في مسألة ريادة المسرح المصري.. لماذا لا تكون أسطورة (يعقوب صنوع) رائد السرح المصري؟

في مسألة ريادة المسرح المصري..  لماذا لا تكون أسطورة  (يعقوب صنوع)  رائد السرح المصري؟

العدد 663 صدر بتاريخ 11مايو2020

يقول الأستاذ الدكتورسيد علي إسماعيل ) في مقدمة كتاب “ البوم أبونظارة (يعقوب صنوع) تأليف: بول دي بينيير – ترجمة د. حماده إبراهيم – دراسة وتعليق دكتور سيد علي إسماعيل (أسطورة لاعب القراقوز ) – صـ 9 حتي صـ 43
وهي ضجة بلا طحن حول تاريخ المسرح المصري ،والمسرح الغربي الذي اجمع الباحثون والمؤرخون ان بدايته (بمارون النقاش) في لبنان عام 1848,لانه قدم عرضا بعنوان “البخيل” المقتبس من مسرحية الفرنسي (موليير) الشهيرة –علي نمط عروض المسرح الاوروبي الغربي:أي عرض(العلبة الايطالية  )،وكأن فنون الفرجة التي انتشرت في المنطقة العربية علي مدي القرون لم تكن مسرحا !!! وفي مصر هناك المزيد والمزيد من الادلة والاخبار تشير الي وجود شخصية مؤثرة كتب عن نفسه الكثير والكثير ،وكتب عنه الكثيرون منذ منتصف القرن التاسع عشر – بما فيهم بعض المستشرقون - واشاروا جميعا الي بعض عروضه المسرحية الشعبية: لتكون اعماله في هذا الشكل الغربي هي بداية تاريخ المسرح في مصر ،والتي قدمها بالشكل الذي تاثر به والمتعارف عليه في الدول الاوروبية الاستعمارية مثل انجلترا وفرنسا وايطاليا – بعد غزو نابليون لمصر فيما يسمي (بالحملة الفرنسية )- فقد كان هدف نابليون قائد هذه الحملة (1798-1801)من وراء تأسيس مسرح فرنسي في مصر يرتكز علي ايجاد مسرح ترفيهي يلعب دور وسيلة من وسائل الترفيه علي جنود الحملة المقيمين في المستعمرة ،وإسناده للمسرح كمؤسسة (كولونيا لية إستعمارية )،الهدف منها المساهمة في تطبيق تغير جذري علي مستوي الثقافة الشعبية المحلية وتنفيذ مخطط شعار المهمة الحضارية ، وهي الحملة التي احدثت (صدمة ) عنيفة في بنيان تفكيرنا ومجتمعاتنا وفنوننا – بل ان حداثتنا (ما بعد الكولونيالية) – انبثقت في ظل العلاقة التي جمعتنا بالاخر الاوروبي (سواء عن طريق(التناسج) التاريخي عبر التاريخ او عن طريق الاحتكاك الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي اليومي – اثناء التواجد الاستعماري الغربي – كما يشير (د. خالد امين)في كتاب “دراما تورجيا” العمل المسرحي والمتفرج” – المركز الدولي لدراسات فرجة -14 – ص (34) ولم يكن ذلك معناه ان مصر لم تكن بها (فنون الفرجة ) متنوعة كالمحبظين واولاد رابية الاراجوز وخيال الظل وغيرها من فنون الفرجة التي تعلق بها المصريون ومارسوها وعشقوها وظلوا يمارسون المتعة في الفرجة عليها والمشاركة فيها وللاسف كان معظم هؤلاء من عامة الشعب الفقراء والبسطاء والُهمل . ومن يطلق عليهم الصعاليك والحرافيش ، ومن لا شهادة لهم امام المحاكم فلا اهلية لهم ولا قيمة ولا مقدار – لذا فهم من المطاردين واصحاب المجون والهزل ، وكان رد الفعل عند هؤلاء هو السخرية من الجميع واحيانا الزراية بهم ، وقد تكتل في وجه هؤلاء رجال الامن خدم للسلطة وطبقة النخبة والمثقفون الرسميون والطبقات الاستقراطية من حكام ، وذوات ، ومشايخ ازهر ، وسلفيون متزمتون ، ومثقفون رجعيون يهتمون بفنون القول والبلاغة القديمة ، و(العنعنة ) في مجال الشعر والتاريخ ،وينظرون لفنون الفرجة الشعبية هذه نظرات احتقار وامتهان علي اساس انها فنون السوقه والدهماء, ويتهمونها بالتفاهة والسطحية بل بالفحش والفجور, وبالتالي لم تكن تُنشر اي اخبار عنهم في الصحف الرسمية وغير الرسمية المشكلة أنذاك – لذلك كانت مشكلة الباحثين في هذا الموضوع هي العثورعلي المزيد من الاخبار عن بدايات مسرح يعقوب صنوع والبحث عن الصحيفة أوالصحف التي تم تداولها في الفترة من (1870حتي 1872)
حول الرجل:, وهو ما يتمسك به الاستاذ الدكتور سيد علي اسماعيل – حتي تم العثور علي تلك الاخبار في هذه الفترة في صحيفة الجوائب في مكتبة اتاتورك بتكسيم بتركيا ،والتي كان ينظرها أحمد فارس الشدياق والتي عثرت عليها (د. نجوي عنوس ) في كتابها (يعقوب صنوع – رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة دراسة بسمولو جية) سلسة اصدارات خاصة الهيئة العامة لقصور الثقافة – 2019 ، والتي تؤكد فيه ريادة صنوع – وهو ما قد يتفق عليه الكثيرون من امثال الباحث والناقد الجاد (د. عمرو دواره ) في موسوعة المسرح المصري المصورة م الهامة موسوعه المسرح المصري من 1870 حتي 2019 والتي قضي في توثيقها وتصنيفها اكثر من ثمانية وعشرين عاما وهو يعد بالفعل (حارس ذاكرة المسرح المصري)  وكذا الكاتب المسرحي الكبير ( محمد ابو العلا السلاموني ) الذي عثر علي تفسير ذي دلالة واهمية للاهمال الذي لحق بذاكرة المسرح المصري ، وهو ما يجعلنا تؤكده بعد ان اكتشفنا هذه الحقيقة فهو يري ان مسرحنا مسرح شفاهي عامي كان يمارسه العامة والسوقة والبسطاء من ابناء الشعب ، وكان يحظي باحتقار الطبقة الاستقراطية والطبقة الحاكمة واصحاب السطوة في المجال الثقافي.. الذين كان لا يعنيهم سوي السير علي منوال الاشكال التراثية العربية القديمة او محاكاة الاجانب في سلوكياتهم من شعر ونثرأو في مظاهرهم الشكلية, ولكنهم لم يهتموا بفنون الحرافيش والعامة والغوغاء مثل فرق اولاد رابيه وفرق المحبظين ، وفرق السامر والعوالم والغوازي ومنشدي الموالد – مما تستنكف وتتعالي علي اخبارهم الصحف الرسمية وغير الرسمية – بالاضافة الي ان اعمال (صنوع) ليست من النوع التقليدي الأمن تلك الاعمال التي تقدمها الاوبرا الخديوية التي يؤمها السادة الاعيان و(المفترنجون ) ومسرحيات الكوميدي فرانسيز وغيرها التي كانت تزور مصر بين الحين والآخر ، او الاعمال المترجمة العربية الفصحي في بعض الاحيان وهي جميعاًً تختلف عن لغة العوام التي يستخدمها صنوع علي السنة الفلاحين والصنايعية واولاد البلد ، والانماط البشرية المختلفة من خدم وخواجات وشوام وعوالم الذين كانوا يعيشون في الظل داخل الحواري والاذقة والشوارع والمصاطب والاجران من طبقات الشعب الدنيا ، والتي لا تعترف بهم الثقافة الرسمية التي كان يتسلط عليها النخبة المثقفة التي كانت تنظر الفنون الاراجوز وصندق الدنيا وخيال الظل والمحبظين والرواة والحكائين ، والسامر والسير الشعبية ، وفنون الذكر والانشاد في الموالد ، والاحتفاليات العامة والخاصة ،وتشعر بانها خطر عليها لذا كانت تستعدي عليهم السلطة لتقوم بضربها وقمعها واخصائها ومطاردتها لتظل تعيش في الظل ولنذكر علي سبيل المثال قول الشاعر لأحمد شوقي او امير الشعراء عن أزجال بيرم التونسي من ان اشعاره العامية الزجلية هي خطر علي لغة الضادا – رغم ان احمد شوقي نفسه قد كتب مجموعه من الاغنيات العاميه الجميله مثل ( النيل نجاشي ) ,وفي الليل لما خلي ) ليغنيها صديقه المطرب (محمد عبد الوهاب ) في زمن سطوة الاغنية الفردية – بعيدا عن اعماله المسرحية الشعرية – بعد ان ادرك اهمية التعبير بهذه اللهجة الانسانية ذات الجماليات الخاصة – بالاضافة الي ظهور ( ام كلثوم ) وطغيان الاغنية الفردية بما قضي علي المسرح الغنائي الذي كان مزدهرا منذ بداية القرن العشرين .
من هنا اتصور ان الدكتور ( سيد علي اسماعيل ) الذي قدم عشرات الكتب في تاريخ المسرح المصري – وهو ما نحمده له جهده الغزير في هذا المجال – في محاكمته لمسرح يعقوب صنوع او مقولته ( اسطورة لاعب القراقوز )في مقدمة الكتاب الذي أشرنا إليه في البداية “ البوم ابو نظاره يعقوب صنوع “
- قد تخلي عن موضوعيته وانضم الي كتاب الطبقة التي تحقر فنون هؤلاء البسطاء القديمة , مهاجما كاتبا مصريا يهودي الديانه ولد علي ارض مصر فخور بمصريته ( حين وضع علي راس مقبرته مسله فرعونيه – (في اشارة لا تخلو من دلالة واضحة علي حبه واخلاصه لهذا الوطن).. حتي ولو كان مشتبها في انحيازه للامير حليم ابن محمد علي  الذي ينافس الخديوي اسماعيل علي حكم مصر.. كما يتهمه بذلك .. لكن الدكتور (سيد) تعامل معه من منظور مباحثي وامني, ومشككاً في نواياه – فتوقف طويلا عند الاسماء التي تسمي بها مثل (جاك أوجيمس) ، وانكر عليه مصريته رغم انه ولد علي ارضها من ام مصرية يهودية واب إيطالي لكن هذا لا يبدو كافيا ويحرمه من مصريته – مُتهماً إياه بالدجل والشعوذه لمجرد انه كتب بعد خروجه من مصر ( خوفاً واتقاءا لشر حاكهما الخديوي اسماعيل)
قد تورط في لعبة السياسة الجهنمية فهل هذا ينفي عدم وجوده ، وانه قدم مسرحا او (تيا ترو)- كما كان يسمونه في ذلك العصر ،ويشهد ذلك كاتب كبير وابرز كتاب الدراما التاريخية ( محفوظ عبد الحمن ) في مسلسله الشهير (بوابة الحلواني) وجعل الفلاح البسيط ابن الشعب يهرع للانضمام الي (فرقه صنوع أو التياترو) الذي قدم دوره ببراعة الممثل القدير (لطفي لبيب)- بل وجعل ابن الخديوي اسماعيل نفسه يغرم بهذا (التيا ترو)، وفي نفس الوقت جاء الكاتب المسرحي الكبير محمد ابو العلا السلاموني وقدم مسرحية ابو نضارة ، استلهاما من شخصية صنوع ، وقدمت المسرحية علي مسرح محمد فريد عام 1993 من اخراج الراحل محسن حلمي ،وبطولة النجم سعيد صالح وسعيد طرابيك وعهدي صادق وبغض النظر عن كتابات المبدعين مسرحيا ودراما تليفزيونية – الم تلفت نظر باحثنا الكبير ( سيد علي اسماعيل ) تلك النماذج البشرية الملهاوية والهزلية التي قدمها صنوع وظل يقدمها مسرحنا الملهاوي والهزلي حتي الان من امثال(الخواجة) وابو الشام ، والبربري ، وابن البلد , وادوار الردح بالحواري وغيرهم) . او كما يقول الشاعر والناقد المسرحي الكبير
( جرجس شكري) في مقمة كتاب (يعقوب صنوع ، رائد المسرح المصري – ومسرحياته المجهولة تأليف ( د/ نجوي عانوس – هيئة قصور الثقافة – 2019 - حول الشخصيات التي تدور حول اعماله– سواء الدراما الصحفية المصورة المسماة(اللعبات التياترية)والتي يقدم فيها مجموعة من الشخصيات التي يستعيرها من الواقع ويمنحها اسماء وصفات رمزية فالخديوي اسماعيل شيخ الحارة او فرعون او ابو السباع صراحة – كما كان اسماعيل يطلق علي نفسه ، ونوبار باشا اصبح غبار باشا ، و روتشيلد المرابي اليهودي سلطان الكنوز وقدمه في لعبة خاصة ، ويؤكد جرجس شكري قوله حين يردف ( فهي تدل علي وعيه ووطنيته لان العائلة الخديوية لم تنجُ من لسانه ونقده (فالوالدة باشا) ممحونه هانم ، واحدي بناته ( خياله هانم ) بالاضافة الي خلخال أغا واخرين )
ورغم كل ما سبق فان الصديق د. سيد علي اسماعيل مصر علي مطاردة يعقوب صنوع وانكار دوره بل انكار وجوده – رغم تعدد الصور الفوتوغرافية التي تحتشد بها مجلاته وتلك الرسومات التي قدمها في ثنايا اعماله فهو قراقوز لا اكثر – كما اشار في مقدمة الكتاب سالف الذكر ، وهو الكتاب المنشور في فرنسا عام 1886 والذي يضم الكثير من محاضرات صنوع عن مصر في القرن التاسع عشر ، والغزو البريطاني لمصر ،وثورة المهدي – بالاضافة الي عشرين فصلا مكتوبا اقرب الي الخواطر والدُعابات والتي نشرها صنوع في صحيفته– فنجد(د. سيد) يتناول تفاصيل ذلك الكتاب باسلوب التشكك والريبة والبحث عن الاخطاء في كل ما يقال ، ويترقب ما يقوله الرحل او ما يقوله غيره عنه بتوجس وعدم ثقة وارتياب – فهو لا يريد ان يصدق ، ويتهم( ما سونية صنوع) ويلعنها بماسونية الخداع والزيف والخيانة للمبادئ الدينية سواءا كانت يهودية او اسلامية او مسيحية ، وذلك ببساطة ان الرجل كان (علمانيا) ولا يري فرقا بين الأديان الثلاثة .. بل ويتهمه بالصهيونية رغم ان دعوي الصهيونية  علي يدي اليهود وينكر عليه شجاعته في التعبير عن رأيه بصراحه ووضوح  قد اثيرت بعد ذلك بكثيرعن رأيه بصراحة ووضوح ودون تقنع باي قناع مزيف خوفا او تقية – فالرجل قادم الطغيان بالاسلوب المتاح في ظل نظام الطغيان والحكم المطلق بالنقد والسخرية والاستهزاء بكل ما يحيط بهؤلاء من سلطة وجبروت فإذا بالدكتور سيد الذي يري في صنوع ( مجرد قراقوز) فينكر علية دور المقاومة بدعوي أنه كان (مسنوداً) من الأمير حليم بن محمد علي الذي كان طامعا في عرش مصر بدلا من اسماعيل . ويناصبه العداء – كما يصر علي تجاهل فنون الرجل وانتاجه الفني ذي السمات الشعبية ، وادخلنا في دهاليز السياسة ومؤامرات القصورالتي كانت تحيط بذلك العصر، وتدور في كل عصر ، فهل له ان يعيد النظر في علاقة الفن والابداع واصحاب الراي والكلمة وعلاقتهم بالحكام والساسة ومن يملكون زمام الامور. وصولجان السلطان الذين ظلوا – وحتي الان- يفرضون احكامهم واذواقهم وافكارهم علي المبدعين والمفكرين في النظم الاستبدادية ، ولا اظن ان د. سيد قد توحد بهؤلاء !!ويواصل عداءه ( للقراقوز) فينعت كل ما يقال عنه بالكذب والزيف فهو علي سبيل المثال لم ينفي من مصر ، وان الخديوي هو الذي نفاه – كما قال – بل خرج هاربا.! واذكر ان سيادتك قد اثرت قضية ريادة صنوع للمسرح المصري وانكرتها منذ سنوات في صحيفة ( الاهرام المسائي ) في 5/3/2001 ، ولانك ذكرت انك قد راجعت نفسك ( ست ) مرات حول هذه القضية .. فلقد تبين بعد ذلك بعد ان تسلط الضوء عليها واعادة النظر في الجهود التي بذلتها د.نجوي عنوس وغيرها من الدارسين الجادين تاكيد هذه الريادة ومن قبلهم( د. محمد يوسف نجم ) ومؤرخ المسرح ( فؤاد رشيد )وغيرها كثيرون ممن اشاروا الي هذه القضية ووضحوا هذه الرياده ، وتابي سيادتكم غير ذلك !! لماذا ؟ الله اعلم .
الا تري – هل ان الاوان ان نكف جميعا عن اللغو حول هذة القضية ونعترف بأن يعقوب صنوع هو رائد المسرح المصري ،المهم ياصديقي – مؤرخ المسرح الكبير الذي قدم جهدا مشكورا في هذا المجال–(علينا ان نسال اين الان مسرحنا المصري الأن ؟) والي اي مرحلة وصل به المشوار الطويل ؟ وهل تطور هذا المسرح وأدي وظيفته وهو القلب المشترك للأنسانية, مازال حيا ينبض بالابداع – بعد ان قاوم مسرحنا المصري طوال قرن ونصف من الزمان ضد كل العواصف والانواء والهجمات العدوانية الشرسة التي حاولت اجهاضه والقضاء عليه – لكنه مازال ثابتا يقاوم ويتحدي بفضل رجاله المخلصين وعاشقيه علي مر السنين ؟ !


عبد الغنى داوود