخل بين (المشخص) و(الواقعي)، يحرص التابع حسن أن يختار من بين الشمامين واحدا ليلعب دور الخائن «علي خنفس».
فقد سبق وأن عرض علينا السلاموني هاتين الشخصيتين باعتبارهما خائنين بالفطرة. إنهما يتابعان عبدالله النديم طوال رحلة هروبه ليفوزا بمكافأة القبض عليه التي أعلنت عنها الحكومة، ولا يفوت السلاموني أيضا أن يذكر على لسان بطله (النديم) في حواره مع تابعه، أن كل هؤلاء سوف يدخلون اللعبة وسيشاركون رغم أنوفهم في الكشف عن زيفهم.
(حسن: وأصحابنا اللي مأنسنا الليلة دي؟!
النديم: قصدك الأغا..؟
حسن: والشمامين..
النديم: ولا يهمك يا حسن.. كل دول حايدخلوا جوة اللعبة.. بس أنت جهز نفسك وابدأ..)
لعبة التشخيص تبدأ بكيف فكر عرابي في الثورة، لتمتد إلى كيف أجهضت، وفيما بينهما تنكشف لنا الأسباب وعناصر الخيانة ثم ضرورة استمرار الثورة. وكل ذلك يأتي متسقا مع قانون اللعبة التي وصفها الكاتب وفقا لقانون السامر المعتمد على (التشخيص من داخل التشخيص).
وكل ذلك يأتي عبر التداخلات الدرامية التي يصنعها بين واقع الشخصيات وما ستشخصه، كاشفا عن الهدف المنشود من لعبته، حيث المقارنة بين ما سنشاهده وما نحياه، سواء على مستوى المتلقي فوق المسرح (الفلاحين) أو على مستوى المشاهد في الصالة (الجمهور).
وحرصا منه على هذا القانون، وإمعانا في التأكيد عليه، يستخدم السلاموني اللغة المسرحية لتكون عنصرا أساسيا من عناصر هذه اللعبة. حيث تأتي لغة (التشخيص) تلك التي تنطق بها الشخصيات المصنوعة (عرابي، الخديوي، المستشار الإنجليزي... إلخ) مغايرة تماما للغة الحدث الآني التي تنطق بها الشخصيات الواقعية (حسن، النديم، العمدة، الأغا، المأمور ...إلخ).
فالأولى لغة تتميز بالمبالغة والاعتماد على الرنين الشعري العالي. بينما تتميز الثانية بأنها لغة حية، ذات جمل قصيرة ومفردات بسيطة، إنها «باختصار» لغة الواقع.
كذلك حرص السلاموني على أن يصنع (سجالا) بين ما هو مشخص وما هو واقعي عبر انتقالات ذكية غير متعسفة. إلى أن يصل في لحظة الذروة ليخلط بين ما هو مشخص وما هو واقعي، تأكيدا للهدف الذي أشرنا إليه من قبل وهو إعمال عقل المتفرج. فقرب نهاية البوابة الرابعة والأخيرة، التي وصل فيها التشخيص إلى محاولة السلطة القبض على أحمد عرابي قائد الثورة، يدور حوار بين المأمور (ممثل المستشار الإنجليزي) والنديم (ممثل أحمد عرابي) وكل منهما يتحدث إلى الآخر بصفته الأصلية (مأمور – نديم)، بينما –وفي الوقت ذاته– يتحدث الفلاحون بصفة التشخيص (جنود ثورة عرابي).
المأمور: سلم نفسك أحسن لك ياعبدالله النديم.
النديم: شعب مصر الحر مش ممكن يسلم يا إنجليز.
المأمور: عساكر بريطانيا العظمى اهجموا على عبدالله النديم.
النديم: ردوا يا شعب الكنانة.
الفلاحون: (وهم يحيطون بالنديم ويحولون دون تدخل الإنجليز) مش عرابي اللي يسلم يا إنجليز.. مش عرابي اللي يسلم يا إنجليز).
وعلى الرغم من صرخات المأمور بأن التشخيص انتهى، وأن المطلوب القبض عليه إنما هو عبدالله النديم وليس عرابي، فإن الفلاحين يصرون على أن الثورة مستمرة، وأن من يحمونه هو عرابي وليس النديم؛ بل إن الأمر يصل إلى معركة حقيقية بين جنود المأمور والفلاحين يختفي خلالها النديم وتابعه حسن، لتعود القرية بشخصياتها الحقيقية، تسبح في جديد خلقته لعبة التشخيص ولم ينته بنهايتها، إنه التغيير الذي يصل إلى حد الثورة كما يصفه الخفير في حواره مع العمدة.
الخفير: إلحق يا جناب العمدة.. الفلاحين عاملين ثورة في البلد.. مظاهرة ولا مظاهرة عابدين!).
وفي إشارة من الكاتب إلى أن رحلة الوعي التي بدأها النديم لم تنتهِ، يعود إلى الشمام الأول والثانش، لنراهما مصرين على متابعة النديم من أجل الحصول على المكافأة المرصودة للقبض عليه.
(الشمام الأول: إحنا لازم نعرف عبدالله النديم هرب على فين..
الشمام الثانى: تاني..
الشمام الأول: أمال يعني نسيب الصيدة تفلت من إيدنا يا مغفل...)!
إصرار السلاموني على أن ينهي مسرحيته بهذا التداخل بين ما هو مشخص وما هو واقعي، إصرار ذو دلالة يكشف عنها مشهد الختام الذي يحتشد فيه الفلاحون في مظاهرة حقيقية يرددون «صيحتك يا عرابي حية ومستحيل أبدا تموت».
وهكذا يكون السلاموني قد نجح في الاستفادة من شكل السامر الشعبي في خلق حالة مسرحية خاصة، ليس بهدف التأريخ لثورة عرابي، ولا أيضا لرحلة هروب النديم. ولكن بهدف استعادة روح هذه الثورة وتلك الرحلة، والتأكيد على دور المثقف تجاه شعبه باعتباره طليعة لهذا الشعب. والأهم –برأينا- أن استلهامه لشكل السامر لم يأتِ في إطار الرفاهية المجانية أو الرغبة في مواكبة حالة مسرحية مسيطرة على المسرح المصري، ولكنه جاء استلهاما لشكل مسرحي ملائم للحالة المسرحية التي ينشدها، مؤكدا بذلك على هدفه الأساسي والأصيل.. وهو الوصول إلى المتلقي سواء كان ذلك عبر شكل غربي أو شعبي أو عبرهما معا في شكل جديد.
مجلة آفاق المسرح سبتمبر 1998


محمد الروبي