التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (13) دفاعا عن المعهد الموءود

التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (13) دفاعا عن المعهد الموءود

العدد 663 صدر بتاريخ 11مايو2020

قرأنا في المقالة السابقة، الظروف التي جعلت وزير التقاليد، يُحوّل معهد فن التمثيل إلى قاعة عامة للمحاضرات! كما قرأنا نماذج من الكتابات المتشددة، التي رحبت بهذا التحويل، وهاجمت المعهد هجوماً شرساً! ولعلك عزيزي القارئ، تريد الآن أن تطرح سؤالاً، تقول فيه: هل جميع الكتابات رحبت بتحويل المعهد وهاجمته؟! ألم يدافع عن المعهد أحد، أو على الأقل رفض فكرة تحويله إلى قاعة للمحاضرات العامة؟! الحقيقة أن هناك كثيرين فعلوا ذلك، ومنهم أسماء كبيرة ولامعة، وما قالوه – هم وغيرهم - هو موضوع مقالتنا هذه.

عباس محمود العقاد
في سبتمبر 1931، نشرت مجلة الصباح حواراً لها مع عباس محمود العقاد؛ بوصفه أحد أعضاء لجنة ترقية التمثيل، التي اقترحت إنشاء المعهد، لذلك أقرّ العقاد  – في حواره - بأن نظام المعهد أفضل من القاعة التي لا نظام لها، وشبهها بالمقهى، الذي لا يُقدم مشروبات، بل وأكد على ذلك قائلاً: “وعندي أن أي قهوة يجتمع فيها الممثلون والممثلات ليتطارحوا بينهم حديث فهم، هي أجدى على التمثيل من قاعة المحاضرات”. وخالف العقاد رؤية وزير التقاليد، قائلاً: “إنني لا أفهم ما الذي اتقاه وزير المعارف بإلغاء معهد التمثيل؟ مع أنه يبيح في قاعة المحاضرات أن يجتمع الطلاب والطالبات، ولا يرى مانعاً من أن يرسل البنات المصريات إلى أوروبا، ليتلقين هناك الدروس في بيئة لا تختلف عن بيئة المعهد في شيء، إن لم نقل إنها أكثر إفراطاً في الحرية”. كما خالف العقاد وزير التقاليد في منعه لمادة الرقص التوقيعي، مبرراً ذلك بقوله: “إن حلمي عيسى باشا لن يكون أكثر غيرة على الإسلام من النبي عليه السلام، الذي شهد رقص النوبة في المسجد وإلى جانبه السيدة عائشة أم المؤمنين. وأعتقد أن الرقص البعيد عن الخلاعة فريضة واجبة على الرجال، كما هي واجبة على النساء؛ لأنه نوع من الرياضة الجسدية والنفسية، لا يختلف عن لعب السيف، ولا ركوب الخيل، ولا الحركات الجمبازية، التي يقصد بها مرانة الأعضاء”. وأخيراً برر العقاد الاختلاط في المعهد، قائلاً: “إن النساء كن يحضرن الدروس في مساجد الصلاة، وكن يحضرن الغزوات الحربية مع الرجال في صدر الإسلام. فلا أدري ماذا يمنع أن يجتمع المتعلمون والمتعلمات في المدرسة، ولا سيما إذا كنا نعلم أنهم يجتمعون في الخارج، ولا سبيل إلى الفصل بينهما بأية حال”.

محمود تيمور
طرحت مجلة الصباح الأسئلة نفسها على محمود تيمور، الذي رفض فكرة تحويل المعهد إلى قاعة محاضرات عامة، قائلاً: إن الدراسة المنتظمة - التي كانت مطبقة في المعهد - والتي تسير على نظام دراسة المدارس، وتنتهي بشهادة رسمية من الحكومة، لا يمكن أن تقارنها بدراسة حرة، يحضرها من يشاء بطريقة غير نظامية كما في دراسة قاعة المحاضرات. هذا فضلاً عن أن المواد التي حُذفت بعد تحويل المعهد كانت من المواد الضرورية للثقافة التمثيلية”. أما سؤال المجلة: هل تعتقدون أن الرقص التوقيعي ينافي الفضيلة؟ أجاب عليه تيمور قائلاً: مطلقاً، فالرقص التوقيعي نوع من أنواع الحركات الجمبازية الرشيقة، تكسب الفتاة الصحة وتعودها على الرشاقة والذوق السليم. وممثلاتنا أحوج إلى هذا النوع من الرياضة؛ ليتحررن من الترهل والخمول الجسمي، وليهذبن حركاتهن. كما أن وزارة المعارف أدخلت هذا الرقص في مدارسها الخاصة بالبنات، وقد اعترفت بأنه رقص راقٍ لا ينافي الفضيلة. ورداً على سؤال اختلاط الجنسين، قال تيمور: “النظرية الجديدة في التربية تناصر مسألة اختلاط الجنسين، وهذه النظرية لا تقول فقط باختلاط الجنسين بل بتزويدهما تدريجياً بمعلومات خاصة بالعلاقة الجنسية! أما في معهد التمثيل فالضرورة تحتم علينا الجمع بين الجنسين، ولا يمكننا أن نفصل بين الطالب والطالبة في المعهد، وحياتهما المستقبلية في المسرح مشتركة اشتراكاً تاماً، فمن الواجب علينا والحالة هذه، أن نمهد لهما سبيل هذا الاشتراك ليسقط من بينهما الخجل، الذي هو العلة الأساسية في التمثيل”.

إبراهيم رمزي
استمرت مجلة الصباح في طرح أسئلتها على المعنيين، ونشر أجوبتهم، حتى وصلت إلى الكاتب المسرحي إبراهيم رمزي؛ بوصفه عضواً في لجان المعهد، وتحديداً في لجنة اختيار الطلاب!! وربما نتوقع أن أجوبته، ستكون مشابهة لما سبق وقرأناه، أي تعضيد المعهد ورفض تحويلة إلى قاعة .. إلخ ما قرأناه عند العقاد ومحمود تيمور!! والحقيقة أن إجابات إبراهيم رمزي، كانت صادمة وغير متوقعة - لما بها من عدم الوضوح والصراحة والحسم؛ وكأنه أراد الانتقام من المعهد أو من أحد المسئولين فيه، وتحديداً من زكي طليمات، الذي بدأ حواره بمدحه، قائلاً: “ليس في هذا البلد من يستطيع خدمة التمثيل، كما يخدمه الأستاذ زكي طليمات أفندي. وأنا كرجل أشتغل بالتمثيل وأحبه حباً لا يعرف مقداره أحد، إذا كنت أقدر الأستاذ زكي فلأنه الشخص الذي جعلته العناية الطيبة على رأس الحركة الإصلاحية، وسأظل كذلك طول عمري مساعداً من كل قلبي لمن يسعى لتحقيق فكرتي القديمة الدائمة، وهي خلق التياترو الوطني”.
وعن رأيه في تحويل المعهد إلى قاعة للمحاضرات، قال: “لا أرى في تحويل المعهد إلى قاعة للمحاضرات، ما يحول دون تحقيق الغرض من إنشائه. إذ أن محاضرات حرفية المسرح والإلقاء لن تكون إلا عملية، فهي ستُخرج الممثلين اللازمين في المستقبل، كما كان منتظراً أن يُخرج المعهد بلا أقل تغيير أو نقص!! وقد أفاد تغيير منهج المعهد من جهة أخرى شيئاً عظيماً، وذلك أنه أعلن وقرر بطريق ضمني، أن الممثلين والممثلات في حاجة إليه وإلى أمثاله، ودعاهم إلى الاستفادة منه بحضورهم محاضراته”. وحول سؤال أن الرقص التوقيعي يتنافى مع الفضيلة، قال: “الرقص التوقيعي لا يتنافى مع الفضيلة في نظري، ولكني أعتقد تمام الاعتقاد أنه لم يكن من الضروري للمعهد مطلقاً! وقد كان الأستاذ زكي طليمات، يريد في الواقع إلغاءه؛ ولكن نظراً إلى أسباب تدخل في المجاملات، لم يسعه إلا أن يعدل عن فكرة إلغائه، كما أن هجمة الشيخ أبو العيون جعلت من الواجب استبقاءه حتى حين. ومع ذلك أظن أن الذي جنى على هذه المادة، هو ما شاءوا لها من التسمية، إذ الواقع أنهم لم يكونوا يدرسون رقصاً توقيعياً، بل رقصاً ريفياً فقط”. وعن رأيه في اختلاط الجنسين، قال: “إذا كان من الضروري بأي حال منع اختلاط الجنسين، فاعتقادي إنه يجب على الأقل استثناء طلبة التمثيل”.

علي بدر
لم يقتصر أمر المدافعين عن بقاء المعهد على نشر المجلات لحوار أعلام المسرح والمثقفين، ومطالبتهم بالإجابة على أسئلة جاهزة!! بل تطور الأمر إلى نشر رسائل وكلمات، أرسلها بعض المعنيين، ومنهم «علي بدر» المدرس بالفنون الجميلة، وأحد هواة الفن - وقد قام بنشر مقالات فنية كثيرة في الصحف المصرية منذ عام 1925 - هذا الأستاذ نشرت له مجلة «الصرخة» كلمة تحت عنوان «حول معهد فن التمثيل»، طالب فيه الإبقاء على المعهد وفصل بعض الطلاب غير المرغوب فيهم. ورحب بافتتاح قاعة المحاضرات - بجانب وجود المعهد – وتكون مخصصة للممثلين والممثلات من الفرق المسرحية العاملة، بالإضافة إلى الهواة والمثقفين والراغبين في تلقي الفنون؛ شريطة ألا تكون القاعة بديلة عن المعهد؛ لأن بقاء المعهد، يعني، كما قال:
“إمداد الفرق التمثيلية بنوابغ الممثلين والممثلات. وإمداد المدارس بمعلمين للتمثيل، لتكوين وتربية ذوق الطلبة الفني، وبذلك يشبون على تشجيع التمثيل، والأخذ بناصره، والتردد على دوره، وفي ذلك فائدة لأصحاب الفرق. وإمداد الصحافة بخبرة النقاد، الذين يخدمون الفن بصدق وإخلاص. وإمداد الفرق بالمخرجين، لا سيما وأن المسرح المصري في مسيس الحاجة إلى المخرج الماهر. وإمكان إنشاء فرق متجولة من خريجي المعهد، تجوب المديريات والقرى لنشر الفن، وتحسين سمعته، فتقضي على الفرق المتجولة، التي تعمل لهدم الفن وتشويه سمعته. وإمكان إنشاء فرقة حكومية من خريجي المعهد، ونوابغ الممثلين الحاليين، تعمل لصالح الفن المحض. وإقلاع أصحاب الفرق مستقبلاً عن مجاراة الجمهور في رغباته غير الفنية. وترجمة أحسن الروايات ترجمة صحيحة، عوضاً عن تشويه ترجمتها بتبديلها وتحويرها. وبذل الحكومة أكبر مجهود ممكن لترقية التمثيل المحلي، بدلاً من صرف مجهودها لتشجيع الفرق الأجنبية، بحجة أن الفرق المصرية لا تستحق أي تشجيع مطلقاً لتأخرها. وإدخال التمثيل السينمائي في المعهد، لنستطيع إخراج روايات مصرية إخراجاً دقيقاً. وتشجيع وترقية القصة المصرية. وحُسن اختيار الروايات والعناية بإخراجها، حتى يستمر تمثيلها لمدة ثلاثة شهور، أو أكثر بدلاً من أسبوع. وارتقاء فن الإلقاء والإخراج وغير ذلك. والاهتمام بالإخراج اهتماماً يفوق الاهتمام بالملابس والمناظر، التي تستر ضعف الممثل. وإيفاد بعثات إلى الخارج، وفي ذلك نهوض بالفن إيما نهوض”.

آراء متنوعة
أظهرنا في المقالة السابقة، وفي هذه المقالة الانقسام الحاد بين المتشددين المرحبين بتحويل المعهد إلى قاعة، وبين أعلام المثقفين الرافضين لهذا التحويل. ولكننا لم نتطرق إلى الممثلين والمسرحيين أنفسهم، وبيان آرائهم حول المعهد وتحويله إلى قاعة!! والحقيقة أنني لم أتحمس لذلك كثيراً؛ لأنني وجدت أغلب الآراء، قيلت من خلال أمرين لا ثالث لهما، الأول هو المصلحة الشخصية للمتحدث من المعهد، هل وجوده في صالحه أم ضده، وبناء على ذلك أدلى برأيه!! والأمر الآخر، موقف المتحدث من زكي طليمات، هل يريد دعمه أم مهاجمته؛ وذلك تبعاً لموقفه الشخصي منه!! وهذه الآراء منشورة في مجلة الصباح - في سبتمبر وأكتوبر 1931 – حيث قامت المجلة باستطلاع الآراء حول المعهد وتحويله إلى قاعة محاضرات، وهذه نماذج مما نُشر:
فعلى سبيل المثال، هناك مجموعة رحبت بتحويل المعهد إلى قاعة، ومنهم: إبراهيم الجزار، الذي عدّ المعهد جرثومة مُعدية، تحتل رؤوس الطلبة والطالبات، فتصل بهم إلى نوع من الهستيريا التي ستقضي على الفن. وإبراهيم المصري، الذي قال: “أنا أؤيد كل التأييد الانقلاب، الذي أحدثته الوزارة في معهد التمثيل. وأقترح عليها ما دامت ستجعل من المعهد صالة للمحاضرات، أن تُعيّن لإلقاء هذه المحاضرات الأساتذة الآتية أسماؤهم: أحمد زكي باشا، الشيخ أبو العيون، الشيخ التفتزاني، الشيخ رشيد رضا صاحب المنار الأغر، السيد حسين الرفاعي”. وعبد المجيد شكري، الذي أبان أن الدروس التي تلقاها الطلاب في المعهد، أصابتهم بالغرور. وحسن فايق، الذي رأى أن القاعة ستعطي الفرصة لأكبر عدد ممكن للاستفادة. ويونس القاضي، الذي قال: “لم يكن للنظام القديم أية فائدة يرجى منه بالمرة؛ لأن التمثيل قبل كل شيء موهبة، لا تُكتسب بالتعليم أو المران”. وزينب صدقي، التي قالت: “كنا نؤمل أن يكون المعهد سبيلاً للإصلاح المنشود، أما وقد ظهرت بوادره من عام واحد، فإذا هي غرور وطيش، فإن إغلاقه كان رحمة بالفن”، وقالت فردوس حسن، وأمينة رزق المعنى نفسه، أما حسن صديق، وحسن البارودي فقد تحدثا بأقوال مشابهة لما قاله هذا الفريق.
وهناك مجموعة ثانية، رفضت تحويل المعهد إلى قاعة، مثل: مختار عثمان، الذي قال: “إن النظام الجديد مصيبة كبيرة على الفن، سامح الله من كانوا السبب فيه. لقد كان في بقاء المعهد رمزاً لاهتمام الحكومة بالتمثيل، وإني أعزي أهل الفنون جميعاً بضياع أمل عظيم، كنا نرجوه من المعهد”. ومنسى فهمي، الذي قال: “ومن يقول إن نظام الفوضى أفضل من النظام الرسمي؟ إنهم بقضائهم على المعهد، كمن قضي على الجنين في أحشاء أمه”. وعبد العزيز خليل، الذي قال: “النظام الأول أفضل بكثير، ولو إنهم أقاموه على أساس تقدير جهود الأفراد، الذين خدموا الفن كما هو الحاصل في معاهد أوروبا، لعاش المعهد إلى الأبد على أحسن النظم”. أحمد علام، الذي قال: “لا يجب مطلقاً أن نتسلح بالتقاليد لنهدم عملاً جليلاً، هو ألزم ما يكون لرقي المسرح المصري، الذي نتشدق جميعاً بخدمته، ونقول إننا نعمل على رقيه. ما هي التقاليد؟ أليست هي مجموعة عادات وآراء تتغير بتغير السنين؟ أكانت التقاليد في مصر تسمح بتعليم البنت يوم قام قاسم أمين بدعوته؟ أكانت التقاليد تسمح في القرن الماضي أن يبني الخديوي إسماعيل داراً للتمثيل في مصر؟”. وقد شارك كل من: محمد إبراهيم، وعبد العزيز حمدي، ودولت أبيض آراء هذا الفريق.
وهناك مجموعة ثالثة، لم يفرق معها تحويل المعهد من عدمه، ومنهم: فؤاد سليم، الذي عاب على الحكومة إنشاء المعهد وتحويله دون وجود نظام أساسي راسخ للمعهد أو للقاعة. وزكي رستم، الذي قال: “التمثيل هبة، لا يفيد في إيجادها معهد يؤسس، أو محاضرة تُلقى. والمحاضرات قد تثقف الممثل؛ لكنها لا يمكن أن تُكوّن ممثلاً جديداً. فالمعهد والقاعة يتساويان في نظري حيث عدم الفائدة”. والمعنى المُتبنى لهذا الفريق، تبناه كل من الزجال والشاعر محمود رمزي نظيم، والمسرحي حبيب جاماتي.

طالب بالمعهد الملغي
خير ختام لهذا للدفاع عن المعهد، ما كتبه أحد طلابه في جريدة «كوكب الشرق»، تحت عنوان «إحياء ذكرى .. أم نفثة مصدور؟»، أبان فيه الآثار السلبية لغلق المعهد على الفرق المسرحية، وكيف أن المعهد – لو استمر – لكانت نهضة التمثيل حدثت بالفعل، كما كان يأمل كل من عمل في هذا المعهد. ولأهمية المقالة، سأذكرها كاملة، لما فيها من استشهاد بكلام لشكسبير، يذكره الطالب كي يدلل به على حال التمثيل في مصر!! قال الطالب:
في مثل هذه الأيام من صيف سنة 1931، صدر قرار وزير المعارف بغلق معهد التمثيل، والآن وقد مضى على المعهد المرحوم سنتان، لا نرى بُداً من أن نسجل كلمة صريحة حاسمة، لعلها تصل إلى آذان أولئك، الذين عملوا على وأده حياً. وليس غريباً أن نتحدث عن المعهد بعد مرور عامين، فإن فكرة إنشائه والأثر الذي تركه مدرسوه في نفوسنا وطباعنا، ما يزالان قويين يملآن قلوبنا تشيعاً له وتعلقاً به، كلما شاهدنا هذا الطغيان العنيف الذي يهدد كيان هذه البيئة ويفسد ذوق الجمهور. فواجبنا كطلبة، تلقوا أصول هذا الفن وقواعده على أساس متين، ودعائم قوية من جميع نواحيه الفنية والعلمية والأدبية والرياضية أيضاً، يحتم علينا أن نستنهض الهمم ونستصرخ الغيورين على سمعة هذا الفن من أنصاره ومحبيه، لكي يضعوا حداً لهذه المظاهر السيئة التي وصل إليها المسرح من تحكم بعض أفراد، جعلوا همهم الأول والأخير جمع المال والمتاجرة باسم فن التمثيل، كوسيلة من أولى الوسائل التي يسعون إليها. ومع هذا فقد دلت محاولاتهم على الفشل والإفلاس التام، فلا هم وفقوا في تأليف القصة، ولا هم أحسنوا اختيارها. وقد عجز معظم هؤلاء الممثلين عن تكوين شخصية سليمة لما يمثلونه من الأدوار، بحيث تكون مستقلة عن دور آخر قام به أحدهم في رواية أخرى، أو بعيدة على الأقل عن طباعة الخاصة أو أخلاقه الذاتية، بل لقد شاهدنا في إحدى الفرق ما هو أنكى من هذا وأمر، إذ اتخذ الجميع روياً واحداً مملاً بأسلوب خاص في الإلقاء والتمثيل، يفعلون ذلك من أنفسهم، أو طبقاً لما يشير به عليهم مديرهم الفني. أما الممثلات فليس بينهن من تستطيع فهم دورها وأداءه بعيداً عن اللحن أو الخطأ بلا تلعثم في اللسان، أو تعثر في النطق أو حشرجة في الحلق. ولقد نسى هؤلاء وأولئك أن أدوارهم معرضة للسقوط والسخرية من غير شك، إلا إذا كانت كل لفظة يقولونها أو كلمة يرسلونها، تكون واضحة جلية ومسموعة جيداً في جميع أنحاء المسرح والصالة، وأن السر في جودة الإلقاء والتمثيل ليس في تفخيم الألفاظ والجمل ولا ترقيقها، بل أن لذلك قواعد وأصولاً، كان من الواجب أن يدرسوها ويعنوا بها قبل أن يعتلي واحد منهم أو منهن خشبة المسرح، بدلاً من هذا التحايل المشين القبيح الذي يقتحمون به أسماع النظارة، فيصرخون تارة في أصوات نكراء تعلو حيناً في نشاز مؤلم، ثم تخفت تارة أخرى إلى أن تضيع بين همهمة وفحيح بينما، يطرق أذنك من ممثل آخر كلمات مضطربة، لا تستطيع أن تميز أولها في حين ينتهي آخرها في صوت غليظ قوي، يدوي كأنه الرعد، والمشاهد في كلتا الحالتين مغيظ حانق يسب التمثيل ويشكو الممثلين إذ لم يتبين شيئاً من أغراض المؤلف ومراميه وسط هذا الخليط المتنافر من أصوات الممثلين. وإني لأقترح على مديري هذه الفرق ورؤسائها اقتراحاً متواضعاً، لا أقصد به الإساءة إلى فنهم وواسع علمهم، أن يتذاكروا مع ممثليهم وممثلاتهم هذه الكلمة التي قالها شكسبير في القرن السادس عشر، ينصح بها الممثلين بعد أن هاله سوء إلقائهم وقبيح حركاتهم، وهي والله جديرة بأن تكون دستوراً لممثلينا في القرن العشرين يعملون بها ويسيرون بقانونها، قال شكسبير:
“لتكن ألسنتكم لبقة فصيحة، أما إذا تشبهتم بهؤلاء المتهوسين ولفظتم لفظهم، فإني لأود أن يتولى المنادون في الأسواق إلقاء كلماتي. ما ليدكم كالمنشار تعلو وتهبط. قللوا من إشارتكم وتلطفوا، فإنه جدير بكم أن تكونوا على شيء من الاعتدال حتى في أقصى مواقف الطرب. أسوأ ما يسؤني رؤية ممثل يرفع عقيرته بأنكر الأصوات وأقبحها، يمزق العاطفة التي يمثلها ويمزق آذان المشاهدين وما هؤلاء المشاهدين بفاهمين. تجنبوا الصراخ وتحريك الأيدي. وليكن تميزكم رائدكم، كيفوا الإشارة على مقتضى الكلمة، والكلام على مقتضى الإشارة .. إياكم أن تبعدوا عن الطبيعي المألوف؛ فإن الغرض من التمثيل تصوير الطبيعة على حقيقتها؛ كأنك تنظر إليها بمرارة فترى من الفضيلة مكوناتها ومن الرذيلة صورتها. إن خالفتم ذلك فقد يضحك لكم الأحمق أما العاقل فيستاء ويغضب”.
أليس في هذه الكلمات كلها ما ينطبق على حالتنا نحن، وأليس من نكد الدنيا أن ينصح شكسبير ممثليه منذ أربعمائة عام أو تزيد بهذه النصائح، ثم نقرأها نحن في القرن العشرين، فترانا أحوج الناس إليها، وأننا مع ذلك لا نعرفها، وإذا عرفناها فلا نعمل بها!! وبعد، فهذه كلمة أقولها عن بعض عيوب الإلقاء في مسارحنا، أرجو أن يفسح لها إخواننا الممثلون صدورهم، وأن يذكروا دائماً إنهم بدأونا بالعدوان بلا ذنب ولا جريرة .. [توقيع] طالب بالمعهد الملغي.


سيد علي إسماعيل